فصل: تفسير الآيات (84- 90):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآيات (84- 90):

{وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84) وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85) وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (87) لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89) وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90)}
{وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} الآية. قال أهل التفسير: بعث عبد الله بن أُبَيّ بن سلول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مريض، فلما دخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له أهلككَ حبُّ اليهود؟ فقال: يا رسول الله إني لم أبعث إليك لتؤنبني، إنما بعثت إليك لتستغفر لي، وسأله أن يكفنه في قميصه ويصلي عليه.
أخبرنا عبد الواحد المليحي، حدثنا أحمد بن عبد الله النعيمي، حدثنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا يحيى بن بكير، حدثني الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عباس، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم أنه قال: لما مات عبد الله بن أُبَيّ بن سلول دُعِيَ له رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وَثَبْتُ إليه، فقلت: يا رسول الله أتصلي على ابن أُبَيّ بن سلول وقد قال يوم كذا وكذا كذا وكذا؟ أعدِّد عليه قوله، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «أخِّر عني يا عمر» فلما أكثرتُ عليه قال: إني خُيّرتُ فاخترتُ، لو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها، قال: فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم انصرف فلم يمكث إلا يسيرًا حتى نزلت الآيتان من براءة: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} إلى قوله: {وَهُمْ فَاسِقُونَ} قال: فعجبت بعد من جرأتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ، والله ورسوله أعلم.
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، حدثنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنبأنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان قال عمرو: سمعت جابر بن عبد الله قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي بعدما أدخل في حفرته فأمر به فأخرج فوضعه على ركبتيه ونفث في فيه من ريقه وألبسه قميصه. فالله أعلم وكان كسا عباسا قميصا.
قال سفيان: وقال هارون: وكان على رسول الله صلى الله عليه وسلم قميصان فقال ابن عبد الله: يا رسول الله ألبس أبي قميصك الذي يلي جلدك.
وروي عن جابر قال: لما كان يوم بدر أتى بالعباس ولم يكن عليه ثوب فوجدوا قميص عبد الله بن أبي يقدر عليه، فكساه النبي صلى الله عليه وسلم إياه، فلذلك نزع النبي صلى الله عليه وسلم قميصه الذي ألبسه عبد الله. قال ابن عيينة: كانت له عند النبي صلى الله عليه وسلم يد فأحب أن يكافئه.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كُلِّم فيما فعل بعبد الله بن أبي فقال صلى الله عليه وسلم: «وما يغني عنه قميصي وصلاتي من الله شيئا والله إني كنت أرجو أن يُسلم به ألف من قومه»، ورُوي أنه أسلم به ألف من قومه لما رأوه يتبرك بقميص النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} ولا تقف عليه، ولا تتولَّ دفنه، من قولهم: قام فلان بأمر فلان: إذا كفاه أمره. {إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} فما صلى النبي صلى الله عليه وسلم بعدها على منافق ولا قام على قبره حتى قُبض.
قوله تعالى: {ولا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون}.
{وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْل منهم} ذوو الغنى والسَّعة منهم في القعود، {وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ} في رحالهم.
{رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ} يعني النساء. وقيل: مع أدنياء الناس وسفلتهم. يقال: فلان خَالِفَةُ قومه إذا كان دونهم. {وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ}.
{لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ} يعني: الحسنات، وقيل: الجواري الحسان في الجنة. قال الله تعالى: {فيهن خيرات حسان}، جمع خَيْرَة وحُكِيَ عن ابن عباس: أنَّ الخير لا يعلم معناه إلا الله كما قال جل ذكره: {فلا تعلم نفسٌ ما أُخْفِيَ لهم من قُرةِ أعين} [السجدة- 17]. {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
قوله تعالى: {وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ} الآية، قرأ يعقوب ومجاهد: {الْمُعَذِّرُونَ} بالتخفيف وهم المبالغون في العذر، يقال في المَثَل: «لقد أُعذر من أنذر» أي: بالغ في العذر مَنْ قدم النذارة، وقرأ الآخرون {المعذِّرون} بالتشديد أي: المقصرون، يقال: عَذَّرَ أي: قصَّر، وقال الفراء: المعذرون المعتذرون أدغمت التاء في الذال ونقلت حركة التاء إلى العين.
وقال الضحاك: المعذرون هم رهط عامر بن الطفيل جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم دفاعا عن أنفسهم فقالوا: يا نبي الله إن نحن غزونا معك تُغير أعراب طيء على حلائلنا وأولادنا ومواشينا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قد أنبأني الله من أخباركم وسيغني الله عنكم».
وقال ابن عباس: هم الذين تخلفوا بعذر بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} يعني: المنافقين.
قال أبو عمرو بن العلاء: كلا الفريقين كان مسيئا قوم تكلفوا عذرا بالباطل، وهم الذين عناهم الله تعالى بقوله: {وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ} وقوم تخلفوا عن غير تكلف عذر فقعدوا جرأة على الله تعالى، وهم المنافقون فأوعدهم الله بقوله: {سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.

.تفسير الآيات (91- 92):

{لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92)}
ثم ذكر أهل العذر، فقال جل ذكره: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ} قال ابن عباس: يعني الزمنى والمشايخ والعجزة. وقيل: هم الصبيان وقيل: النسوان، {وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ} يعني الفقراء {حَرَجٌ} مأثم. وقيل: ضيق في القعود عن الغزو، {إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} في مغيبهم وأخلصوا الإيمان والعمل لله وبايعوا الرسول. {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} أي: من طريق بالعقوبة، {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
قال قتادة: نزلت في عائذ بن عمرو وأصحابه.
وقال الضحاك: نزلت في عبد الله بن أم مكتوم وكان ضرير البصر.
قوله تعالى: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ} معناه: أنه لا سبيل على الأولين ولا على هؤلاء الذين أتوك وهم سبعة نفر سُمُّوا البكائين: معقل بن يسار، وصخر بن خنساء، وعبد الله بن كعب الأنصاري، وعُلْبَة بن زيد الأنصاري، وسالم بن عمير، وثعلبة بن غنمة وعبد الله بن مُغَفَّل المزني، أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله إن الله قد ندبنا إلى الخروج معك فاحملنا.
واختلفوا في قوله: {لِتَحْمِلَهُم} قال ابن عباس: سألوه أن يحملهم على الدواب.
وقيل سألوه أن يحملهم على الخفاف المرفوعة والنعال المخصوفة، ليغزوا معه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا أجد ما أحملكم عليه» تولوا، وهم يبكون، فذلك قوله تعالى: {تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ}.

.تفسير الآيات (93- 96):

{إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (93) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94) سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96)}
{إِنَّمَا السَّبِيلُ} بالعقوبة، {عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ} في التخلف {وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ} مع النساء والصبيان، {وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ}.
{يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ} يروى أن المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك كانوا بضعة وثمانين نفرا، فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم جاؤوا يعتذرون بالباطل. قال الله تعالى: {قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ} لن نصدقكم، {قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ} فيما سلف، {وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} في المستأنف أتتوبون من نفاقكم أم تقيمون عليه؟ {ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}.
{سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ} إذا انصرفتم إليهم من غزوكم، {لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ} لتصفحوا عنهم ولا تؤنبوهم، {فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ} فدعوهم وما اختاروا لأنفسهم من النفاق، {إِنَّهُمْ رِجْسٌ} نجس أي: إن عملهم قبيح، {وَمَأْوَاهُم} في الآخرة، {جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}.
قال ابن عباس: نزلت في جد بن قيس ومعتب بن قشير وأصحابهما وكانوا ثمانين رجلا من المنافقين. فقال النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة: «لا تجالسوهم ولا تكلموهم».
وقال مقاتل: نزلت في عبد الله بن أبي حلف للنبي صلى الله عليه وسلم بالله الذي لا إله إلا هو لا يتخلف عنه بعدها، وطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يرضى عنه، فأنزل الله عز وجل هذه الآية، ونزل: {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ}.

.تفسير الآيات (97- 99):

{الأعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الأعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) وَمِنَ الأعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99)}
{الأعْرَابُ} أي: أهل البدو، {أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا} من أهل الحضر، {وَأَجْدَرُ} أخلق وأحرى، {أَلا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} وذلك لبعدهم عن سماع القرآن ومعرفة السنن، {وَاللَّهُ عَلِيمٌ} بما في قلوب خلقه {حَكِيمٌ} فيما فرض من فرائضه.
{وَمِنَ الأعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا} قال عطاء: لا يرجو على إعطائه ثوابا، ولا يخاف على إمساكه عقابا، إنما ينفق خوفا أو رياء والمغرم التزام ما لا يلزم. {وَيَتَرَبَّصُ} وينتظر {بِكُمُ الدَّوَائِرَ} يعني: صروف الزمان، التي تأتي مرة بالخير ومرة بالشر. وقال يمان بن رئاب: يعني ينقلب الزمان عليكم فيموت الرسول ويظهر المشركون، {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} عليهم يدور البلاء والحزن. ولا يرون في محمد ودينه إلا ما يسوءهم.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: {دَائِرَةُ السَّوْءِ} هاهنا وفي سورة الفتح، بضم السين، معناه: الضر والبلاء والمكروه. وقرأ الآخرون بفتح السين على المصدر. وقيل: بالفتح الردة والفساد، وبالضم الضر والمكروه.
{وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} نزلت في أعراب أسد وغطفان وتميم. ثم استثنى فقال: {وَمِنَ الأعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} قال مجاهد: هم بنو مُقَرِّن من مزينة. وقال الكلبي: أسلم وغفار وجهينة.
أخبرنا أبو سعيد عبد الله بن أحمد الطاهري، أنبأنا جدي عبد الصمد بن عبد الرحمن البزار، أنبأنا أبو بكر محمد بن زكريا العذافري، أنبأنا إسحاق بن إبراهيم الدَّبَرِيُّ، أنبأنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أسلمُ وغِفَارٌ وشيءٌ من جُهَيْنَةَ ومُزَيْنَةَ خيرٌ عند الله يوم القيامة من تَميمٍ وأسدِ بن خُزَيْمَةَ وهَوَازِنَ وغَطَفَانَ».
{وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ} القربات جمع القربة، أي: يطلب القربة إلى الله تعالى، {وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ} أي: دعاءه واستغفاره، قال عطاء: يرغبون في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم. {أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ} قرأ نافع برواية ورش {قُرُبة} بضم الراء، والباقون بسكونها. {سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ} في جنته، {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.

.تفسير الآية رقم (100):

{وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)}
{وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ} الآية. قرأ يعقوب بالرفع عطفا على قوله: {والسابقون}.
واختلفوا في السابقين الأولين، قال سعيد بن المسيب، وقتادة، وابن سيرين وجماعة: هم الذين صلُّوا إلى القبلتين.
وقال عطاء بن أبي رباح: هم أهل بدر.
وقال الشعبي: هم الذين شهدوا بيعة الرضوان، وكانت بيعة الرضوان بالحديبية.
واختلفوا في أول من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد امرأته خديجة، مع اتفاقهم على أنها أول من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال بعضهم: أول من آمن وصلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهو قول جابر، وبه قال مجاهد وابن إسحاق، أسلم وهو ابن عشر سنين.
وقال بعضهم: أول من آمن بعد خديجة أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وهو قول ابن عباس وإبراهيم النخعي والشعبي.
وقال بعضهم: أول من أسلم زيد بن حارثة، وهو قول الزهري وعروة بن الزبير.
وكان إسحاق بن إبراهيم الحنظلي يجمع بين هذه الأقوال فيقول: أول من أسلم من الرجال أبو بكر رضي الله عنه، ومن النساء خديجة، ومن الصبيان علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومن العبيد زيد بن حارثة.
قال ابن إسحاق: فلما أسلم أبو بكر رضي الله عنه أظهر إسلامه ودعا إلى الله وإلى رسوله، وكان رجلا محببا سهلا وكان أنسب قريش وأعلمها بما كان فيها، وكان تاجرا ذا خُلقٍ ومعروف، وكان رجال قومه يأتونه ويألفونه لغير واحد من الأمر؛ لعلمه وحسن مجالسته، فجعل يدعو إلى الإسلام من وثق به من قومه، فأسلم على يديه- فيما بلغني-: عثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله، فجاء بهم إلى رسول صلى الله عليه وسلم حين استجابوا له فأسلموا وصلوا، فكان هؤلاء الثمانية النفر الذين سبقوا إلى الإسلام. ثم تتابع الناس في الدخول في الإسلام، أما السابقون من الأنصار: فهم الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة، وكانوا ستة في العقبة الأولى، وسبعين في الثانية، والذين آمنوا حين قدم عليهم مصعب بن عمير يعلمهم القرآن، فأسلم معه خلق كثير وجماعة من النساء والصبيان.
قوله عز وجل: {وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ} الذين هاجروا قومهم وعشيرتهم وفارقوا أوطانهم. {وَالأنْصَارِ} أي: ومن الأنصار، وهم الذين نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أعدائه من أهل المدينة وآووا أصحابه، {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} قيل: هم بقية المهاجرين والأنصار سوى السابقين الأولين.
وقيل: هم الذين سلكوا سبيلهم في الإيمان والهجرة أو النصرة إلى يوم القيامة.
وقال عطاء: هم الذين يذكرون المهاجرين والأنصار بالترحم والدعاء.
وقال أبو صخر حميد بن زياد: أتيت محمد بن كعب القرظي فقلت له: ما قولك في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة محسنهم ومسيئهم، فقلت من أين تقول هذا؟ فقال: يا هذا اقرأ قول الله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ} إلى أن قال: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} وقال: {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} شرط في التابعين شريطة وهي أن يتبعوهم في أفعالهم الحسنة دون السيئة.
قال أبو صخر: فكأني لم أقرأ هذه الآية قط.
روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه».
ثم جمعهم الله عز وجل في الثواب فقال: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنْهَارُ} قرأ ابن كثير: {من تحتها الأنهار}، وكذلك هو في مصاحف أهل مكة، {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.