فصل: تفسير الآية رقم (101):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآية رقم (101):

{وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101)}
قوله تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأعْرَابِ مُنَافِقُونَ} وهم من مُزينة وجُهينة وأشجع وأسلم وغفار، كانت منازلهم حول المدينة، يقول: من هؤلاء الأعراب منافقون، {وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ} أي: ومن أهل المدينة من الأوس والخزرج قوم منافقون، {مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ} أي: مرنوا على النفاق، يقال: تمرد فلان على ربِّه أي: عتا، ومرد على معصيته، أي: مرن وثبت عليها واعتادها. ومنه: المريد والمارد. قال ابن إسحاق: لجوا فيه وأبوا غيره.
وقال ابن زيد: أقاموا عليه ولم يتوبوا.
{لا تَعْلَمُهُمْ} أنت يا محمد، {نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ} اختلفوا في هذين العذابين.
قال الكلبي والسدي: قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيبا يوم الجمعة فقال: «اخرج يا فلان فإنك منافق اخرج يا فلان. أخرج ناسا من المسجد وفضحهم، فهذا هو العذاب الأول. والثاني: عذاب القبر».
وقال مجاهد: الأول: القتل والسبي، والثاني: عذاب القبر. وعنه رواية أخرى: عُذِّبُوا بالجوع مرتين.
وقال قتادة: الدُّبَيْلة في الدنيا وعذاب القبر.
وقال ابن زيد: الأولى المصائب في الأموال والأولاد في الدنيا، والأخرى عذاب الآخرة.
وعن ابن عباس: الأولى إقامة الحدود عليهم، والأخرى عذاب القبر.
وقال ابن إسحاق: هو ما يدخل عليهم من غيظ الإسلام ودخولهم فيه من غير حسبة ثم عذاب القبر.
وقيل: إحداهما ضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم عند قبض أرواحهم، والأخرى عذاب القبر.
وقيل: الأولى إحراق مسجدهم، مسجد الضرار، والأخرى إحراقهم بنار جهنم. {ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} أي: إلى عذاب جهنم يخلدون فيه.

.تفسير الآية رقم (102):

{وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102)}
قوله تعالى: {وَآخَرُونَ} أي: ومن أهل المدينة، أو: من الأعراب آخرون، ولا يرجع هذا إلى المنافقين، {اعْتَرَفُوا} أقرُّوا، {بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلا صَالِحًا} وهو إقرارهم بذنوبهم وتوبتهم {وَآخَرَ سَيِّئًا} أي: بعمل آخر سيئ، وضع الواو موضع الباء، كما يقال: خلطت الماء واللبن، أي: باللبن.
والعمل السيئ: هو تخلُّفهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والعمل الصالح: هو ندامتهم وربطهم أنفسهم بالسواري وقيل: غزواتهم مع النبي صلى الله عليه وسلم.
{عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} نزلت هذه الآية في قوم تخلَّفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، ثم ندموا على ذلك، وقالوا: نكون في الظلال مع النساء، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الجهاد واللأواء! فلما قرب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة قالوا والله لَنُوثِقَنَّ أنفسنا بالسواري فلا نُطلقها حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يطلقها، ويعذرنا، فأوثقوا أنفسهم بسواري المسجد فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ بهم فرآهم فقال: مَنْ هؤلاء؟ فقالوا: هؤلاء الذين تخلفوا عنك فعاهدوا الله عز وجل أن لا يُطلقوا أنفسهم حتى تكون أنت تطلقهم وترضى عنهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأنا أقسم بالله لا أُطْلِقهم ولا أعذرهم حتى أومر بإطلاقهم، رغبوا عني وتَخَلَّفوا عن الغزو مع المسلمين! فأنزل الله هذه الآية فأرسل إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطلقهم وعذرهم، فلما أطلقوا قالوا: يا رسول الله هذه أموالنا التي خَلَّفَتْنا عنك فتصدق بها وطَهِّرْنَا واستغفر لنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا»، فأنزل الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} الآية.
واختلفوا في أعداد هؤلاء التائبين، فروي عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: كانوا عشرة منهم أبو لبابة. وروى عطية عنه: أنهم كانوا خمسة أحدهم أبو لبابة. وقال سعيد بن جبير وزيد بن أسلم: كانوا ثمانية. وقال الضحاك وقتادة: كانوا سبعة. وقالوا جميعا: أحدهم أبو لبابة.
وقال قوم: نزلت في أبي لبابة خاصة. واختلفوا في ذنبه، قال مجاهد: نزلت في أبي لبابة حين قال لقريظة: إن نزلتم على حكمه فهو الذبح وأشار إلى حلقه.
وقال الزهري: نزلت في تخلفه عن غزوة تبوك فربط نفسه بسارية، وقال: والله لا أحلُّ نفسي ولا أذوق طعاما ولا شرابا، حتى أموت أو يتوب الله علي! فمكث سبعة أيام لا يذوق طعاما ولا شرابا حتى خر مغشيا عليه، فأنزل الله تعالى هذه الآية، فقيل له: قد تِيْبَ عليك!، فقال: والله لا أحلُّ نفسي حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يحلني، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فحله بيده، ثم قال أبو لبابة: يا رسول الله إن من توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب، وأن أنخلع من مالي كله صدقة إلى الله وإلى رسوله، قال: يجزيك يا أبا لبابة الثلث.
قالوا جميعا: فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلث أموالهم، وترك الثلثين، لأن الله تعالى قال: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} ولم يقل: خذ أموالهم. قال الحسن وقتادة: هؤلاء سوى الثلاثة الذين خلفوا.

.تفسير الآية رقم (103):

{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)}
قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} بها من ذنوبهم، {وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} أي: ترفعهم من منازل المنافقين إلى منازل المخلصين. وقيل: تنمي أموالهم {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} أي: ادع لهم واستغفر لهم. وقيل: هو قول الساعي للمصدق إذا أخذ الصدقة منه: آجرك الله فيما أعطيت وبارك لك فيما أبقيت. والصلاة في اللغة: الدعاء. {إِنَّ صَلاتَكَ} قرأ حمزة والكسائي: {صلاتك} على التوحيد؛ ونصب التاء هاهنا وفي سورة هود {أصلاتك} وفي سورة المؤمنين {على صلاتهم} كلهن على التوحيد وافقهما حفص هاهنا وفي سورة هود. وقرأ الآخرون بالجمع فيهن ويكسرون التاء ها هنا.
{سَكَنٌ لَهُمْ} أي: إن دعاءك رحمة لهم. قاله ابن عباس. وقيل: طمأنينة لهم، وسكون لهم، أن الله عز وجل قد قَبِلَ منهم. وقال أبو عبيدة: تثبيتٌ لقلوبهم. {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.
واختلفوا في وجوب الدعاء على الإمام عند أخذ الصدقة: قال بعضهم: يجب. وقال بعضهم: يُستحب. وقال بعضهم: يجب في صدقة الفرض ويستحب في صدقة التطوع. وقيل: يجب على الإمام، ويستحب للفقير أن يدعو للمعطي.
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا آدم بن أبي إياس، حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة قال: سمعت عبد الله بن أبي أوْفَى- وكان من أصحاب الشجرة- قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوْمُه بصدقة قال: «اللهم صلِّ عليهم»، فأتاه أبي بصدقته فقال: «اللهم صلِّ على آل أبي أوفى».
وقال ابن كيسان: ليس هذا في صدقة الفرض إنما هو في صدقة كفارة اليمين.
وقال عكرمة: هي صدقة الفرض، فلما نزلت توبة هؤلاء قال الذين لم يتوبوا من المتخلّفين: هؤلاء كانوا معنا بالأمس لا يُكَلَّمُونَ ولا يُجَالَسُون، فما لهم؟

.تفسير الآيات (104- 106):

{أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106)}
فقال تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ} أي: يقبلها، {وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}.
أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب الأصم، أنبأنا الربيع بن سليمان، أنبأنا الشافعي، أنبأنا سفيان بن عيينة، عن ابن عجلان، عن سعيد بن يسار عن أبي هريرة رضي الله عنه. قال: سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول: «والذي نفسي بيده ما من عبد يتصدق بصدقة من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا طيبا ولا يصعد إلى السماء إلا طيب إلا كأنما يضعها في يد الرحمن عز وجل فيربيها له كما يربي أحدكم فَلُوَّه، حتى إن اللقمة لتأتي يوم القيامة وإنها لمثل الجبل العظيم»، ثم قرأ: {أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ}.
قوله تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} قال مجاهد: هذا وعيد لهم. قيل: رؤية النبي صلى الله عليه وسلم بإعلام الله تعالى إياه، ورؤية المؤمنين بإيقاع المحبة في قلوبهم لأهل الصلاح، والبغضة لأهل الفساد.
قوله تعالى: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} قرأ أهل المدينة والكوفة غير أبي بكر: {مرجون} بغير همز، والآخرون: بالهمز، والإرجاء: التأخير، مرجون: مؤخرون. لأمر الله: لحكم الله عز وجل فيهم، وهم الثلاثة الذين تأتي قصتهم من بعدُ: كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع، لم يبالغوا في التوبة والاعتذار كما فعل أبو لبابة، فوقفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسين ليلة ونهى الناس عن مكالمتهم ومخالطتهم، حتى شقَّهم القلق وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وكانوا من أهل بدر فجعل أناس يقولون: هلكوا، وآخرون يقولون: عسى الله أن يغفر لهم، فصاروا مُرْجَئِيْنَ لأمر الله لا يدرون أيعذبهم أم يرحمهم، حتى نزلت توبتهم بعد خمسين ليلة.

.تفسير الآية رقم (107):

{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107)}
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا} قرأ: أهل المدينة والشام {الذين} بلا واو، وكذلك هو في مصاحفهم، وقرأ الآخرون: {والذين} بالواو. {مَسْجِدًا ضِرَارًا} نزلت هذه الآية في جماعة من المنافقين، بنوا مسجدا يضارُّون به مسجد قباء، وكانوا اثني عشر رجلا من أهل النفاق: وديعة بن ثابت، وجذام بن خالد، ومن داره أُخْرِج هذا المسجد، وثعلبة بن حاطب، وجارية بن عامر، وابناه مجمع وزيد، ومعتب بن قشير، وعباد بن حنيف أخو سهل بن حنيف، وأبو حبيبة بن الأزعر، ونبتل بن الحارث، وبجاد بن عثمان، ورجل يقال له: بَحْزَج، بنوا هذا المسجد ضرارا، يعني: مضارة للمؤمنين، {وَكُفْرًا} بالله ورسوله، {وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ}؛ لأنهم كانوا جميعا يصلون في مسجد قباء، فبنوا مسجد الضرار، ليصلي فيه بعضهم، فيؤدي ذلك إلى الاختلاف وافتراق الكلمة، وكان يصلي بهم مجمع بن جارية.
فلما فرغوا من بنائه أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتجهز إلى تبوك فقالوا: يا رسول الله إنا قد بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة، والليلة المطيرة والليلة الشاتية، وإنَّا نحب أن تأتينا وتصلي بنا فيه وتدعوا لنا بالبركة، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني على جناح سفر، ولو قدمنا إن شاء الله أتيناكم فصلينا لكم فيه».
{وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ} أي: انتظارًا وإعدادًا لمن حارب الله ورسوله. يقال: أرصدت له: إذا أعددت له. وهو أبو عامر الراهب وكان أبو عامر هذا رجلا منهم، وهو أبو حنظلة غسيل الملائكة، وكان قد ترهَّب في الجاهلية وتنصَّر ولبس المُسوح، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة قال له أبو عامر: ما هذا الذي جئت به؟ قال: جئت بالحنيفية دين إبراهيم، قال أبو عامر: فإنا عليها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنك لست عليها»، قال: بلى ولكنك أدخلت في الحنيفية ما ليس منها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما فعلت ولكنّي جئت بها بيضاء نقية»، فقال أبو عامر: أمات اللهُ الكاذبَ منا طريدا وحيدا غريبا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «آمين». وسماه أبا عامر الفاسق.
فلما كان يوم أحد قال أبو عامر لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لا أجد قوما يقاتلونك إلا قاتلتك معهم، فلم يزل يقاتله إلى يوم حُنين، فلما انهزمت هوازن يئس وخرج هاربا إلى الشام فأرسل إلى المنافقين أنِ استعدوا بما استطعتم من قوة ومن سلاح، وابنوا لي مسجدا فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم فآتٍ بجند من الروم، فأُخْرِج محمدا وأصحابه، فبنوا مسجد الضرار إلى جنب مسجد قباء، فذلك قوله تعالى: {وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} وهو أبو عامر الفاسق، ليصلي فيه إذا رجع من الشام.
قوله: {مِنْ قَبْلُ} يرجع إلى أبي عامر يعني حارب الله ورسوله من قبل أي: من قبل بناء مسجد الضرار.
{وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا} ما أردنا ببنائه، {إِلا الْحُسْنَى} إلا الفعلة الحسنى وهو الرفق بالمسلمين والتوسعة على أهل الضعف والعجز عن المسير إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} في قيلهم وحلفهم. روي لما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك ونزل بذي أوَان موضع قريب من المدينة أتوه فسألوه إتيان مسجدهم فدعا بقميصه ليلبسه ويأتيهم، فنزل عليه القرآن وأخبره الله تعالى خبر مسجد الضرار وما همُّوا به، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك بن الدُّخْشُم، ومعن بن عدي، وعامر بن السكن، ووحشيا قاتل حمزة، وقال لهم: انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهلُه فاهدموه واحرقوه، فخرجوا سريعا حتى أتوا بني سالم بن عوف، وهم رهط مالك بن الدُّخْشُم، فقال مالك: أنظروني حتى أخرج إليكم بنار من أهلي، فدخل أهله فأخذ سعفا من النخل فأشعل فيه نارا، ثم خرجوا يشتدُّون، حتى دخلوا المسجد وفيه أهله، فحرَّقوه وهدموه، وتفرق عنه أهله، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخذ ذلك كناسة تلقى فيه الجِيَف والنتن والقمامة. ومات أبو عامر الراهب بالشام وحيدا فريدا غريبا.
وروي أن بني عمرو بن عوف، الذين بنوا مسجد قباء، أتوا عمر بن الخطاب في خلافته ليأذن لمجمع بن حارثة فيؤمهم في مسجدهم، فقال: لا ولا نعمة عين، أليس بإمام مسجد الضرار؟ فقال له مجمع: يا أمير المؤمنين: لا تعجل عليَّ، فوالله لقد صلَّيت فيه وإني لا أعلم ما أضمروا عليه، ولو علمتُ ما صلَّيت معهم فيه، كنت غلاما قارئا للقرآن، وكانوا شيوخا لا يقرؤون القرآن فصلَّيت ولا أحسب إلا أنهم يتقربون إلى الله تعالى، ولم أعلم ما في أنفسهم، فعذره عمر وَصدَّقه وأمره بالصلاة في مسجد قباء.
وقال عطاء: لما فتح الله على عمر الأمصار أمر المسلمين أن يبنوا المساجد، وأمرهم أن لا يبنوا في مدينتهم مسجدين يضار أحدهما صاحبه.