فصل: تفسير الآية رقم (108):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآية رقم (108):

{لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108)}
قوله تعالى: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا} قال ابن عباس: لا تصل فيه منع الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يصلي في مسجد الضرار. {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى} اللام لام الابتداء. وقيل: لام القسم، تقديره: والله لمسجد أسس، أي: بُني أصله على التقوى، {مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} أي: من أول يوم بني ووضع أساسه، {أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} مصليا.
واختلفوا في المسجد الذي أسس على التقوى: فقال ابن عمر، وزيد بن ثابت، وأبو سعيد الخدري: هو مسجد المدينة، مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، والدليل عليه:
ما أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر، أنبأنا عبد الغافر بن محمد، حدثنا محمد بن عيسى الجلودي، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، حدثنا مسلم بن الحجاج، حدثنا محمد بن حاتم، حدثنا يحيى بن سعيد، عن حميد الخراط قال: سمعت أبا سلمة عبد الرحمن قال: مَرَّ بي عبد الرحمن بن أبي سعيد، قال: فقلت له: كيف سمعت أباك يذكر في المسجد الذي أسس على التقوى؟ فقال: قال أبي: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت بعض نسائه فقلت: يا رسول الله أيُّ المسجدين الذي أسس على التقوى؟ قال: فأخذ كفًا من الحصباء فضرب به الأرض، ثم قال: هو مسجدكم هذا، مسجد المدينة، قال: فقلت: أشهد أني سمعت أباك هكذا يذكره.
وأخبرنا أبو الحسن الشَّيْرَزي أنبأنا زاهر بن أحمد، أنبأنا أبو إسحاق الهاشمي، أنبأنا أبو مصعب، عن مالك عن خُبيب بن عبد الرحمن، عن حفص بن عاصم، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة، ومنبري على حوضي».
وذهب قوم إلى أنه مسجد قباء، وهو رواية عطية عن ابن عباس، وهو قول عروة بن الزبير وسعيد بن جبير وقتادة: أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا عبد العزيز بن مسلم، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي مسجد قباء كلَّ سبت ماشيا وراكبا، وكان عبد الله بن عمر يفعله.
وزاد نافع عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيصلي فيه ركعتين.
قوله تعالى: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} من الأحداث والجنابات والنجاسات. وقال عطاء: كانوا يستنجون بالماء ولا ينامون بالليل على الجنابة.
أخبرنا أبو طاهر عمر بن عبد العزيز القاشاني، أنبأنا أبو عمر القاسم بن جعفر بن عبد الواحد الهاشمي، أنبأنا أبو علي محمد بن أحمد بن عمرو اللؤلؤي، حدثنا أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني، أخبرنا محمد بن العلاء، حدثنا معاوية بن هشام، عن يونس بن الحارث، عن إبراهيم بن أبي ميمونة، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «نزلت هذه الآية في أهل قباء»: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} قال: «كانوا يستنجون بالماء فنزلت فيهم هذه الآية». {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} أي المتطهرين.

.تفسير الآية رقم (109):

{أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109)}
{أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ} قرأ نافع وابن عامر {أُسِّسَ} بضم الهمزة وكسر السين، {بنيانُه} برفع النون فيهما جميعا على غير تسمية الفاعل. وقرأ الآخرون {أَسَّسَ} فتح الهمزة والسين، {بنيانَه}: بنصب النون، على تسمية الفاعل. {عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ} أي: على طلب التقوى ورضا الله تعالى خير {أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا} على شفير، {جُرُفٍ} قرأ أبو عمرو وحمزة وأبو بكر {جُرْف} ساكنة الراء، وقرأ الباقون بضم الراء وهما لغتان، وهي البئر التي لم تُطْوَ. قال أبو عبيدة: هو الهوة وما يجرفه السيل من الأودية فينجرف بالماء فيبقى واهيا، {هَارٍ} أي: هائر وهو الساقط يقال: هار يهور فهو هائر، ثم يقلب فيقال: هار مثل شاك وشائك وعاق وعائق. وقيل: هو مِنْ يهار: إذا انهدم، ومعناه: الساقط الذي يتداعى بعضه في إثْر بعض، كما ينهار الرمل والشيء الرخو. {فَانْهَارَ بِهِ} أي: سقط بالباني {فِي نَارِ جَهَنَّمَ} يريد بناء هذا المسجد الضرار كالبناء على شفير جهنم فيهور بأهلها فيها. قال ابن عباس رضي الله عنهما: يريد صيَّرهم النفاقُ إلى النار.
{وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} قال قتادة: والله ما تناهى أن وقع في النار، وذكر لنا أنه حفرت بقعة فيه، فرُئي الدخان يخرج منها. وقال جابر بن عبد الله: رأيت الدخان يخرج من مسجد الضرار.

.تفسير الآيات (110- 111):

{لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110) إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)}
{لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً} أي: شكًّا ونفاقا، {فِي قُلُوبِهِمْ} يحسبون أنهم كانوا في بنيانه محسنين كما حُبب العجل إلى قوم موسى. قاله ابن عباس رضي الله عنهما. وقال الكلبي: حسرة وندامة لأنهم ندموا على بنائه. وقال السدي: لا يزال هدم بنائهم ريبة وحزازة وغيظا في قلوبهم.
{إِلا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} أي: تتصدَّع قلوبهم فيموتوا. قرأ ابن عامر، وأبو جعفر، وحمزة، وحفص: {تَقطّع} بفتح التاء أي: تتقطع. والآخرون بضمها. وقرأ يعقوب وحده: {إلى أن} خفيف، على الغاية، {تُقطع} بضم التاء، خفيف، من القطع يدل عليه تفسير الضحاك وقتادة: لا يزالون في شك منه إلى أن يموتوا فيستيقنوا. {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}.
قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} الآية. قال محمد بن كعب القرظي: لما بايعتِ الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة بمكة وهم سبعون نفسا، قال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله اشترط لربك ولنفسك ما شئت.
فقال: أشترط لربي عز وجل: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأشترط لنفسي، أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم.
قالوا: فإذا فعلنا ذلك فما لنا؟
قال: الجنة، قالوا: رَبِحَ البيع لا نقيل ولا نستقيل فنزلت: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ}.
وقرأ الأعمش: {بالجنة}.
{يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} قرأ حمزة والكسائي: {فَيَقْتُلوُن} بتقديم المفعول على الفاعل بمعنى يقتل بعضهم بعضا، ويقتل الباقون. وقرأ الآخرون بتقديم الفاعل. {وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا} أي: ثواب الجنة لهم وعدٌ وحقٌ {فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ} يعني أن الله عز وجل وعدهم هذا الوعد، وبيَّنه في هذه الكتب. وقيل: فيه دليل على أن أهل الملل كلهم أُمروا بالجهاد على ثواب الجنة، ثم هَنَّأهم فقال: {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا} فافرحوا {بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} قال عمر رضي الله عنه: إن الله عز وجل بايعك وجعل الصفقتين لك.
وقال قتادة: ثَامَنَهُمُ الله عز وجل فأغْلَى لهم.
وقال الحسن: اسمعوا إلى بيعة ربيحة بايع الله بها كل مؤمن. وعنه أنه قال: إن الله أعطاك الدنيا فاشتر الجنة ببعضها.
ثم وصفهم فقال: {التَّائِبُونَ} قال الفراء: استؤنفت بالرفع لتمام الآية وانقطاع الكلام. وقال الزجاج: التائبون رفع للابتداء، وخبره مضمر. المعنى: التائبون- إلى آخر الآية- لهم الجنة أيضا. أي: من لم يجاهد غير معاند ولا قاصد لترك الجهاد، لأن بعض المسلمين يُجزي عن بعض في الجهاد، فمن كانت هذه صفته فله الجنة أيضا، وهذا أحسن، فكأنه وعد الجنة لجميع المؤمنين، كما قال: {وكلا وعد الله الحسنى} [النساء- 95]، فمن جعله تابعا للأول كان الوعد بالجنة خاصا للمجاهدين الموصوفين بهذه الصفة.

.تفسير الآية رقم (112):

{التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)}
قوله تعالى: {التَّائِبُونَ} أي: الذين تابوا من الشرك وبرئوا من النفاق، {الْعَابِدُونَ} المطيعون الذين أخلصوا العبادة لله عز وجل: {الْحَامِدُونَ} الذين يحمدون الله على كل حال في السراء والضراء.
وروينا عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أول من يُدْعى إلى الجنة يوم القيامة الذين يحمدون الله في السراء والضراء». {السَّائِحُونَ} قال ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما: هم الصائمون.
وقال سفيان بن عيينة: إنما سمي الصائم سائحا لتركه اللذات كلها من المطعم والمشرب والنكاح.
وقال عطاء: السائحون الغزاة المجاهدون في سبيل الله. روي عن عثمان بن مظعون، رضي الله عنه، أنه قال: يا رسول الله ائذن لي في السياحة، فقال: «إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله».
وقال عكرمة: السائحون هم طلبة العلم.
{الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ} يعني: المصلين، {الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} بالإيمان، {وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ} عن الشرك. وقيل: المعروف: السنة، والمنكر: البدعة. {وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ} القائمون بأوامر الله. وقال الحسن: أهل الوفاء ببيعة الله. {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}.

.تفسير الآية رقم (113):

{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113)}
{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} اختلفوا في سبب نزول هذه الآية.
قال قوم: سبب نزولها: ما أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا أبو اليمان، أنبأنا شعيب، عن الزهري، حدَّثني سعيد بن المسيب عن أبيه. قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجد عنده أبا جهل، وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة: فقال: أي عمِّ قل: لا إله إلا الله كلمة أحَاجّ لك بها عند الله. فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: أترغب عن مِلّةِ عبد المطلب؟ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعيدان بتلك المقالة، حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم: على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله لأستغفرن لك ما لم أُنْهَ عنك، فأنزل الله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} وأنزل في أبي طالب: {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء}.
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر، أنبأنا عبد الغافر بن محمد، أنبأنا محمد بن عيسى، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، حدثنا مسلم بن الحجاج، حدثني محمد بن حاتم بن ميمون، حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا يزيد بن كيسان، حدثني أبو حازم الأشجعي، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله لعمه: «قل لا إله إلا الله أشهدُ لك بها يوم القيامة» فقال: لولا أن تُعَيِّرني قريش، فيقولون: إنما حمله على ذلك الْجَزَعُ، لأقررت بها عينك. فأنزل الله عز وجل: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}.
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنبأنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل ثنا عبد الله بن يوسف حدثني الليث حدثني يزيد بن الهاد عن عبد الله بن خباب عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر عنده عمه فقال: «لعلّه تنفعه شفاعتي يوم القيامة، فيجعل في ضَحْضَاحٍ من النار يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه».
وقال أبو هريرة وبريدة: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة أتى قبر أمه آمنة فوقف عليه حتى حميت الشمس رجاء أن يؤذن له فيستغفر لها فنزلت: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} الآية.
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر، حدثنا عبد الغافر بن محمد، حدثنا محمد بن عيسى الجلودي، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، حدثنا مسلم بن الحجاج، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، أنبأنا محمد بن عبيد، عن يزيد بن كيسان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة قال: زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله فقال: «استأذنت ربي عز وجل في أن أستغفر لها فلم يؤذن لي واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي فزوروا القبور، فإنها تذكر الموت».

.تفسير الآية رقم (114):

{وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)}
قال قتادة قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لأستغفرن لأبي. كما استغفر إبراهيم لأبيه» فأنزل الله تعالى هذه الآية: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لما أنزل الله عز وجل خبرا عن إبراهيم عليه السلام قال لأبيه: {سلام عليك سأستغفر لك ربي} سمعت رجلا يستغفر لوالديه وهما مشركان، فقلت له: تستغفر لهما وهما مشركان؟ فقال: أو لم يستغفر إبراهيم لأبيه؟ فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فأنزل الله عز وجل: {قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم}، إلى قوله: {إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك} [الممتحنة- 4].
قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ} قال بعضهم: الهاء في إياه عائدة إلى إبراهيم عليه السلام. والوعد كان من أبيه، وذلك أن أباه كان وعده أن يسلم، فقال له إبراهيم: سأستغفر لك ربي يعني إذا أسلمتَ.
وقال بعضهم: الهاء راجعة إلى الأب، وذلك أن إبراهيم وعد أباه أن يستغفر له رجاء إسلامه. وهو قوله: {سأستغفر لك ربي}. يدل عليه قراءة الحسن: {وعدها أباه} بالباء الموحدة.
والدليل على أن الوعد من إبراهيم، وكان الاستغفار في حال شرك الأب، قوله تعالى: {قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم}، إلى أن قال: {إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك} [الممتحنة- 4] فصرح أن إبراهيم ليس بقدوة في هذا الاستغفار، وإنما استغفر له وهو مشرك لمكان الوعد رجاء أن يسلم.
{فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ} لموته على الكفر، {تَبَرَّأَ مِنْهُ} وقيل: فلما تبين له في الآخرة أنه عدو لله تبرأ منه أي: يتبرأ منه وذلك ما أخبرنا عبد الواحد المليحي، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنبأنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا إسماعيل بن عبد الله، حدثني أخي عبد الحميد عن ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يلقى إبراهيمُ أباه آزر يوم القيامة، وعلى وجه آزر قَتَرةٌ وغَبَرة، فيقول له إبراهيم: ألم أقل لك لا تَعْصِني؟! فيقول له أبوه: فاليوم لا أعصيك، فيقول إبراهيم عليه السلام: يا رب إنك وعدتني أن لا تُخْزِيَنِي يوم يُبْعثون، فأي خزي أخزى من أبي الأبعد؟ فيقول الله تعالى: إني حرمت الجنة على الكافرين. ثم يقال يا إبراهيم: ما تحت رجليك؟ فينظر فإذا هو بِذِبْحٍ مُلْتَطِخٍ فيؤْخذ بقوائمه فيلقى في النار» وفي رواية: يتبرأ منه يومئذ.
قوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ} اختلفوا في معنى الأواه، جاء في الحديث: «إن الأواه الخاشع المتضرع».
وقال عبد الله بن مسعود: الأواه الدَّعَّاء.
وعن ابن عباس قال: هو المؤمن التواب.
وقال الحسن وقتادة: الأواه الرحيم بعباد الله.
وقال مجاهد: الأواه الموقن.
وقال عكرمة: هو المستيقن بلغة الحبشة.
وقال كعب الأحبار: هو الذي يكثر التأوّه، وكان إبراهيم عليه السلام يكثر أن يقول: آهٍ من النار، قبل أن لا ينفع أهٍ.
وقيل: هو الذي يتأوه من الذنوب.
وقال عقبة بن عامر: الأواه الكثير الذكر لله تعالى.
وعن سعيد بن جبير قال: الأواه المسبِّح. وروي عنه: الأواه: المعلِّم للخير.
وقال النخعي: هو الفقيه.
وقال عطاء: هو الراجع عن كل ما يكره الله. وقال أيضا: هو الخائف من النار.
وقال أبو عبيدة: هو المتأوه شَفَقًا وفَرَقا المتضرع يقينًا. يريد أن يكون تضرعه يقينًا ولزوما للطاعة.
قال الزجاج: قد انتظم في قول أبي عبيدة أكثر ما قيل في الأواه.
وأصله: من التأوّهِ وهو أن يسمع للصدر صوت من تنفس الصعداء، والفعل منه أوه وتأوه، والحليم الصفوح عمن سبَّه أو ناله بالمكروه، كما قال لأبيه، عند وعيده، وقوله: {لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا سلام عليك سأستغفر لك ربي} [مريم- 46].
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: الحليم السيد.