فصل: سورة يونس:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.سورة يونس:

سورة يونس عليه الصلاة والسلام مكية إلا ثلاث آيات من قوله: {فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك} إلى آخرها.

.تفسير الآية رقم (1):

{الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1)}
{الر} و{المر} قرأ أهل الحجاز والشام وحفص: بفتح الراء فيهما. وقرأ الآخرون: بالإمالة. قال ابن عباس والضحاك: {الر} أنا الله أرى، و{المر} أنا الله أعلم وأرى.
وقال سعيد بن جبير {الر} و{حم} و{ن} حروف اسم الرحمن، وقد سبق الكلام في حروف التهجي.
{تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} أي: هذه، وأراد بالكتاب الحكيم القرآن. وقيل: أراد بها الآيات التي أنزلها من قبل ذلك، ولذلك قال: {تلك}، وتلك إشارة إلى غائب مؤنث، والحكيم: المحكم بالحلال والحرام، والحدود والأحكام، فعيل بمعنى مُفْعَل، بدليل قوله: {كتاب أحكمت آياته} [هود- 1].
وقيل: هو بمعنى الحاكم، فعيل بمعنى فاعل، دليله قوله عز وجل: {وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس} [البقرة- 213].
وقيل: هو بمعنى المحكوم، فعيل بمعنى المفعول. قال الحسن: حكم فيه بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وبالنهي عن الفحشاء والمنكر والبغي، وحكم فيه بالجنة لمن أطاعه وبالنار لمن عصاه.

.تفسير الآيات (2- 3):

{أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2) إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (3)}
قوله تعالى: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا} العجب: حالة تعتري الإنسان من رؤية شيء على خلاف العادة.
وسبب نزول الآية: أن الله عز وجل لما بعث محمدا صلى الله عليه وسلم رسولا قال المشركون: الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا. فقال تعالى: {أَكَانَ لِلنَّاسِ} يعني: أهل مكة، الألف فيه للتوبيخ، {عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ} يعني محمدا صلى الله عليه وسلم، {أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ} أي: أعلمهم مع التخويف، {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} واختلفوا فيه: قال ابن عباس: أجرا حسنا بما قدَّموا من أعمالهم. قال الضحاك: ثواب صدق. وقال الحسن: عمل صالح أسلفوه يقدمون عليه. وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أنه قال: هو السعادة في الذكر الأول. وقال زيد بن أسلم: هو شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم. وقال عطاء: مقام صدق لا زوال له، ولا بؤس فيه. وقيل: منزلة رفيعة.
وأضيف القدم إلى الصدق وهو نعته، كقولهم: مسجد الجامع، وحب الحصيد، وقال أبو عبيدة: كل سابق في خير أو شر فهو عند العرب قدم، يقال: لفلان قدم في الإسلام، وله عندي قدم صدق وقدم سوء، وهو يؤنث فيقال: قدم حسنة، وقدم صالحة. {قال الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ} قرأ نافع وأهل البصرة والشام: {لسحر} بغير ألف يعنون القرآن، وقرأ ابن كثير وأهل الكوفة: {لساحر} بالألف يعنون محمدا صلى الله عليه وسلم.
قوله عز وجل: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأمْرَ} يقضيه وحده، {مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} معناه: أن الشفعاء لا يشفعون إلا بإذنه، وهذا رد على النضر بن الحارث فإنه كان يقول: إذا كان يوم القيامة تشفعني اللات والعزى.
قوله تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ} يعني: الذي فعل هذه الأشياء ربكم لا رب لكم غيره، {فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} تتعظون.

.تفسير الآيات (4- 5):

{إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4) هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5)}
{إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا} صدقا لا خلف فيه. نصب على المصدر، أي: وعدكم وعدا حقا {إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} أي: يحييهم ابتداء ثم يميتهم ثم يحييهم، قراءة العامة: {إِنَّه} بكسر الألف على الاستئناف، وقرأ أبو جعفر {أنه} بالفتح على معنى بأنه {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ} بالعدل، {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ} ماء حار انتهى حره، {وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ}.
{هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً} بالنهار، {وَالْقَمَرَ نُورًا} بالليل. وقيل: جعل الشمس ذات ضياء، والقمر ذا نور، {وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ} أي: قدر له، يعني: هيأ له منازل لا يجاوزها ولا يقصر دونها، ولم يقل: قدرهما.
قيل: تقدير المنازل ينصرف إليهما غير أنه اكتفى بذكر أحدهما، كما قال: {والله ورسوله أحق أن يرضوه} [التوبة- 62].
وقيل: هو ينصرف إلى القمر خاصة لأن القمر يعرف به انقضاء الشهور والسنين، لا بالشمس.
ومنازل القمر ثمانية وعشرون منزلا وأسماؤها: الشرطين، والبطين، والثرياء، والدبران، والهقعة، والهنعة، والذراع، والنسر، والطوف، والجبهة، والزبرة، والصرفة، والعواء، والسماك، والغفر، والزباني، والإكليل، والقلب، والشولة، والنعايم، والبلدة، وسعد الذابح، وسعد بلع، وسعد السعود، وسعد الأخبية، وفرع الدلو المقدم، وفرع الدلو المؤخر، وبطن الحوت.
وهذه المنازل مقسومة على البروج، وهي اثنا عشر برجا: الحمل، والثور، والجوزاء، والسرطان، والأسد، والسنبلة، والميزان، والعقرب، والقوس، والجدي، والدلو، والحوت.
ولكل برج منزلان وثلث منزل، فينزل القمر كل ليلة منزلا منها، ويستتر ليلتين إن كان الشهر ثلاثين، وإن كان تسعا وعشرين فليلة واحدة، فيكون تلك المنازل ويكون مقام الشمس في كل منزلة ثلاثة عشر يوما، فيكون انقضاء السنة مع انقضائها.
قوله تعالى: {لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ} أي: قدر المنازل {لتعلموا عدد السنين} دخولها وانقضاءها، {والحساب} يعني: حساب الشهور والأيام والساعات. {مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ} ردّه إلى الخلق والتقدير، ولو ردّه إلى الأعيان المذكورة لقال: تلك. {إِلا بِالْحَقِّ} أي: لم يخلقه باطلا بل إظهارا لصنعه ودلالة على قدرته. {يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحفص ويعقوب: {يفصل} بالياء، لقوله: {ما خلق} وقرأ الباقون: {نفصل} بالنون على التعظيم.

.تفسير الآيات (6- 9):

{إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6) إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9)}
{إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ} يؤمنون.
{إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} أي: لا يخافون عقابنا ولا يرجون ثوابنا. والرجاء يكون بمعنى الخوف والطمع، {وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا} فاختاروها وعملوا لها، {وَاطْمَأَنُّوا بِهَا} سكنوا إليها. {وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ} أي: عن أدلتنا غافلون لا يعتبرون. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: عن آياتنا عن محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن غافلون معرضون.
{أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} من الكفر والتكذيب.
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} فيه إضمار، أي: يرشدهم ربهم بإيمانهم إلى جنة، {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأنْهَارُ} قال مجاهد: يهديهم على الصراط إلى الجنة، يجعل لهم نورًا يمشون به.
وقيل: {يهديهم} معناه يثيبهم ويجزيهم.
وقيل: معناه بإيمانهم يهديهم ربهم لدينه، أي: بتصديقهم هداهم {تجري من تحتهم الأنهار} أي: بين أيديهم، كقوله عز وجل: {قد جعل ربك تحتك سريا} [مريم- 24] لم يُرِدْ به أنه تحتها وهي قاعدة عليه، بل أراد بين يديها.
وقيل: تجري من تحتهم أي: بأمرهم، {فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ}.

.تفسير الآيات (10- 11):

{دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10) وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11)}
{دَعْوَاهُم} أي: قولهم وكلامهم. وقيل: دعاؤهم. {فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ} وهي كلمة تنزيه، تنزه الله من كل سوء. وروينا: «أن أهل الجنة يُلهمون الحمد والتسبيح، كما يُلهمون النَّفَسَ».
قال أهل التفسير: هذه الكلمة علامة بين أهل الجنة والخدم في الطعام، فإذا أرادوا الطعام قالوا: سبحانك اللهم، فأتوهم في الوقت بما يشتهون على الموائد، كل مائدة مِيلٌ في ميل، على كل مائدة سبعون ألف صَحْفَة، وفي كل صَحْفَة لون من الطعام لا يشبه بعضُها بعضًا، فإذا فرغوا من الطعام حمدوا الله، فذلك، قوله تعالى: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}.
قوله تعالى: {وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ} أي: يُحَيِّي بعضهم بعضا بالسلام. وقيل: تحية الملائكة لهم بالسلام.
وقيل: تأتيهم الملائكة من عند ربهم بالسلام.
{وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} يريد: يفتتحون كلامهم بالتسبيح، ويختمونه بالتحميد.
قوله عز وجل: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ} قال ابن عباس: هذا في قول الرجل عند الغضب لأهله وولده: لعنكم الله، ولا بارك فيكم. قال قتادة: هو دعاء الرجل على نفسه وأهله وماله بما يكره أن يستجاب. معناه: لو يعجل الله الناس إجابة دعائهم في الشر والمكروه استعجالهم بالخير، أي: كما يحبون استعجالهم بالخير، {لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} قرأ ابن عامر ويعقوب: {لقَضَى} بفتح القاف والضاد، {أَجَلَهُمْ} نصب، أي: لأهلك مَنْ دعا عليه وأماته. وقال الآخرون: {لقُضي} بضم القاف وكسر الضاد {أَجَلُهُمْ} رفع، أي: لفرغ من هلاكهم وماتوا جميعا.
وقيل: إنها نزلت في النضر بن الحارث حين قال: {اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء} الآية [الأنفال- 32] يدل عليه قوله عز وجل: {فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} لا يخافون البعث والحساب، {فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}.
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصلاحي، أخبرنا أبو الحسين علي بن محمد بن عبد الله بن بشران، حدثنا أبو علي إسماعيل بن محمد الصفار، أنبأنا أحمد بن منصور الزيادي، حدثنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر، عن همام بن منبِّه، أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم إني اتخذت عندك عهدا لن تُخْلِفَنِيهْ، فإنما أنا بشر فيصدر مني ما يصدر من البشر، فأي المؤمنين آذَيْتُه، أو شتمتُه، أو جلدتُه، أو لعنتُه فاجعلها له صلاةً وزكاةً وقربةً، تُقَرِّبه بها إليك يوم القيامة».

.تفسير الآيات (12- 13):

{وَإِذَا مَسَّ الإنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13)}
قوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الإنْسَانَ الضُّرُّ} الجَهْد والشدة، {دَعَانَا لِجَنْبِهِ} أي: على جنبه مضطجعا، {أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا} يريد في جميع حالاته، لأن الإنسان لا يعدو إحدى هذه الحالات. {فَلَمَّا كَشَفْنَا} دفعنا {عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ} أي استمر على طريقته الأولى قبل أن يصيبه الضر، ونسي ما كان فيه من الجهد والبلاء، كأنه لم يدعنا إلى ضر مسه أي: لم يطلب منا كشف ضُرّ مَسَّه. {كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ} المجاوزين الحد في الكفر والمعصية، {مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} من العصيان. قال ابن جريج: كذلك زيِّن للمسرفين ما كانوا يعملون من الدعاء عند البلاء وترك الشكر عند الرخاء. وقيل: معناه كما زَيّن لكم أعمالكم زَيّن للمسرفين الذين كانوا من قبلكم أعمالهم.
قوله عز وجل: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا} أشركوا، {وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ} أي: كما أهلكناهم بكفرهم، {نَجْزِي} نعاقب ونهلك، {الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} الكافرين بتكذيبهم محمدا صلى الله عليه وسلم، يُخَوّف كفار مكة بعذاب الأمم الخالية المكذبة.

.تفسير الآيات (14- 16):

{ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (16)}
{ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ} أي: خلفاء، {فِي الأرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ} أي: من بعد القرون التي أهلكناهم، {لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} وهو أعلم بهم. وروينا عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ألا إن هذه الدنيا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ وإن الله مستخلفكم فيها، فناظر كيف تعملون».
قوله عز وجل: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} قال قتادة: يعني مشركي مكة. وقال مقاتل هم خمسة نفر: عبد الله بن أمية المخزومي، والوليد بن المغيرة، ومكرز بن حفص، وعمرو بن عبد الله بن أبي قيس العامري، والعاص بن عامر بن هاشم. {قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} هم السابق ذكرهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن كنت تريد أن نؤمن بك {ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا} ليس فيه ترك عبادة اللات والعزى ومناة، وليس فيه عيبها، وإن لم ينزلها الله فقلْ أنت من عند نفسك، {أَوْ بَدِّلْهُ} فاجعل مكان آية عذاب آية رحمة، أو مكان حرام حلالا أو مكان حلال حراما، {قُل} لهم يا محمد، {مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي} من قِبَلِ نفسي {إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ} أي: ما أتبع إلا ما يوحي إليّ فيما آمركم به وأنهاكم عنه، {إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}.
{قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ} يعني: لو شاء الله ما أنزل القرآن عليّ. {وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ} أي: ولا أعلمكم الله. قرأ البزي عن ابن كثير: {ولأدراكم به} بالقصر به على الإيجاب، يريد: ولا علّمكم به من غير قراءتي عليكم. وقرأ ابن عباس: {ولا أنذرتُكم به} من الإنذار. {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا} حينا وهو أربعون سنة، {مِنْ قَبْلِهِ} من قبل نزول القرآن ولم آتكم بشيء. {أَفَلا تَعْقِلُونَ} أنه ليس من قِبَلي، ولبث النبي صلى الله عليه وسلم فيهم قبل الوحي أربعين سنة ثم أوحى الله إليه فأقام بمكة بعد الوحي ثلاث عشرة سنة، ثم هاجر فأقام بالمدينة عشر سنين وتوفي وهو ابن ثلاث وستين سنة.
وروى أنس: أنه أقام بمكة بعد الوحي عشر سنين وبالمدينة عشر سنين، وتوفي وهو ابن ستين سنة. والأول أشهر وأظهر.