فصل: تفسير الآيات (35- 36):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآيات (35- 36):

{قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمْ مَنْ لا يَهِدِّي إِلا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35) وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36)}
{قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي} يرشد، {إِلَى الْحَقِّ} فإذا قالوا: لا- ولابد لهم من ذلك- {قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ} أي إلى الحق.
{أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي} قرأ حمزة والكسائي: ساكنة الهاء، خفيفة الدال، وقرأ الآخرون: بتشديد الدال، ثم قرأ أبو جعفر، وقالون: بسكون الهاء، وأبو عمرو بِرَوْمِ الهاء بين الفتح والسكون، وقرأ حفص: بفتح الياء وكسر الهاء، وأبو بكر بكسرهما، والباقون بفتحهما، ومعناه: يهتدي- في جميعها- فمن خفَّف الدال، قال: يقال: هديته فهدى، أي: اهتدى، ومَنْ شدَّد الدال أدغم التاء في الدال، ثم أبو عمرو يروم على مذهبه في إيثار التخفيف، ومَنْ سكَّن الهاء تركها على حالتها كما فعل في {تعدوا} و{يخصمون} ومَنْ فتح الهاء نقل فتحة التاء المدغمة إلى الهاء، ومَنْ كسر الهاء فلالتقاء الساكنين، وقال الجزم يُحَرَّكُ إلى الكسر، ومن كسر الياء، مع الهاء أتبع الكسرةَ الكسرةَ.
قوله تعالى: {إِلا أَنْ يُهْدَى} معنى الآية: الله الذي يهدي إلى الحق أحق بالاتباع أم الصنم الذي لا يهتدي إلا أن يُهدَى؟.
فإن قيل: كيف قال: {إلا أن يُهْدى}، والصنم لا يتصور أن يهتدي ولا أن يُهْدَى؟.
قيل: معنى الهداية في حق الأصنام الانتقال، أي: أنها لا تنتقل من مكان إلى مكان إلا أن تُحمل وتُنقل، يتَبَيَّنُ به عجز الأصنام.
وجواب آخر وهو: أنَّ ذِكْرَ الهداية على وجه المجاز، وذلك أن المشركين لما اتخذوا الأصنام آلهة وأنزلوها منزلة مَنْ يسمع ويعقل عبّر عنها بما يُعبّر عمن يعلم ويعقل، ووُصِفَتْ بصفة مَنْ يعقل.
{فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} كيف تقضون حين زعمتم أن لله شريكا؟
قوله تعالى: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلا ظَنًّا} منهم، يقولون: إن الأصنام آلهة، وإنها تشفع لهم في الآخرة ظنا منهم، لم يَرِدْ به كتاب ولا رسول، وأراد بالأكثر: جميع من يقول ذلك، {إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} أي: لا يدفع عنهم من عذاب الله شيئا. وقيل: لا يقوم مقام العلم، {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ}.

.تفسير الآيات (37- 41):

{وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40) وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41)}
قوله تعالى: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ} قال الفراء: معناه: وما ينبغي لمثل هذا القرآن أن يُفْتَرى من دون الله، كقوله تعالى: {وما كان لنبي أن يغل} [آل عمران- 161].
وقيل: {أَنْ} بمعنى اللام، أي: وما كان هذا القرآن لِيُفْتَرَى من دون الله.
قوله: {وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} أي: بين يدي القرآن من التوراة والإنجيل.
وقيل: تصديق الذي بين يدي القرآن من القيامة والبعث، {وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ} تبيين ما في الكتاب من الحلال والحرام والفرائض والأحكام، {لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ}.
{أَمْ يَقُولُونَ} قال أبو عبيدة: {أم} بمعنى الواو، أي: ويقولون، {افْتَرَاه} اختلق محمد القرآن من قِبَلِ نفسه، {قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} شبه القرآن {وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ} ممن تعبدون، {مِنْ دُونِ اللَّهِ} ليعينوكم على ذلك، {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أن محمدا افتراه ثم قال: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ} يعني: القرآن، كذبوا به ولم يحيطوا بعلمه، {وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} أي: عاقبة ما وعد الله في القرآن، أنه يؤول إليه أمرهم من العقوبة، يريد: أنهم لم يعلموا ما يؤول إليه عاقبة أمرهم. {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أي: كما كذب هؤلاء الكفار بالقرآن كذلك كذَّب الذين من قبلهم من كفار الأمم الخالية، {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} آخر أمر المشركين بالهلاك.
{وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ} أي: من قومك مَنْ يؤمن بالقرآن، {وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ} لعلم الله السابق فيهم، {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ} الذين لا يؤمنون.
{وَإِنْ كَذَّبُوكَ} يا محمد، {فَقُلْ لِي عَمَلِي} وجزاؤه، {وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ} وجزاؤه، {أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} هذا كقوله تعالى: {لنا أعمالنا ولكم أعمالكم} [القصص- 55]، {لكم دينكم وليَ دين} [الكافرون- 6].
قال الكلبي ومقاتل: هذه الآية منسوخة بآية الجهاد.
ثم أخبر أن التوفيق للإيمان به لا بغيره:

.تفسير الآيات (42- 45):

{وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لا يَعْقِلُونَ (42) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لا يُبْصِرُونَ (43) إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45)}
فقال: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} بأسماعهم الظاهرة فلا ينفعهم، {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ} يريد: سمع القلب، {وَلَوْ كَانُوا لا يَعْقِلُونَ}.
{وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ} بأبصارهم الظاهرة، {أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ} يريد عمى القلب، {وَلَوْ كَانُوا لا يُبْصِرُونَ} وهذا تسلية من الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم يقول: إنك لا تقدر أن تسمع من سلبته السمع، ولا أن تهدي من سلبته البصر، ولا أن توفق للإيمان من حكمت عليه أن لا يؤمن.
{إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا} لأنه في جميع أفعاله متفضل عادل، {وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} بالكفر والمعصية.
قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ} قرأ حفص بالياء، والآخرون بالنون، {كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ} قال الضحاك: كأن لم يلبثوا في الدنيا إلا ساعة من النهار. وقال ابن عباس: كأن لم يلبثوا في قبورهم إلا قدر ساعة من النهار، {يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ} يعرف بعضهم بعضا حين بعثوا من القبور كمعرفتهم في الدنيا، ثم تنقطع المعرفة إذا عاينوا أهوال القيامة. وفي بعض الآثار: أن الإنسان يعرف يوم القيامة من بجنبه ولا يكلمه هيبة وخشية.
{قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} والمراد من الخسران: خسران النفس، ولا شيء أعظم منه.

.تفسير الآيات (46- 50):

{وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (47) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعًا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (49) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50)}
قوله تعالى: {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ} يا محمد، {بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} في حياتك من العذاب، {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} قبل تعذيبهم، {فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} في الآخرة، {ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ} فيجزيهم به، {ثم} بمعنى الواو، تقديره: والله شهيد. قال مجاهد: فكان البعض الذي أراه قتلهم ببدر، وسائر أنواع العذاب بعد موتهم.
قوله عز وجل: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ} وكذبوه، {قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} أي عُذِّبوا في الدنيا وأهلكوا بالعذاب، يعني: قبل مجيء الرسول، لا ثواب ولا عقاب. وقال مجاهد ومقاتل: فإذا جاء رسولهم الذي أرسل إليهم يوم القيامة قُضِيَ بينه وبينهم بالقسط، {وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} لا يعذبون بغير ذنب ولا يُؤاخذون بغير حجة ولا ينقص من حسناتهم ولا يزاد على سيئاتهم.
{وَيَقُولُونَ} أي: ويقول المشركون: {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} الذي تعدنا يا محمد من العذاب. وقيل: قيام الساعة، {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أنت يا محمد وأتباعك.
{قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي} لا أقدر لها على شيء، {ضَرًّا وَلا نَفْعًا} أي: دفع ضر ولا جلب نفع، {إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ} أن أملكه، {لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} مدة مضروبة، {إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ} وقت فناء أعمارهم، {فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} أي: لا يتأخرون ولا يتقدمون.
قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا} ليلا {أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ} أي: ماذا يستعجل من الله المشركون. وقيل: ماذا يستعجل من العذاب المجرمون، وقد وقعوا فيه؟ وحقيقة المعنى: أنهم كانوا يستعجلون العذاب، فيقولون: {اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم} [الأنفال- 32]. فيقول الله تعالى: {مَاذَا يَسْتَعْجِلُ} يعني: أيش يعلم المجرمون ماذا يستعجلون ويطلبون، كالرجل يقول لغيره وقد فعل قبيحا ماذا جنيت على نفسك.

.تفسير الآيات (51- 56):

{أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52) وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (54) أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (55) هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56)}
{أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ} قيل: معناه أهنالك؟ وحينئذ، وليس بحرف عطف، {إذا ما وقع} نزل العذاب، {آمَنْتُمْ بِهِ} أي بالله في وقت اليأس. وقيل: آمنتم به أي صدَّقتم بالعذاب وقت نزوله، {آلآن} فيه إضمار، أي: يقال لكم: آلآن تؤمنون حين وقع العذاب؟ {وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} تكذيبا واستهزاء.
{ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا} أشركوا، {ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} في الدنيا.
{وَيَسْتَنْبِئُونَك} أي: يستخبرونك يا محمد، {أَحَقٌّ هُوَ} أي: ما تعدنا من العذاب وقيام الساعة، {قُلْ إِي وَرَبِّي} أي: نعم وربي، {إِنَّهُ لَحَقٌّ} لا شك فيه، {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} أي: بفائتين من العذاب، لأن من عجز عن شيء فقد فاته.
{وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ} أي: أشركت، {مَا فِي الأرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ} يوم القيامة، والافتداء ها هنا: بذل ما ينجو به من العذاب. {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ} قال أبو عبيدة: معناه: أظهروا الندامة، لأنه ليس ذلك اليوم يوم تصبّر وتصنّع. وقيل: معناه أخفوا أي: أخفى الرؤساء الندامةَ من الضعفاء، خوفًا من ملامتهم وتعبيرهم، {لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} فرغ من عذابهم، {وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ}.
{ألا إن لله ما في السموات والأرض ألا إن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون هو يحيي ويميت وإليه ترجعون}.

.تفسير الآيات (57- 59):

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59)}
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ} تذكرة، {مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ} أي: دواء للجهل، لما في الصدور. أي: شفاء لعمى القلوب، والصدر: موضع القلب، وهو أعز موضع في الانسان لجوار القلب، {وَهُدًى}من الضلالة، {وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} والرحمة هي النعمة على المحتاج، فإنه لو أهدى ملك إلى ملك شيئا لا يقال قد رحمه، وإن كان ذلك نعمة لأنه لم يضعها في محتاج.
قوله تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ} قال مجاهد وقتادة: فضل الله: الإيمان، ورحمته: القرآن. وقال أبو سعيد الخدري: فضل الله القرآن ورحمته أن جعلنا من أهله.
وقال ابن عمر: فضل الله: الإسلام، ورحمته: تزيينه في القلب.
وقال خالد بن معدان: فضل الله: الإسلام، ورحمته: السُّنن.
وقيل: فضل الله: الإيمان، ورحمته: الجنة.
{فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} أي: ليفرح المؤمنون أن جعلهم الله من أهله، {هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} أي: مما يجمعه الكفار من الأموال. وقيل: كلاهما خبر عن الكفار.
وقرأ أبو جعفر وابن عامر: {فليفرحوا} بالياء، و{تجمعون} بالتاء، وقرأ يعقوب كليهما بالتاء مختلف عنه خطابًا للمؤمنين.
{قُلْ} يا محمد لكفار مكة، {أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ} عبَّر عن الخلق بالإنزال، لأن ما في الأرض من خير، فمما أنزل الله من رزق، من زرع وضرع، {فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالا} هو ما حرموا من الحرث ومن الأنعام كالبحيرة، والسائبة، والوصيلة والحام. قال الضحاك: هو قوله تعالى: {وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا} [الأنعام- 136]. {قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُم} في هذا التحريم والتحليل، {أَمْ} بل، {عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} وهو قولهم: {والله أمرنا بها}.

.تفسير الآيات (60- 63):

{وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (60) وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61) أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63)}
{وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أيحسبون أن الله لا يؤاخذهم به ولا يعاقبهم عليه، {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ}.
قوله عز وجل: {وَمَا تَكُونُ} يا محمد، {فِي شَأْنٍ} عمل من الأعمال، وجمعه شُؤون، {وَمَا تَتْلُو مِنْه} من الله، {مِن قُرْآنٍ} نازل، وقيل: منه أي من الشأن من قرآن، نزل فيه ثم خاطبه وأمته فقال: {وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} أي: تدخلون وتخوضون فيه، الهاء عائدة إلى العمل، والإفاضة: الدخول في العمل. وقال ابن الأنباري: تندفعون فيه. وقيل: تُكْثِرون فيه. والإفاضة: الدفع بكثرة.
{وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ} يغيب عن ربك، وقرأ الكسائي {يَعْزِب} بكسر الزاي، وقرأ الآخرون بضمها، وهما لغتان. {مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ} أي: مثقال ذرة، و{من} صلة، والذرة هي: النملة الحميراء الصغيرة. {فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ} أي: من الذرة، {وَلا أَكْبَرَ} قرأ حمزة ويعقوب: برفع الراء فيهما، عطفا على موضع المثقال قبل دخول {من}، وقرأ الآخرون: بنصبهما، إرادة للكسرة، عطفا على الذرة في الكسر. {إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} وهو اللوح المحفوظ.
قوله تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} واختلفوا فيمن يستحق هذا الاسم. قال بعضهم: هم الذين ذكرهم الله تعالى فقال: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} وقال قوم: هم المتحابّون في الله عز وجل.
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي، أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد بن بشران، أخبرنا إسماعيل بن محمد الصفَّار، حدثنا أحمد بن منصور الرمادي، حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن ابن أبي حسين عن شهر بن حوشب، عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «إن لله عبادا ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم النبيون والشهداء لقربهم ومقعدهم من الله يوم القيامة»، قال: وفي ناحية القوم أعرابي فجثا على ركبتيه ورمى بيديه ثم قال: حدثنا يا رسول الله عنهم من هم؟ قال: فرأيت في وجه النبي صلى الله عليه وسلم البشر، فقال: «هم عباد من عباد الله من بلدان شتى وقبائل، لم يكن بينهم أرحام يتواصلون بها، ولا دنيا يتباذلون بها، يتحابون بروح الله، يجعل الله وجوههم نورا، ويجعل لهم منابر من لؤلؤ قدام الرحمن، يفزع الناس ولا يفزعون، ويخاف الناس ولا يخافون».
ورواه عبد الله بن المبارك عن عبد الحميد بن بهرام قال: حدثنا شهر بن حوشب، حدثني عبد الرحمن بن غنم عن أبي مالك الأشعري، عن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: مَنْ أولياء الله؟ فقال: «الذين إذا رؤوا ذُكر الله».
ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال الله تعالى: «إن أوليائي من عبادي الذين يُذْكَرُون بذكري وأُذْكَرُ بذكرهم».