فصل: تفسير الآيات (135- 136):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآيات (135- 136):

{وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)}
قوله تعالى: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا} قال ابن عباس: نزلت في رؤساء يهود المدينة كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف ووهب بن يهودا وأبي ياسر بن أخطب، وفي نصارى أهل نجران السيد والعاقب وأصحابهما، وذلك أنهم خاصموا المسلمين في الدين كل فرقة تزعم أنها أحق بدين الله، فقالت اليهود: نبينا موسى أفضل الأنبياء، وكتابنا التوراة أفضل الكتب، وديننا أفضل الأديان، وكفرت بعيسى والإنجيل وبمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن، وقالت النصارى: نبينا أفضل الأنبياء وكتابنا الإنجيل أفضل الكتب، وديننا أفضل الأديان وكفرت بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن، وقال كل واحد من الفريقين للمؤمنين كونوا على ديننا فلا دين إلا ذلك فقال تعالى: {قُل} يا محمد {بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} بل نتبع ملة إبراهيم، وقال الكسائي: هو نصب على الإغراء، كأنه يقول: اتبعوا ملة إبراهيم، وقيل معناه بل نكون على ملة إبراهيم فحذف على فصار منصوبا {حَنِيفًا} نصب على الحال عند نحاة البصرة، وعند نحاة الكوفة نصب على القطع أراد بل ملة إبراهيم الحنيف فلما سقطت الألف واللام لم يتبع المعرفة النكرة فانقطع منه فنصب.
قال مجاهد: الحنيفية اتباع إبراهيم فيما أتى به من الشريعة التي صار بها إماما للناس قال ابن عباس: الحنيف المائل عن الأديان كلها إلى دين الإسلام، وأصله من الحنف، وهو ميل وعوج يكون في القدم، وقال سعيد بن جبير: الحنيف هو الحاج المختتن.
وقال الضحاك: إذا كان مع الحنيف المسلم فهو الحاج، وإذا لم يكن مع المسلم فهو المسلم، قال قتادة: الحنيفية: الختان وتحريم الأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات وإقامة المناسك.
{وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ثم علم المؤمنين طريق الإيمان فقال جل ذكره: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} يعني القرآن {وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ} عشر صحف {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ} يعني أولاد يعقوب وهم اثنا عشر سبطا واحدهم سبط سموا بذلك لأنه ولد لكل واحد منهم جماعة وسبط الرجل حافده، ومنه قيل للحسن والحسين رضي الله عنهما سبطا رسول الله صلى الله عليه وسلم والأسباط من بني إسرائيل كالقبائل من العرب من بني إسماعيل والشعوب من العجم، وكان في الأسباط أنبياء ولذلك قال: وما أنزل إليهم وقيل هم بنو يعقوب من صلبه صاروا كلهم أنبياء {وَمَا أُوتِيَ مُوسَى} يعني التوراة {وَعِيسَى} يعني الإنجيل {وَمَا أُوتِيَ} أعطي {النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} أي نؤمن بالكل لا نفرق بين أحد منهم فنؤمن ببعض ونكفر ببعض كما فعلت اليهود والنصارى {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}.
أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا محمد بن بشار أنا عثمان بن عمر أنا علي بن المبارك عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية، ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم {وقولوا آمنا بالله} الآية».

.تفسير الآية رقم (137):

{فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137)}
قوله تعالى: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ} أي بما آمنتم به، وكذلك كان يقرؤها ابن عباس، والمثل صلة كقوله تعالى: {ليس كمثله شيء} أي ليس هو كشيء، وقيل: معناه فإن آمنوا بجميع ما آمنتم به أي أتوا بإيمان كإيمانكم وتوحيد كتوحيدكم، وقيل: معناه فإن آمنوا مثل ما أمنتم به والباء زائدة كقوله تعالى: {وهزي إليك بجذع النخلة} [25- مريم] وقال أبو معاذ النحوي: معناه فإن آمنوا بكتابكم كما آمنتم بكتابهم، {فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ} أي في خلاف ومنازعة قاله: ابن عباس وعطاء ويقال: شاق مشاقة إذا خالف كأن كل واحد آخذ في شق غير شق صاحبه، قال الله تعالى: {لا يجرمنكم شقاقي} [89- هود] أي خلافي، وقيل: في عداوة، دليله: قوله تعالى: {ذلك بأنهم شاقوا الله} [13- الأنفال] أي عادوا الله {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ} يا محمد أي يكفيك شر اليهود والنصارى وقد كفى بإجلاء بني النضير، وقتل بني قريظة وضرب الجزية على اليهود والنصارى {وَهُوَ السَّمِيعُ} لأقوالهم {الْعَلِيم} بأحوالهم.

.تفسير الآيات (138- 143):

{صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138) قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141) سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143)}
قوله تعالى: {صِبْغَةَ اللَّهِ} قال ابن عباس في رواية الكلبي وقتادة والحسن: دين الله، وإنما سماه صبغة لأنه يظهر أثر الدين على المتدين كما يظهر أثر الصبغ على الثوب، وقيل لأن المتدين يلزمه ولا يفارقه، كالصبغ يلزم الثوب، وقال مجاهد: فطرة الله، وهو قريب من الأول، وقيل: سنة الله، وقيل: أراد به الختان لأنه يصبغ صاحبه بالدم، قال ابن عباس هي أن النصارى إذا ولد لأحدهم ولد فأتى عليه سبعة أيام غمسوه في ماء لهم أصفر يقال له المعمودي وصبغوه به ليطهروه بذلك الماء مكان الختان، فإذا فعلوا به ذلك قالوا: الآن صار نصرانيا حقا فأخبر الله أن دينه الإسلام لا ما يفعله النصارى، وهو نصب على الإغراء يعني الزموا دين الله، قال الأخفش هي بدل من قوله ملة إبراهيم {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} دينا وقيل: تطهيرا {وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} مطيعون.
{قُل} يا محمد لليهود والنصارى {أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ} أي في دين الله والمحاجة: المجادلة في الله لإظهار الحجة، وذلك بأنهم قالوا إن الأنبياء كانوا منا وعلى ديننا، وديننا أقوم فنحن أولى بالله منكم فقال الله تعالى: قل أتحاجوننا في الله {وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ} أي نحن وأنتم سواء في الله فإنه ربنا وربكم {وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} أي لكل واحد جزاء عمله، فكيف تدعون أنكم أولى بالله {وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ} وأنتم به مشركون.
قال سعيد بن جبير: الإخلاص أن يخلص العبد دينه وعمله فلا يشرك به في دينه ولا يرائي بعمله قال الفضيل: ترك العمل لأجل الناس رياء، والعمل من أجل الناس شرك، والإخلاص أن يعافيك الله منهما.
قوله تعالى: {أَمْ تَقُولُونَ} يعني: أتقولون، صيغة استفهام ومعناه التوبيخ، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص بالتاء لقوله تعالى: {قل أتحاجوننا في الله} وقال بعده {قل أأنتم أعلم أم الله} وقرأ الآخرون بالياء يعني يقول اليهود والنصارى {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ} يا محمد {أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ} بدينهم {أَمِ اللَّهُ} وقد أخبر الله تعالى أن إبراهيم لم يكن يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ} أخفى {شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ} وهي علمهم بأن إبراهيم وبنيه كانوا مسلمين وأن محمدا صلى الله عليه وسلم حق ورسول أشهدهم الله عليه في كتبهم {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}.
{تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} كرره تأكيدا.
قوله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ} الجهال {مِنَ النَّاسِ مَا وَلاهُمْ} صرفهم وحولهم {عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} يعني بيت المقدس والقبلة فعلة من المقابلة نزلت في اليهود ومشركي مكة طعنوا في تحويل القبلة من بيت المقدس إلى مكة، فقالوا لمشركي مكة: قد تردد على محمد أمره فاشتاق إلى مولده وقد توجه نحو بلدكم وهو راجع إلى دينكم فقال الله تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} له والخلق عبيده. {يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}.
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} نزلت في رؤساء اليهود، قالوا لمعاذ بن جبل: ما ترك محمد قبلتنا إلا حسدا، وإن قبلتنا قبلة الأنبياء، ولقد علم محمد أنا عدل بين الناس، فقال معاذ: إنا على حق وعدل فأنزل الله تعالى: {وَكَذَلِك} أي وهكذا، وقيل: الكاف للتشبيه أي كما اخترنا إبراهيم وذريته واصطفيناهم {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} مردودة على قوله: {ولقد اصطفيناه في الدنيا} [103- البقرة] أي عدلا خيارا قال الله تعالى: {قال أوسطهم} [28- القلم] أي خيرهم وأعدلهم وخير الأشياء أوسطها، وقال الكلبي يعني أهل دين وسط بين الغلو والتقصير لأنهما مذمومان في الدين.
وأخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أبو معشر إبراهيم بن محمد بن الحسين الوراق أنا أبو عبد الله محمد بن زكريا بن يحيى أنا أبو الصلت أنا حماد بن زيد أنا علي بن زيد عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما بعد العصر فما ترك شيئا إلى يوم القيامة إلا ذكره في مقامه ذلك حتى إذا كانت الشمس على رءوس النخل وأطراف الحيطان، قال: «أما إنه لم يبق من الدنيا فيما مضى منها إلا كما بقي من يومكم هذا، ألا وإن هذه الأمة توفي سبعين أمة هي آخرها وأخيرها وأكرمها على الله تعالى».
قوله تعالى: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} يوم القيامة أن الرسل قد بلغتهم، قال ابن جريج: قلت لعطاء، ما معنى قوله تعالى لتكونوا شهداء على الناس؟ قال: أمة محمد صلى الله عليه وسلم شهداء على من يترك الحق من الناس أجمعين {وَيَكُونَ الرَّسُولُ} محمد صلى الله عليه وسلم {عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} معدلا مزكيا لكم، وذلك أن الله تعالى يجمع الأولين والآخرين في صعيد واحد، ثم يقول لكفار الأمم الماضية: {ألم يأتكم نذير} [8- الملك] فينكرون ويقولون ما جاءنا من بشير ولا نذير، فيسأل الله الأنبياء عليهم السلام عن ذلك فيقولون: كذبوا قد بلغناهم فيسألهم البينة- وهو أعلم بهم- إقامة للحجة، فيؤتى بأمة محمد صلى الله عليه وسلم فيشهدون لهم أنهم قد بلغوا، فتقول الأمم الماضية: من أين علموا وإنما أتوا بعدنا؟ فيسأل هذه الأمة فيقولون أرسلت إلينا رسولا وأنزلت عليه كتابا، أخبرتنا فيه تبليغ الرسل وأنت صادق فيما أخبرت، ثم يؤتى بمحمد صلى الله عليه وسلم فيسأل عن حال أمته فيزكيهم ويشهد بصدقهم.
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا إسحاق بن منصور أخبرنا أبو أسامة قال الأعمش أخبرنا أبو صالح عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يجاء بنوح يوم القيامة فيقال له: هل بلغت؟ فيقول: نعم يا رب، فيسأل أمته هل بلغكم؟ فيقولون: ما جاءنا من نذير، فيقال: من شهودك فيقول محمد وأمته» فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فيجاء بكم فتشهدون» ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا} قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا} أي تحويلها يعني بيت المقدس، فيكون من باب حذف المضاف، ويحتمل أن يكون المفعول الثاني للجعل محذوفا، على تقدير وما جعلنا القبلة التي كنت عليها منسوخة، وقيل معناه التي أنت عليها، وهي الكعبة كقوله تعالى: {كنتم خير أمة} أي أنتم.
{إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ} فإن قيل ما معنى قوله: {إلا لنعلم} وهو عالم بالأشياء كلها قبل كونها قيل: أراد به العلم الذي يتعلق به الثواب والعقاب، فإنه لا يتعلق بما هو عالم به في الغيب، إنما يتعلق بما يوجد معناه ليعلم العلم الذي يستحق العامل عليه الثواب والعقاب، وقيل: إلا لنعلم أي: لنرى ونميز من يتبع الرسول في القبلة {مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} فيرتد وفي الحديث إن القبلة لما حولت ارتد قوم من المسلمين إلى اليهودية، وقالوا: رجع محمد إلى دين آبائه، وقال أهل المعاني: معناه إلا لعلمنا من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه كأنه سبق في علمه أن تحويل القبلة سبب لهداية قوم وضلالة قوم، وقد يأتي لفظ الاستقبال بمعنى الماضي كما قال الله تعالى: {فلم تقتلون أنبياء الله} [91- البقرة] أي فلم قتلتموهم {وَإِنْ كَانَتْ} أي قد كانت أي تولية الكعبة وقيل: الكتابة راجعة إلى القبلة، وقيل: إلى الكعبة قال الزجاج: وإن كانت التحويلة {لَكَبِيرَة} ثقيلة شديدة {إِلا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} أي هداهم الله، قال سيبويه: {وإن} تأكيد يشبه اليمين ولذلك دخلت اللام في جوابها {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} وذلك أن حيي بن أخطب وأصحابه من اليهود قالوا للمسلمين: أخبرونا عن صلاتكم نحو بيت المقدس، إن كانت هدى فقد تحولتم عنها وإن كانت ضلالة فقد دنتم الله بها، ومن مات منكم عليها فقد مات على الضلالة، فقال المسلمون إنما الهدى ما أمر الله به، والضلالة ما نهى الله عنه.
قالوا: فما شهادتكم على من مات منكم على قبلتنا؟ وكان قد مات قبل أن تحول القبلة من المسلمين أسعد بن زرارة من بني النجار، والبراء بن معرور من بني سلمة، وكانوا من النقباء ورجال آخرون فانطلق عشائرهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا رسول الله قد صرفك الله إلى قبلة إبراهيم فكيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس؟ فأنزل الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} يعني صلاتكم إلى بيت المقدس {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} قرأ أهل الحجاز وابن عامر وحفص لرءوف مشبع على وزن فعول، لأن أكثر أسماء الله تعالى على فعول وفعيل، كالغفور والشكور والرحيم والكريم وغيرها، وأبو جعفر يلين الهمزة وقرأ الآخرون بالاختلاس على وزن فعل قال جرير:
ترى للمسلمين عليك حقا ** كفعل الواحد الرءوف الرحيم

والرأفة أشد الرحمة.

.تفسير الآية رقم (144):

{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)}
قوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} هذه الآية وإن كانت متأخرة في التلاوة فهي متقدمة في المعنى فإنها رأس القصة، وأمر القبلة أول ما نسخ من أمور الشرع، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يصلون بمكة إلى الكعبة، فلما هاجر إلى المدينة أمره الله أن يصلي نحو صخرة بيت المقدس ليكون أقرب إلى تصديق اليهود إياه إذا صلى إلى قبلتهم مع ما يجدون من نعته في التوراة فصلى بعد الهجرة ستة عشر أو سبعة عشر شهرا إلى بيت المقدس وكان يحب أن يوجه إلى الكعبة لأنها كانت قبلة أبيه إبراهيم عليه السلام، وقال مجاهد: كان يحب ذلك لأجل اليهود لأنهم كانوا يقولون يخالفنا محمد صلى الله عليه وسلم في ديننا ويتبع قبلتنا، فقال لجبريل عليه السلام: وددت لو حولني الله إلى الكعبة فإنها قبلة أبي إبراهيم عليه السلام، فقال جبريل: إنما أنا عبد مثلك وأنت كريم على ربك، فسل أنت ربك فإنك عند الله عز وجل بمكان فرجع جبريل عليه السلام وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يديم النظر إلى السماء رجاء أن ينزل جبريل بما يحب من أمر القبلة فأنزل الله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً} فلنحولنك إلى قبلة {تَرْضَاهَا} أي تحبها وتهواها {فول} أي حول {وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} أي نحوه وأراد به الكعبة والحرام المحرم {وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ} من بر أو بحر أو شرق أو غرب {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} عند الصلاة.
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا إسحاق بن نصر أخبرنا عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج عن عطاء قال سمعت ابن عباس رضي الله عنهما: قال لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم البيت دعا في نواحيه كلها ولم يصل حتى خرج منه، فلما خرج ركع ركعتين في قبل الكعبة وقال هذه القبلة.
أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا عمرو بن خالد أخبرنا زهير أخبرنا أبو إسحاق عن البراء أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أول ما قدم المدينة نزل على أجداده أو قال أخواله من الأنصار وأنه صلى قبل بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرا، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت، وأنه صلى أول صلاة صلاها صلاة العصر وصلى معه قوم فخرج رجل ممن صلى معه فمر على أهل مسجد قباء وهم راكعون فقال: أشهد بالله لقد صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مكة فداروا كما هم قبل البيت، وكانت اليهود قد أعجبهم إذ كان يصلي قبل المقدس لأنه قبلة أهل الكتاب، فلما ولى وجهه قبل البيت أنكروا ذلك، وقال: البراء في حديثه هذا: أنه مات على القبلة قبل أن تحول رجال وقتلوا فلم ندر ما نقول فيهم، فأنزل الله تعالى: {وما كان الله ليضيع إيمانكم}.
وكان تحويل القبلة في رجب بعد زوال الشمس قبل قتال بدر بشهرين، قال مجاهد وغيره: نزلت هذه الآية ورسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد بني سلمة وقد صلى بأصحابه ركعتين من صلاة الظهر، فتحول في الصلاة واستقبل الميزاب وحول الرجال مكان النساء، والنساء مكان الرجال، فسمي ذلك المسجد مسجد القبلتين. وقيل: كان التحويل خارج الصلاة بين الصلاتين، وأهل قباء وصل إليهم الخبر في صلاة الصبح.
أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي أخبرنا أبو علي زاهر بن أحمد الفقيه السرخسي أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي السامري أخبرنا أبو مصعب أحمد بن أبي بكر الزهري عن مالك بن أنس عن عبد الله بن دينار أن عبد الله بن عمر قال: بينا الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت وقال لهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة.
فلما تحولت القبلة قالت اليهود: يا محمد ما هو إلا شيء تبتدعه من تلقاء نفسك فتارة تصلي إلى بيت المقدس وتارة إلى الكعبة ولو ثبت على قبلتنا لكنا نرجو أن تكون صاحبنا الذي ننتظره؟ فأنزل الله {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ} يعني أمر الكعبة {الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} ثم هددهم فقال: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} قرأ أبو جعفر وابن عامر وحمزة والكسائي بالتاء قال ابن عباس يريد أنكم يا معشر المؤمنين تطلبون مرضاتي وما أنا بغافل عن ثوابكم وجزائكم وقرأ الباقون بالياء يعني ما أنا بغافل عما يفعل اليهود فأجازيهم في الدنيا والآخرة.