فصل: تفسير الآيات (30- 31):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآيات (30- 31):

{وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31)}
قوله تعالى: {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ} الآية.
يقول: شاع أمر يوسف والمرأة في المدينة مدينة مصر. وقيل: مدينة عين الشمس، وتحدث النساء بذلك وقلن- وهنّ خمس نسوة: امرأة حاجب الملك، وامرأة صاحب الدواب، وامرأة الخباز، وامرأة الساقي، وامرأة صاحب السجن، قاله مقاتل.
وقيل: هنَّ نسوة من أشراف مصر-: {امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا} أي: عبدها الكنعاني، {عَنْ نَفْسِهِ} أي: تطلب من عبدها الفاحشة، {قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا} أي: عَلِقَها حبا.
قال الكلبي: حجب حبُّه قلبَها حتى لا تعقل سواه.
وقيل: أحبَّتهُ حتى دخل حبه شغاف قلبها، أي: داخل قلبها.
قال السدي: الشغاف جلدة رقيقة على القلب، يقول: دخل الحبُّ الجلدَ حتى أصاب القلب.
وقرأ الشعبي والأعرج {شَعَفَهَا} بالعين غير المعجمة، معناه: ذهب الحُبُّ بها كل مذهب. ومنه شعف الجبال وهو رؤوسها. {إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} أي: خطأ ظاهر. وقيل: معناه إنها تركت ما يكون عليه أمثالها من العفاف والستر.
{فَلَمَّا سَمِعَتْ} راعيل، {بِمَكْرِهِنّ} بقولهن وحديثهن، قاله قتادة والسدي.
قال ابن اسحاق إنما قلن ذلك مكراً بها لِتُرِيَهُنَّ يوسف، وكان يوصف لهنّ حسنُه وجماله.
وقيل: إنها أفشت إليهن سرَّها واستكتمتهن فأفشَيْن ذلك، فلذلك سمَّاه مكرا.
{أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ} قال وهب: اتخذت مأدبة، ودعت أربعين امرأة، منهن هؤلاء اللاتي عَيَّرْنَها. {وَأَعْتَدَت} أي: أعدت، {لَهُنَّ مُتَّكَأً} أي: ما يتكأ عليه.
وقال ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن وقتادة ومجاهد: متكأ أي: طعاما، سماه متكأ لأن أهل الطعام إذا جلسوا يتكئون على الوسائد، فسمى الطعام متكأ على الاستعارة. يقال: اتكأنا عند فلان أي: طعمنا. ويقال: المتكأ ما اتكأت عليه للشرب أو الحديث أو الطعام، ويقرأ في الشواذ مَتْكَأً بسكون التاء.
واختلفوا في معناه: فقال ابن عباس: هو الأترج. ويروى عن مجاهد مثله. وقيل هو الأترج بالحبشة.
وقال الضحاك: هو الرباورد.
وقال عكرمة: هو كل شيء يقطع بالسكين.
وقال أبو زيد الأنصاري: كل ما يجز بالسكين فهو عند العرب متك، والمتك والبتك بالميم والباء: القطع، فزينت المأدبة بألوان الفواكه والأطعمة، ووضعت الوسائد ودعت النسوة.
{وَآتَت} وأعطت، {كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا} فكُنَّ يأكلن اللحمَ حزَّاً بالسكين.
{وَقَالَتِ} ليوسف، {اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ} وذلك أنها كانت أجلسته في مجلس آخر، فخرج عليهن يوسف.
قال عكرمة: كان فضل يوسف على الناس في الحسن كفضل القمر ليلة البدر على سائر النجوم.
وروي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رأيت ليلة أسري بي إلى السماء يوسف كالقمر ليلة البدر».
قال إسحاق بن أبي فروة: كان يوسف إذا سار في أزقة مصر يُرى تلألؤ وجهه على الجدران.
{فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ} أعظمنه، قال أبو العالية: هَالهُنَّ أمرُه وبُهتنَ. وقيل: أكبرنَه أي: حضن لأجله من جماله. ولا يصح.
{وَقَطَّعْنَ} أي: حززن بالسكاكين التي معهن، {أَيْدِيَهُنّ} وهنَّ يحسبن أنهن يقطعن الأترج، ولم يجدن الألم لشغل قلوبهن بيوسف.
قال مجاهد: فما أحسسن إلا بالدم.
وقال قتادة: أَبَنَّ أيديهنّ حتى ألقينها.
والأصح كان قطعا بلا إبانة.
وقال وهب: ماتت جماعة منهن.
{وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا} أي: معاذ الله أن يكون هذا بشرا. قرأ أبو عمرو: حاشى لله، بإثبات الياء في الوصل، على الأصل. وقرأ الآخرون بحذف الياء لكثرة ورودها على الألسن، واتباعا للكتاب.
وقوله: {مَا هَذَا بَشَرًا} نصب بنزع حرف الصفة، أي: ليس هذا ببشر، {إِنْ هَذَا} أي: ما هذا، {إِلا مَلَكٌ} من الملائكة، {كَرِيمٌ} على الله تعالى.

.تفسير الآية رقم (32):

{قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ (32)}
{قَالَتْ} يعني: راعيل، {فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} أي: في حبه، ثم صرحت بما فعلت، فقالت: {وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ} أي: فامتنع، وإنما صرحت به لأنها علمت أنه لا ملامة عليها منهنّ وقد أصابهنَّ ما أصابها من رؤيته، فقلنَ له: أطِعْ مولاتك. فقالتْ راعيل: {وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ} ولئن لم يطاوعني فيما دعوته إليه، {لَيُسْجَنَنَّ} أي: ليعاقبن بالحبس، {وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ} من الأذلاء. ونون التوكيد تثقل وتخفف، والوقف على قوله: {لَيُسْجَنَنَّ} بالنون لأنها مشددة، وعلى قوله: {وليكونا} بالألف لأنها مخففة، وهي شبيهة بنون الإعراب في الأسماء، كقوله: رأيت رجلا وإذا وقفت، قلت: رأيت رجلا بالألف، ومثله: {لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ} [العلق- 15، 16]. فاختار يوسف عليه السلام السجن على المعصية حين توعدته المرأة.

.تفسير الآيات (33- 35):

{قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34) ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35)}
{قَالَ رَبِّ} أي: يا رب، {السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} قيل: كان الدعاء منها خاصة، ولكنه أضاف إليهن خروجا من التصريح إلى التعريض.
وقيل: إنهن جميعا دعونه إلى أنفسهن.
وقرأ يعقوب وحده: السَّجْنُ بفتح السين. وقرأ العامة بكسرها.
وقيل: لو لم يقل: السجن أحب إليّ لم يُبْتَلَ بالسجن، والأوْلى بالمرء أن يسأل الله العافية.
قوله تعالى: {وَإِلا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ} أَمِلْ إليهن وأتابعهن، يقال: صبا فلان إلى كذا يصبو صبوا وصبُوَّاً وصُبُوَّةً إذا مال واشتاق إليه.
{وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} فيه دليل على أن المؤمن إذا ارتكب ذنبا يرتكبه عن جهالة.
{فَاسْتَجَابَ لَهُ} أجاب له. {رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} لدعائه العليم بمكرهن.
{ثُمَّ بَدَا لَهُمْ} أي: للعزيز وأصحابه في الرأي، وذلك أنهم أرادوا أن يقتصروا من أمر يوسف على الأمر بالإعراض. ثم بدا لهم أن يحبسوه. {مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الآيَاتِ} الدالة على براءة يوسف مِنْ قَدِّ القميص، وكلام الطفل وقطع النساء أيديهن وذهاب عقولهن، {لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} إلى مدَّة يرون فيه رأيهم.
وقال عطاء: إلى أن تنقطع مقالة الناس.
قال عكرمة: سبع سنين.
وقال الكلبي: خمس سنين.
قال السدي: وذلك أن المرأة قالت لزوجها: إن هذا العبد العبراني قد فضحني في الناس، يخبرهم أني راودتُه عن نفسه، فإما أن تأذن لي فأخرج فأعتذر إلى الناس، وإما أن تحبسه، فحبسه، وذكر أن الله تعالى جعل ذلك الحبس تطهيرا ليوسف عليه السلام من همّه بالمرأة.
قال ابن عباس: عثر يوسف ثلاث عثرات: حين همَّ بها فسجن، وحين قال: {اذكرني عند ربك} فلبث في السجن بضع سنين، وحين قال للإخوة {إنكم لسارقون}، فقالوا: {إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل}.

.تفسير الآية رقم (36):

{وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36)}
قوله تعالى: {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ} وهما غلامان كانا للريان بن الوليد بن شروان العمليق ملك مصر الأكبر، أحدهما: خبَّازه وصاحب طعامه، والآخر: ساقيه وصاحب شرابه. غضب الملك عليهما فحبسهما.
وكان السبب فيه: أن جماعة من أهل مصر أرادوا المكر بالملك واغتياله، فضمنوا لهذين مالا ليسمَّا الملك في طعامه وشرابه فأجاباهم، ثم إن الساقي نكل عنه، وقبل الخباز الرشوة فسمَّ الطعام، فلما أحضر الطعام والشراب قال الساقي: لا تأكل أيها الملك فإن الطعام مسموم، وقال الخباز: لا تشرب فإن الشراب مسموم.
فقال الملك للساقي: اشرب فشربه فلم يضره، وقال للخباز: كل من طعامك، فأبى فجرب ذلك الطعام على دابة فأكلته فهلكت، فأمر الملك بحبسهما.
وكان يوسف حين دخل السجن جعل ينشر علمه ويقول: إني أعبر الأحلام، فقال أحد الفتيين لصاحبه: هلمَّ فلنجرب هذا العبد العبراني، فَتَراءَيا له فسألاه من غير أن يكونا رأيا شيئا، قال ابن مسعود: ما رأيا شيئا وإنما تحالَما ليجرِّبَا يوسف.
وقال قوم: بل كانا رأيا حقيقة، فرآهما يوسف وهما مهمومان، فسألهما عن شأنهما، فذكرا أنهما صاحبا الملك، حبسهما، وقد رأيا رؤيا غمتهما. فقال يوسف: قُصّا عليّ ما رأيتُما، فقصَّا عليه.
{قَالَ أَحَدُهُمَا} وهو صاحب الشراب، {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} أي: عنبا، سمي العنب خمرا باسم ما يؤول إليه، كما يقال: فلان يطبخ الآجر أي: يطبخ اللبن للآجر. وقيل: الخمر العنب بلغة عمان، وذلك أنه قال: إني رأيتُ كأني في بستان، فإذا بأصل حبلة عليها ثلاث عناقيد من عنب فجنيتها، وكان كأس الملك بيدي فعصرتها فيه وسقيت الملك فشربه.
{وَقَالَ الآخَرُ} وهو الخباز: {إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ} وذلك أنه قال: إني رأيت كأن فوق رأسي ثلاث سلال فيها الخبز وألوان الأطعمة وسباع الطير تنهش منه. {نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ} أخبرنا بتفسيره وتعبيره وما يؤول إليه أمر هذه الرؤيا.
{إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} أي: العالمين بعبارة الرؤيا، والإحسان بمعنى العلم.
ورُوي أن الضحاك بن مزاحم سئل عن قوله: {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} ما كان إحسانه؟ قال: كان إذا مرض إنسان في السجن عاده وقام عليه، وإذا ضاق عليه المجلس وسع له، وإذا احتاج جمع له شيئا، وكان مع هذا يجتهد في العبادة، ويقوم الليل كله للصلاة.
وقيل: إنه لما دخل السجن وجد فيه قوما اشتد بلاؤهم وانقطع رجاؤهم وطال حزنهم، فجعل يُسلِّيهم ويقول: أبشروا واصبروا تؤجروا، فيقولون: بارك الله فيك يا فتى ما أحسن وجهك وخلقك وحديثك، لقد بورك لنا في جوارك فمن أنت يا فتى؟ قال: أنا يوسف بن صفي الله يعقوب بن ذبيح الله اسحاق بن خليل الله إبراهيم، فقال له عامل السجن: يا فتى والله لو استطعت لخلَّيْتُ سبيلك، ولكن سأحسن جوارك فتمكن في أيّ بيوت السجن شئت.
ويُروى أن الفتيين لمّا رأيا يوسف قالا له: لقد أحببناك حين رأيناك، فقال لهما يوسف: أنشدكما بالله أن لا تحباني، فوالله ما أحبني أحد قط إلا دخل عليّ من حبه بلاء، لقد أحبتني عمتي فدخل عليّ بلاء، ثم أحبني أبي فألقيت في الجب، وأحبتني امرأة العزيز فحبست. فلما قصّا عليه الرؤيا كره يوسف أن يعبِّر لهما ما سألاه لِمَا علم في ذلك من المكروه على أحدهما، فأعرض عن سؤالهما وأخذ في غيره في إظهار المعجزة والدعاء إلى التوحيد.

.تفسير الآية رقم (37):

{قَالَ لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37)}
{قَالَ لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ} قيل: أراد به في النوم يقول: لا يأتيكما طعام ترزقانه في نومكما، {إِلا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ} في اليقظة.
وقيل: أراد به في اليقظة، يقول: لا يأتيكما طعام من منازلكما ترزقانه، تُطعمانه وتأكلانه إلا نبأتكما بتأويله بقدره ولونه والوقت الذي يصل فيه إليكما.
{قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا} قبل أن يصل إليكما، وأي طعام أكلتم وكم أكلتم ومتى أكلتم، فهذا مثل معجزة عيسى عليه السلام حيث قال: {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} [آل عمران- 49] فقالا هذا فعل العرَّافين والكهنة، فمن أين لك هذا العلم؟ فقال: ما أنا بكاهن وإنما {ذَلِكُمَا} العلم، {مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} وتكرار {هُمْ} على التأكيد.

.تفسير الآيات (38- 39):

{وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (38) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39)}
{وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} أظهر أنه من ولد الأنبياء {مَا كَانَ لَنَا} ما ينبغي لنا، {أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} معناه: أن الله قد عصمنا من الشرك، {ذَلِكَ} التوحيد والعلم، {مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ} ما بين لهم من الهدى، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} ثم دعاهما إلى الإسلام فقال: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ} جعلهما صاحبي السجن لكونهما فيه، كما يقال لسكان الجنة: أصحاب الجنة، ولسكان النار: أصحاب النار، {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ} أي: آلهة شتَّى، هذا من ذهب، وهذا من فضة، وهذا من حديد، وهذا أعلى، وهذا أوسط، وهذا أدنى، متباينون لا تضر ولا تنفع، {خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} الذي لا ثاني له. القهار: الغالب على الكل. ثم بيَّن عجز الأصنام فقال: