فصل: تفسير الآيات (40- 42):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآيات (40- 42):

{مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ أَمَرَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (40) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الأمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41) وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42)}
{مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ} أي: من دون الله، وإنما ذُكر بلفظ الجمع وقد ابتدأ الخطاب للاثنين لأنه أراد جميعَ أهل السجن، وكل من هو على مثل حالهما من أهل الشرك، {إِلا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا} آلهة وأربابا خالية عن المعنى لا حقيقة لتلك الأسماء، {أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} حجة وبرهان، {إِنِ الْحُكْمُ} ما القضاء والأمر والنهي، {إِلا لِلَّهِ أَمَرَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} المستقيم، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} ثم فسَّر رؤياهما فقال: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا}.
{يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا} وهو صاحب الشراب، {فَيَسْقِي رَبَّهُ} يعني الملك {خَمْرًا} والعناقيد الثلاثة ثلاثة أيام يبقى في السجن ثم يدعوه الملك بعد الثلاثة أيام، ويردّه إلى منزلته التي كان عليها، {وَأَمَّا الآخَرُ} يعني: صاحب الطعام فيدعوه الملك بعد ثلاثة أيام، والسلال الثلاث الثلاثة أيام يبقى في السجن، ثم يخرجه، {فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ}.
قال ابن مسعود: لمَّا سَمِعَا قول يوسف قالا ما رأينا شيئا إنمّا كنّا نلعب، قال يوسف: {قُضِيَ الأمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ}، أي: فُرغ من الأمر الذي عنه تسألان، ووجب حكم الله عليكما الذي أخبرتُكما به، رأيتُما أو لم ترَيا.
{وَقَال} يعني: يوسف عند ذلك، {لِلَّذِي ظَنَّ} علم {أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا} وهو الساقي، {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} يعني: سيدك الملك، وقل له: إن في السجن غلاما محبوسا ظلما طال حبسه.
{فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ} قيل: أنسى الشيطان الساقي ذكر يوسف للملك، تقديره: فأنساه الشيطان ذكره لربه.
قال ابن عباس وعليه الأكثرون: أنسى الشيطانُ يوسفَ ذكرَ ربّه حين ابتغى الفرج، من غيره واستعان بمخلوق، وتلك غفلة عرضت ليوسف من الشيطان.
{فَلَبِث} فمكث، {فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} واختلفوا في معنى البضع، فقال مجاهد: ما بين الثلاث إلى السبع.
وقال قتادة: ما بين الثلاث إلى التسع.
وقال ابن عباس: ما دون العشرة.
وأكثر المفسرين على أن البضع في هذه الآية سبع سنين، وكان قد لبث قبله خمس سنين فجملتُه اثنتا عشرة سنة.
وقال وهب: أصاب أيوب البلاء سبع سنين، وتُرك يوسف في السجن سبع سنين، وعذب بختنصر فحول في السباع سبع سنين.
قال مالك بن دينار: لما قال يوسف للساقي اذكرني عند ربك، قيل له: يا يوسف اتخذتَ من دوني وكيلا لأطيلنَّ حبسَك، فبكى يوسف، وقال: يا رب أنسى قلبي كثرةُ البلوى فقلتُ كلمةً ولن أعود.
وقال الحسن: دخل جبريل على يوسف في السجن، فلما رآه يوسف عرفه فقال له: يا أخا المنذرين ما لي أراك بين الخاطئين؟ فقال له جبريل: يا طاهر الطاهرين يقرأ عليك السلام رب العالمين، ويقول لك: أما استحييت مني أن استشفعتَ بالآدميين، فوعزتي لألبثنَّك في السجن بضع سنين، قال يوسف: وهو في ذلك عني راض؟ قال: نعم، قال: إذاً لا أبالي.
وقال كعب: قال جبريل ليوسف إن الله تعالى يقول من خلقك؟ قال: الله، قال: فمن حبَّبكَ إلى أبيك؟ قال: الله، قال: فمن نجَّاك من كرب البئر؟ قال: الله، قال: فمن علَّمك تأويلَ الرؤيا؟ قال: الله، قال: فمن صرف عنك السوء والفحشاء؟ قال: الله، قال: فكيف استشفعت بآدمي مثلك؟.
فلما انقضت سبع سنين- قال الكلبي: وهذا السبع سوى الخمسة التي كانت قبل ذلك- ودَنَا فَرَجُ يوسف، رأى ملك مصر الأكبر رؤيا عجيبة هالته، وذلك أنه رأى سبع بقرات سمان، خرجت من البحر، ثم خرج عقبهن سبع بقرات عجاف في غاية الهزال، فابتلعت العجافُ السِّمانَ فدخلن في بطونهن، ولم يُرَ منهن شيء ولم يتبين على العجاف منها شيء، ثم رأى سبع سنبلات خضر قد انعقد حَبُّها، وسبعا أخرى يابسات قد استحصدت، فالتوت اليابسات على الخضر حتى غلبن عليها، ولم يبق من خضرتها شيء، فجمع السحرة والكهنة والحازة والمعبرين وقصَّ عليهم رؤياه، فذلك قوله تعالى:

.تفسير الآيات (43- 46):

{وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43) قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأحْلامِ بِعَالِمِينَ (44) وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِي (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46)}
{وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ} فقال لهم، {يَا أَيُّهَا الْمَلأ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ}.
{قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ} أخلاط أحلام مشتبهة، أهاويلَ، واحدها ضغث، وأصله الحزمة من أنواع الحشيش، والأحلام جمع الحُلْم، وهو الرؤيا، والفعل منه حلمت أحلم، بفتح اللام في الماضي وضمها في الغابر، حُلُما وحُلْما، مثقّلا ومخففا. {وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأحْلامِ بِعَالِمِينَ}.
{وَقَالَ الَّذِي نَجَا} من القتل، {مِنْهُمَا} من الفتيين وهو الساقي، {وَادَّكَرَ} أي: تذكر قول يوسف اذكرني عندَ ربّك، {بَعْدَ أُمَّةٍ} بعد حين وهو سبع سنين. {أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ} وذلك أن الغلام جثا بين يدي الملك، وقال: إن في السجن رجلا يعبر الرؤيا، {فَأَرْسِلُونِ} وفيه اختصار تقديره: فأرسلني أيها الملك إليه، فأرسله فأتى السجن قال ابن عباس: ولم يكن السجن في المدينة.
فقال: {يُوسُف} يعني: يا يوسف، {أَيُّهَا الصِّدِّيقُ} والصديق الكثير الصدق، {أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ} فإن الملك رأى هذه الرؤيا، {لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ} أهل مصر، {لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ} تأويل الرؤيا. وقيل: لعلهم يعلمون منزلتك في العلم.
فقال لهم يوسف معبرا ومعلما: أمّا البقرات السمان والسنبلات الخضر: فسبع سنين مخاصيب، والبقرات العجاف والسنبلات اليابسات فالسنون المجدبة، فذلك قوله تعالى إخبارا عن يوسف:

.تفسير الآيات (47- 50):

{قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلا قَلِيلا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلا قَلِيلا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49) وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50)}
{قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا} هذا خبر بمعنى الأمر، يعني: ازرعُوا سبعَ سنين على عادتكم في الزراعة.
والدأب: العادة. وقيل: بجدٍّ واجتهاد.
وقرأ عاصم برواية حفص: {دَأَبًا} بفتح الهمزة، وهما لغتان، يقال: دأبت في الأمر أدأب دَأَبا ودَأْبا إذا اجتهدت فيه. {فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ} أمرهم بترك الحنطة في السنبلة لتكون أبقى على الزمان ولا تفسد، {إِلا قَلِيلا مِمَّا تَأْكُلُونَ} أي: مما تدرسون قليلا للأكل، أمرهم بحفظ الأكثر والأكل بقدر الحاجة.
{ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ} سمى السنين المجدبة شدادا لشدّتها على الناس، {يَأْكُلْنَ} أي: يفنين ويُهلكن، {مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ} أي: يؤكل فيهن ما أعددتم لهن من الطعام، أضاف الأكل إلى السنين على طريق التوسع {إِلا قَلِيلا مِمَّا تُحْصِنُونَ} تُحْرِزُونَ وتدَّخرون للبذر.
{ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ} أي: يمطرون، من الغيث: وهو المطر. وقيل: ينقذون من قول العرب استغثت فلانا فأغاثني، {وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} قرأ حمزة والكسائي: {تعصرون} بالتاء، لأن الكلام كله على الخطاب، وقرأ الآخرون بالياء ردا إلى الناس، ومعناه: يعصرون العنب خمرا، والزيتون زيتا، والسمسم دهنا. وأراد به كثرة النعيم والخير. وقال أبو عبيدة: يعصرون أي ينجون من الكروب والجدب، والعَصَر والعَصْرة: المنجاة والملجأ.
{وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ} وذلك أن الساقي لما رجع إلى الملك وأخبره بما أفتاه يوسف من تأويل رؤياه، وعرف الملك أن الذي قاله كائن، قال: ائتوني به.
{فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ} وقال له: أجب الملك، أبى أن يخرج مع الرسول حتى تظهر براءته ثم {قَالَ} للرسول: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ} يعني: سيدك الملك، {فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} ولم يصرح بذكر امرأة العزيز أدبا واحتراما.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لو لبثتُ في السجن طول ما لبثَ يوسف لأجبتُ الداعي».
{إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} أي: إن الله بصنيعهن عالم، وإنما أراد يوسف بذكرهن بعد طول المدة حتى لا ينظر إليه الملك بعين التهمة، ويصير إليه بعد زوال الشك عن أمره، فرجع الرسول إلى الملك من عند يوسف برسالته، فدعا الملكُ النسوةَ وامرأة العزيز.

.تفسير الآيات (51- 52):

{قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52)}
{قَالَ} لهن {مَا خَطْبُكُنَّ} ما شأنكن وأمركن، {إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ} خاطبهن والمراد امرأة العزيز، وقيل: إن امرأة العزيز راودته عن نفسه وسائر النسوة أَمَرْنَهُ بطاعتها فلذلك خاطبهن.
{قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ} معاذ لله، {مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ} خيانة.
{قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ} ظهر وتبين. وقيل: إن النسوة أقبلن على امرأة العزيز فقررنها فأقرت، وقيل: خافت أن يشهدن عليها فأقرت. {أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} في قوله: هي راودتني عن نفسي، فلما سمع ذلك يوسف قال: {ذَلِك} أي: ذلك الذي فعلت من ردّي رسول الملك إليه، {لِيَعْلَم} العزيز، {أَنِّي لَمْ أَخُنْه} في زوجته، {بِالْغَيْبِ} أي: في حال غيبته، {وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} قوله ذلك ليعلم من كلام يوسف اتصل بقول امرأة العزيز: أنا راودته عن نفسه، من غير تميز، لمعرفة السامعين.
وقيل: فيه تقديم وتأخير: معناه: ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطَّعن أيدِيَهنَّ إنَّ ربي بكيدهن عليم، ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب.
قيل: لما قال يوسف هذه المقالة، قال له جبريل: ولا حين هممت بها؟ فقال يوسف عند ذلك: وما أبرئ نفسي.
قال السدي: إنما قالت له امرأة العزيز: ولا حين حللت سراويلك يا يوسف؟ فقال يوسف:

.تفسير الآيات (53- 54):

{وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53) وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54)}
{وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي} من الخطأ والزلل فأزكيها، {إِنَّ النَّفْسَ لأمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} بالمعصية {إِلا مَا رَحِمَ رَبِّي} أي: إلا من رحم ربي فعصمه، {ما} بمعنى من- كقوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ} [النساء- 3] أي: مَنْ طاب لكم- وهم الملائكة، عصمهم الله عز وجل فلم يركّبْ فيهم الشهوة.
وقيل: {إلا ما رحم ربي} إشارة إلى حالة العصمة عند رؤية البرهان.
{إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} فلما تبين للملك عذر يوسف عليه السلام وعرف أمانته وعلمه: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي} أي: أجعله خالصا لنفسي، {فَلَمَّا كَلَّمَهُ} فيه اختصار تقديره: فجاء الرسول يوسف فقال له: أجب الملك الآن.
رُوي أنه قام ودعا لأهل السجن فقال: اللهم عطِّف عليهم قلوب الأخيار، ولا تُعَمِّ عليهم الأخبار، فهم أعلم الناس بالأخبار في كل بلد، فلما خرج من السجن كتب على باب السجن: هذا قبر الأحياء، وبيت الأحزان، وتجربة الأصدقاء، وشماتة الأعداء. ثم اغتسل وتنظف من درن السجن ولبس ثيابا حسانا وقصد الملك.
قال وهب: فلما وقف بباب الملك قال: حسبي ربي من دنياي، وحسبي ربي من خلقه، عزّ جارُه، وجلّ ثناؤُه، ولا إله غيره. ثم دخل الدار فلما دخل على الملك قال: اللهم إني أسألك بخيرك من خيره، وأعوذ بك من شره وشر غيره. فلما نظر إليه الملك سلَّم عليه يوسف بالعربية فقال: الملك ما هذا اللسان؟ قال: لسان عمي إسماعيل، ثم دعا له بالعبرانية فقال الملك: ما هذا اللسان؟ قال هذا لسان آبائي، ولم يعرف الملك هذين اللسانين.
قال وهب: وكان الملك يتكلم بسبعين لسانا فكلما تكلم بلسان أجابه يوسف بذلك اللسان وزاد عليه بلسان العربية والعبرانية، فأعجب الملك ما رأى منه مع حداثة سنه، وكان يوسف يومئذ ابن ثلاثين سنة، فأجلسه و، {قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ} المكانة في الجاه، {أَمِينٌ} أي: صادق.
وروي أن الملك قال له: إني أحب أن أسمع رؤياي منك شفاها.
فقال يوسف: نعم أيها الملك، رأيتَ سبع بقرات سمان شهب غرٍّ حِسَان، كشفَ لك عنهنَّ النيل، فطلعنَ عليك من شاطئه تشخب أخلافهن لبنا، فبينما أنت تنظر إليهن ويعجبك حُسنهنّ إذ نضب النيلُ فغار ماؤه وبدا يبسه، فخرج من حمأته سبع بقرات عجاف شُعثٍ غُبرٍ مُتقلّصات البطون، ليس لهن ضروع ولا أخلاف، ولهن أنياب وأضراس وأكف كأكف الكلاب، وخراطيم كخراطيم السباع، فافترسن السمان افتراس السبع، فأكلن لحومهن، ومَزّقنَ جلودهنّ، وحطمنَ عظامهنّ، وتمششن مخهن، فبينما أنت تنظر وتتعجب إذ سبع سنابل خضر وسبع أخر سود في منبت واحد عروقهن في الثرى والماء، فبينما أنت تقول في نفسك أنى هذا؟ خضر مثمرات وهؤلاء سود يابسات، والمنبت واحد وأصولهنّ في الماء إذ هبت ريح فذرت الأوراق من اليابسات السود على الخضر المثمرات فاشتعلت فيهن النار، فاحترقن فصرن سودا فهذا ما رأيت، ثم انتبهتَ من نومك مذعورا.
فقال الملك: والله ما شأن هذه الرؤيا- وإن كانت عجيبة- بأعجب مما سمعتُ منك، فما ترى في رؤياي أيها الصديق؟
فقال يوسف عليه السلام:أرى أن تجمع الطعام وتزرع زرعا كثيرا في هذه السنين المخصبة، وتجعل الطعام في الخزائن بقصبه وسنبله ليكون القصب والسنبل عَلَفا للدواب، وتأمر الناس فيرفعون من طعامهم الخُمسَ، فيكفيك من الطعام الذي جمعته لأهل مصر ومن حولها، ويأتيك الخلق من النواحي للميرة فيجتمع عندك من الكنوز ما لم يجتمع لأحد قبلك.
فقال الملك: ومن لي بهذا ومن يجمعه ويبيعه ويكفيني الشغل فيه؟.