فصل: تفسير الآية رقم (3):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآية رقم (3):

{وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3)}
{وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأرْضَ} بسطها، {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ} جبالا ثابتة، واحدتها راسية، قال ابن عباس: كان أبو قبيس أول جبل وضع على الأرض {وَأَنْهَارًا} وجعل فيها أنهارا. {وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} أي: صنفين اثنين أحمر وأصفر، وحلوا وحامضا، {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} أي: يلبس النهار بظلمة الليل، ويلبس الليل بضوء النهار، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} فيستدلون. والتفكر تصرف القلب في طلب معاني الأشياء.

.تفسير الآية رقم (4):

{وَفِي الأرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)}
{وَفِي الأرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ} متقاربات يقرب بعضها من بعض، وهي مختلفة: هذه طيبة تنبت، وهذه سبخة لا تنبت، وهذه قليلة الريع، وهذه كثيرة الريع، {وَجَنَّاتٌ} بساتين، {مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ} رفعها كلها ابن كثير، وأبو عمرو، وحفص، ويعقوب، عطفا على الجنات، وجرَّها الآخرون نسقاً على الأعناب. والصنوان: جمع صنو، وهو النخلات يجمعهن أصل واحد.
{وَغَيْرُ صِنْوَانٍ} هي النخلة المنفردة بأصلها. وقال أهل التفسير صنوان: مجتمع، وغير صنوان: متفرق. نظيره من الكلام: قنوان جمع قنو. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في العباس: «عمّ الرجل صنو أبيه». ولا فرق في الصنوان والقنوان بين التثنية والجمع إلا في الإعراب، وذلك أن النون في التثنية مكسورة غير منونة، وفي الجمع منونة.
{يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ} قرأ ابن عامر وعاصم ويعقوب {يُسقى} بالياء أي يسقى ذلك كله بماء واحد، وقرأ الآخرون بالتاء لقوله تعالى: {وَجَنَّاتٌ} ولقوله تعالى من بعد {بعضها على بعض}، ولم يقل بعضه. والماء جسم رقيق مائع به حياة كل نامٍٍ.
{وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأكُلِ} في الثمر والطعم. قرأ حمزة والكسائي {ويفضل} بالياء، لقوله تعالى: {يُدَبِّرُ الأمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ} [الرعد- 2].
وقرأ الآخرون بالنون على معنى: ونحن نفضل بعضها على بعض في الأكل، وجاء في الحديث في قوله: {ونفضل بعضها على بعض في الأكل}، قال: الفارسي، والدَّقَلُ، والحلو، والحامض.
قال مجاهد: كمثل بني آدم، صالحهم وخبيثهم، وأبوهم واحد.
قال الحسن: هذا مثل ضربه الله تعالى لقلوب بني آدم، ويقول: كانت الأرض طينة واحدة في يد الرحمن عز وجل، فسطحها، فصارت قطعاً متجاورةً، فينزل عليها المطر من السماء، فتخرج هذه زهرتها، وشجرها وثمرها ونباتها، وتخرج هذه سَبَخَها وملحها وخبيثها وكل يُسقَى بماء واحد، كذلك الناس خلقوا من آدم عليه السلام فينزل من السماء تذكرة فترق قلوب فتخشع، وتقسو قلوب فتلهو.
قال الحسن: والله ما جالس القرآن أحد إلا قام من عنده بزيادة أو نقصان، قال الله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا} [الإسراء- 82].
{إِنَّ فِي ذَلِكَ} الذي ذكرت {لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}.

.تفسير الآية رقم (5):

{وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الأغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (5)}
{وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ} العجب تغير النفس برؤية المستبعد في العادة، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعناه: إنك إن تعجب من إنكارهم النشأة الآخرة مع إقرارهم بابتداء الخلق من الله عز وجل فعجب أمرهم.
وكان المشركون ينكرون البعث، مع إقرارهم بابتداء الخلق من الله تعالى، وقد تقرر في القلوب أن الإعادة أهون من الابتداء، فهذا موضع العجب.
وقيل: معناه: وإن تعجب من تكذيب المشركين واتخاذهم ما لا يضر ولا ينفع آلهة يعبدونها وهم قدْ رأوا من قدرة الله تعالى ما ضرب لهم به الأمثال فعجب قولهم، أي: فتعجب أيضا من قولهم: {أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا} بعد الموت، {أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} أي: نعاد خلقا جديدا كما كنا قبل الموت.
قرأ نافع والكسائي ويعقوب {أئذا} مستفهما {إنّا} بتركه، على الخبر، ضده: أبو جعفر وابن عامر. وكذلك في سبحان في موضعين، والمؤمنون، والم السجدة، وقرأ الباقون بالاستفهام فيهما وفي الصافات في موضعين هكذا إلا أن أبا جعفر يوافق نافعاً في أول الصافات فيقدم الاستفهام ويعقوب لا يستفهم الثانية {أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمدينون} [الصافات- 53].
قال الله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الأغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ} يوم القيامة {وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.

.تفسير الآيات (6- 7):

{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7)}
قوله عز وجل: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ} الاستعجال: طلب تعجيل الأمر قبل مجيء وقته، والسيئة هاهنا هي: العقوبة، والحسنة: العافية. وذلك أن مشركي مكة كانوا يطلبون العقوبة بدلا من العافية استهزاء منهم يقولون: {اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم} [الأنفال- 32].
{وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ} أي: مضت من قبلهم في الأمم التي عصت ربها وكذبت رسلها العقوبات. والمثلات جمع المَثُلَة بفتح الميم وضم الثاء، مثل: صَدُقَة وصَدُقَات.
{وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ}.
{وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ} أي: على محمد صلى الله عليه وسلم {آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} أي: علامة وحجة على نبوته، قال الله تعالى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ} مُخَوِّف، {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} أي: لكل قوم نبي يدعوهم إلى الله تعالى. وقال الكلبي: داعٍٍ يدعوهم إلى الحق أو إلى الضلالة.
وقال عكرمة: الهادي محمد صلى الله عليه وسلم، يقول: إنما أنت منذر وأنت هادٍ لكل قوم، أي: داعٍٍ. وقال سعيد بن جبير: الهادي هو الله تعالى.

.تفسير الآية رقم (8):

{اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الأرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8)}
قوله تعالى: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى} من ذكر أو أنثى، سَوِيِّ الخَلْق أو ناقص الخلق، واحدا أو اثنين أو أكثر {وَمَا تَغِيضُ الأرْحَامُ} أي ما تنقص {وَمَا تَزْدَادُ}.
قال أهل التفسير غيض الأرحام: الحيض على الحمل؛ فإذا حاضت الحامل كان نقصانا في الولد، لأن دم الحيض غذاء الولد في الرحم، فإذا أهرقت الدم ينقص الغذاء فينتقص الولد، وإذا لم تحض يزداد الولد ويتمُّ، فالنقصان نقصان خلقة الولد بخروج الدم، والزيادة تمام خلقته باستمساك الدم.
وقيل: إذا حاضت ينتقص الغذاء وتزداد مدة الحمل حتى تستكمل تسعة أشهر ظاهرا، فإن رأت خمسة أيام دماً وضعت لتسعة أشهر وخمسة أيام، فالنقصان في الغذاء، والزيادة في المدة.
وقال الحسن: غيضها: نقصانها من تسعة أشهر والزيادة، زيادتها على تسعة أشهر. وقيل النقصان: السَّقط، والزيادة: تمام الخلق. وأقل مدة الحمل: ستة أشهر، فقد يولد المولود لهذه المدة ويعيش.
واختلفوا في أكثرها: فقال قوم: أكثرها سنتان، وهو قول عائشة رضي الله عنها، وبه قال أبو حنيفة رحمه الله. وذهب جماعة إلى أن أكثرها أربع سنين، وإليه ذهب الشافعي رحمه الله، قال حماد بن سلمة. إنما سمي هَرِِم بن حيَّان هرماً لأنه بقي في بطن أمه أربع سنين. {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} أي: بتقدير وَحَدٍّ لا يجاوزه ولا يقصر عنه.

.تفسير الآيات (9- 11):

{عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9) سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10) لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)}
{عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ} الذي كل شيء دونه، {الْمُتَعَالِ} المستعلي على كل شيء بقدرته.
قوله تعالى: {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ} أي: يستوي في علم الله المُسِرّ بالقول والجاهر به، {وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ} أي: مستتر بظلمة الليل، {وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} أي: ذاهب في سربه ظاهر. والسَّرْب- بفتح السين وسكون الراء-: الطريق.
قال القتيبي: سارب بالنهار: أي متصرف في حوائجه. قال ابن عباس في هذه الآية هو صاحب ريبة، مستخفٍ بالليل، فإذا خرج بالنهار أرى الناس أنه بريء من الإثم. وقيل: مستخف بالليل، أي: ظاهر، من قولهم: خفيت الشيء؛ إذا أظهرته، وأخفيته: إذا كتمته. وسارب بالنهار: أي متوارٍ داخل في سرب.
{لَهُ مُعَقِّبَاتٌ} أي: لله تعالى ملائكة يتعاقبون فيكم بالليل والنهار، فإذا صعدت ملائكة الليل جاء في عقبها ملائكة النهار، وإذا صعدت ملائكة النهار جاء في عقبها ملائكة الليل. والتعقيب: العود بعد البدء، وإنما ذكر بلفظ التأنيث لأن واحدها معقِّب، وجمعه معقِّبة، ثم جمع الجمع معقِّبات، كما قيل: أبناوات سعد ورجالات بكر.
أخبرنا أبو الحسن السرخسي، أخبرنا زاهر بن أحمد، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي، أخبرنا أبو مصعب، عن مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يَتَعاقَبُون فيكم، ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يَعْرُجُ الذين بَاتُوا فيكم، فيسألُهم ربهم- وهو أعلم بهم-: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلُّون وأتيناهم وهم يصلُّون».
قوله تعالى: {مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} يعني: من قدام هذا المستخفي بالليل والسارب بالنهار، ومن خلفه: من وراء ظهره، {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} يعني: بأمر الله، أي: يحفظونه بإذن الله ما لم يجئ المقدور، فإذا جاء المقدور خلوا عنه. وقيل: يحفظونه من أمر الله: أي مما أمر الله به من الحفظ عنه.
قال مجاهد: ما من عبد إلا وله ملك موكَّل به، يحفظه في نومه ويقظته من الجن والإنس والهوامّ، فما منهم شيء يأتيه يريده إلا قال وراءك! إلا شيء يأذن الله فيه فيصيبه.
قال كعب الأحبار: لولا أن الله عز وجل وكّل بكم ملائكة يَذُبُّون عنكم في مطعمكم ومشربكم وعوراتكم لتخطَّفكم الجن. وقال عكرمة: الآية في الأمراء وحرسهم يحفظونهم من بين أيديهم ومن خلفهم.
وقيل: الآية في المَلَكَيْن القاعِدَيْن عن اليمين وعن الشمال يكتبان الحسنات والسيئات، كما قال الله تعالى: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} [ق- 17]. قال ابن جريج: معنى يحفظونه أي: يحفظون عليه أعماله من أمر الله، يعني: الحسنات والسيئات. وقيل: الهاء في قوله: {له}: راجعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. روى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس أنه قال: له معقبات يعني لمحمد صلى الله عليه وسلم حراس من الرحمن من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله يعني: من شر الجن وطوارق الليل والنهار.
وقال عبد الرحمن بن زيد: نزلت هذه الآيات في عامر بن الطفيل، وأربد بن ربيعة، وكانت قصتهما على ما روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أقبل عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة، وهما عامريان، يريدان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو جالس في المسجد في نفر من أصحابه، فدخلا المسجد فاستشرف الناس لجمال عامر، وكان أعور وكان من أجلَّ الناس فقال رجل: يا رسول الله، هذا عامر بن الطفيل قد أقبل نحوك، فقال: دعه فإن يرد الله به خيرا يهده.
فأقبل حتى قام عليه، فقال: يا محمد مالي إن أسلمت؟
قال: «لك ما للمسلمين وعليك ما على المسلمين».
قال: تجعل لي الأمر بعدك.
قال: ليس ذلك إلي، إنما ذلك إلى الله عز وجل، يجعله حيث يشاء.
قال: فتجعلني على الوبر وأنت على المدر، قال: لا.
قال: فماذا تجعل لي؟
قال: أجعل لك أعِنة الخيل تغزو عليها.
قال: أوليس ذلك إليَّ اليوم؟ قم معي أكلمك. فقام معه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان عامر أوصى إلى أربد بن ربيعة إذا رأيتني أكلمه فَدُرْ من خلفه فاضربه بالسيف، فجعل يخاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويراجعه فدار أربد خلف النبي صلى الله عليه وسلم ليضربه، فاخترط من سيفه شبرا، ثم حبسه الله تعالى عنه، فلم يقدر على سلّه، وجعل عامر يومئ إليه، فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأى أربد وما صنع بسيفه، فقال: اللهم اكفنيهما بما شئت. فأرسل الله على أربد صاعقة في يوم صحو قائظ فأحرقته، وولّى عامر هاربا وقال: يا محمد دعوت ربك فقتل أربد والله لأملأنها عليك خيلا جرداً وفتياناً مرداً.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يمنعك الله تعالى من ذلك، وأبناء قيلة يريد: الأوس والخزرج. فنزل عامر بيت امرأة سلولية، فلما أصبح ضمَّ عليه سلاحه وقد تغير لونه، فجعل يركض في الصحراء، ويقول: ابرز يا ملك الموت، ويقول الشعر، ويقول: واللات والعزى لئن أبصرت محمدا وصاحبه يعني ملك الموت لأنفذنَّهما برمحي، فأرسل الله إليه ملكاً فلطمه بجناحه فأرداه في التراب وخرجت على ركبتيه في الوقت غُدَّة عظيمة، فعاد إلى بيت السلولية وهو يقول: غدة كغدة البعير وموت في بيت سلولية. ثم دعا بفرسه فركبه ثم أجراه حتى مات على ظهره فأجاب الله دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقتل عامر بن الطفيل بالطعن وأربد بالصاعقة، وأنزل الله عز وجل في هذه القصة قوله: {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ} يعني لرسول الله صلى الله عليه وسلم معقبات يحفظونه من بين يديه ومن خلفه من أمر الله. يعني تلك المعقبات من أمر الله. وفيه تقديم وتأخير.
وقال لهذين: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ} من العافية والنعمة، {حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}.
من الحال الجميلة فيعصوا ربهم.
{وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا} أي: عذابا وهلاكا {فَلا مَرَدَّ لَهُ} أي: لا رادَّ له {وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} أي: ملجأ يلجؤون إليه. وقيل: والٍٍ يلي أمرهم ويمنع العذاب عنهم.