فصل: تفسير الآيات (32- 33):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآيات (32- 33):

{وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (32) أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي الأرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33)}
{وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ} كما استهزؤوا بك، {فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} أمهلتهم وأطلت لهم المدة، ومنه المَلَوانِ وهما: الليل والنهار، {ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ} عاقبتهم في الدنيا بالقتل وفي الآخرة بالنار، {فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} أي: عقابي لهم.
{أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} أي: حافظها، ورازقها، وعالم بها، ومجازيها بما عملت. وجوابه محذوف، تقديره: كمن ليس بقائم بل عاجز عن نفسه.
{وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ} بينوا أسماءهم.
وقيل: صِفُوهم ثم انظروا: هل هي أَهْل لأن تُعبد؟
{أَمْ تُنَبِّئُونَهُ} أي: تُخبرون الله تعالى: {بِمَا لا يَعْلَمُ فِي الأرْضِ} فإنه لا يعلم لنفسه شريكاً ولا في الأرض إلها غيره، {أَمْ بِظَاهِرٍ} يعني: أم تتعلقون بظاهر، {مِنَ الْقَوْلِ} مسموعٍٍ، وهو في الحقيقة باطل لا أصل له.
وقيل: بباطل من القول: قال الشاعر:
وعَيَّرني الواشون أني أحبها ** وتلك شَكاةٌ ظاهرٌ عنك عارُها

أي: زائل.
{بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ} كيدهم. وقال مجاهد: شركهم وكذبهم على الله.
{وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ} أي: صرفوا عن الدين.
قرأ أهل الكوفة ويعقوب {وَصُدُّوا} وفي حم المؤمن {وَصُدَّ} بضم الصاد فيهما، وقرأ الآخرون بالفتح لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الحج- 25]، وقوله: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [النحل- 88 وغيرها].
{وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ} بخذلانه إياه، {فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}.

.تفسير الآيات (34- 36):

{لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35) وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الأحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ (36)}
{لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} بالقتل والأسر، {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ} أشد، {وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ} مانع يمنعهم من العذاب.
قوله عز وجل: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} أي: صفة الجنة، كقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأعْلَى} [النحل- 60] أي: الصفة العليا، {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ} أي: صفة الجنة التي وعد المتقون أن الأنهار تجري من تحتها.
وقيل: {مثل} صلةٌ مجازُها {الجنة التي وُعد المتقون تجري من تحتها الأنهار}.
{أُكُلُهَا دَائِمٌ} أي: لا ينقطع ثمرها ونعيمها، {وَظِلُّهَا} أي: ظلها ظليل، لا يزول، وهو ردٌّ على الجهمية حيث قالوا إن نعيم الجنة يفنى.
{تِلْكَ عُقْبَى} أي: عاقبة {الَّذِينَ اتَّقَوْا} يعني: الجنة، {وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ}.
قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} يعني: القرآن، وهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم {يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} من القرآن، {وَمِنَ الأحْزَابِ} يعني: الكفار الذين تحزبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم اليهود والنصارى، {مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ} هذا قول مجاهد وقتادة.
وقال الآخرون: كان ذكر الرحمن قليلا في القرآن في الابتداء فلما أسلم عبد الله بن سلام وأصحابه ساءهم قلة ذكره في القرآن مع كثرة ذكره في التوراة، فلما كرر الله ذكره في القرآن فرحوا به فأنزل الله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الأحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ} يعني: مشركي مكة حين كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتاب الصلح: بسم الله الرحمن الرحيم، قالوا: ما نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة، يعنون مسيلمة الكذاب، فأنزل الله عز وجل: {وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ} [الأنبياء- 36] {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} [الرعد- 30]. وإنما قال: {بعضه} لأنهم كانوا لا ينكرون ذكر الله وينكرون ذكر الرحمن.
{قُلْ} يا محمد، {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ} أي: مرجعي.

.تفسير الآيات (37- 38):

{وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا وَاقٍ (37) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38)}
{وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا} يقول: كما أنزلنا إليك الكتابَ يا محمد، فأنكره الأحزاب، كذلك أنزلنا الحكم والدين عربياً. نُسِبَ إلى العرب لأنه نزل بلغتهم فكذب به الأحزاب. وقيل: نظم الآية: كما أنزلتُ الكتبَ على الرسل بلغاتهم، فكذلك أنزلنا عليك الكتاب حكماً عربياً.
{وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ} في الملة. وقيل: في القبلة، {بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا وَاقٍ} يعني: من ناصر ولا حافظ.
قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلا مِنْ قَبْلِكَ} روي أن اليهود،- وقيل: إن المشركين- قالوا: إنَّ هذا الرجل ليست له همة إلا في النساء فأنزل الله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} وما جعلناهم ملائكة لا يأكلون ولا يشربون ولا ينكحون.
{وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ} هذا جواب عبد الله بن أبي أمية. ثم قال: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} يقول: لكل أمر قضاهُ اللهُ كتابٌ قد كتبه فيه ووقت يقع فيه.
وقيل: لكل آجل أجَّلَهُ الله كتاب أثبت فيه. وقيل: فيه تقديم وتأخير، تقديره: أي، لكل كتاب أجلٌ ومدة، أي: الكتب المنزلة لكل واحدٍ منها وقت ينزل فيه.

.تفسير الآية رقم (39):

{يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39)}
{يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} قرأ ابن كثير وأبو عمرو، وعاصم ويعقوب {ويثبتُ} بالتخفيف وقرأ الآخرون بالتشديد. واختلفوا في معنى الآية:
فقال سعيد بن جبير، وقتادة: يمحو الله ما يشاء من الشرائع والفرائض فينسخه ويبدله، ويثبت ما يشاء منها فلا ينسخه.
وقال ابن عباس: يمحو الله ما يشاء ويثبت إلا الرزق والأجل والسعادة والشقاوة.
وروينا عن حذيفة بن أُسَيْد عن النبي صلى الله عليه وسلم: «يدخُلُ المَلَكُ على النُّطْفَةِ بعدما تستقرُّ في الرحم بأربعين، أو خمس وأربعين ليلة، فيقول: يا رب أَشَقِي أم سعيد؟ فَيُكْتَبَانِ، فيقول: إيْ ربِّ أذكرٌ أم أنثى؟ فَيُكْتَبَانِ، ويُكْتَبُ عملُه وأثرُه وأجلُه ورزقه، ثم تطوى الصحف فلا يُزاد فيها ولا يُنْقَصُ».
وعن عمر وابن مسعود- رضي الله عنهما- أنهما قالا يمحو السعادةَ والشقاوةَ أيضاً، ويمحو الرِزق والأجلَ ويثبتُ ما يشاء.
وروي عن عمر رضي الله عنه أنه كان يطوف بالبيت وهو يبكي ويقول: اللهم إن كنت كتبتني في أهل السعادة فأثبتني فيها، وإن كنت كتبت عليَّ الشقاوة فامحني، وأثبتني في أهل السعادة والمغفرة، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب. ومثله عن ابن مسعود.
وفي بعض الآثار: أن الرجل يكون قد بقي من عمره ثلاثون سنة فيقطع رحمه فترد إلى ثلاثة أيام، والرجل يكون قد بقي من عمره ثلاثة أيام فيصل رحمه فيمد إلى ثلاثين سنة.
أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أبو منصور السمعاني، حدَّثنا أبو جعفر الرياني، حدثنا حميد بن زنجويه، حدثنا عبد الله بن صالح، حدثني الليث بن سعد، حدثني زيادة بن محمد الأنصاري، عن محمد بن كعب القرظي، عن فضالة بن عبيد، عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ينزل الله عز وجل في آخر ثلاث ساعات يَبْقَيْنَ من الليل، فينظر في الساعة الأولى منهن في أم الكتاب الذي لا ينظر فيه أحد غيره فيمحو ما يشاء ويثبت».
وقيل: معنى الآية: إنّ الحفظة يكتبون جميع أعمال بني آدم وأقوالهم، فيمحو الله من ديوان الحفظة ما ليس فيه ثوابٌ ولا عقاب، مثل قوله: أكلت، شربت، دخلت، خرجت، ونحوها من كلام هو صادق فيه، ويثبت ما فيه ثواب وعقاب، هذا قول الضحاك والكلبي.
وقال الكلبي: يكتب القولَ كله، حتى إذا كان يوم الخميس طرح منه كل شيء ليس فيه ثواب ولا عقاب.
وقال عطية عن ابن عباس: هو الرجل يعمل بطاعة الله عز وجل ثم يعود لمعصيةِ الله فيموت على ضلالة فهو الذي يمحو، والذي يثبت: الرجل يعمل بطاعة الله، فيموت وهو في طاعةِ الله عز وجل فهو الذي يثبت.
وقال الحسن: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ} أي من جاء أجلهُ يذهب به ويثبت مَنْ لم يجئ أجلُهُ إلى أجله.
وعن سعيد بن جبير قال: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ} من ذنوب العباد فيغفرها ويثبت ما يشاء فلا يغفرها.
وقال عكرمة: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ} من الذنوب بالتوبة، ويثبت بدل الذنوب حسنات، كما قال الله تعالى: {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان- 70]. وقال السدي: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ} يعني القمر {وَيُثْبِتُ} يعني الشمس، بيانه قوله تعالى: {فَمَحَوْنَا آَيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آَيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} [الإسراء- 12].
وقال الربيع: هذا في الأرواح يقبضها الله عند النوم، فمن أراد موتَه مَحاه فأمسكه، ومن أراد بقاءه أثبته وردَّه إلى صاحبه، بيانه قوله عز وجل: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} الآية [الزمر- 42]. {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} أي: أصل الكتاب، وهو اللوح المحفوظ الذي لا يبدَّل ولا يغير.
وقال عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: هما كتابان: كتابٌ سوى أم الكتاب، يمحو منه ما يشاء ويثبتُ، وأم الكتاب الذي لا يُغيّر منه شيء.
وعن عطاء عن ابن عباس قال: إن لله تعالى لوحاً محفوظاً مسيرة خمسمائة عام، من درة بيضاء لها دفتان من ياقوت، لله في كل يوم ثلاثمائة وستون لحظة {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} وسأل ابن عباس كعباً عن أم الكتاب؟ فقال: علم الله، ما هو خالق، وما خَلْقُه عاملون.

.تفسير الآيات (40- 41):

{وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41)}
{وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} من العذاب قبل وفاتك، {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} قبل ذلك، {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ} ليس عليك إلا ذلك، {وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} الجزاء يوم القيامة.
قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا} يعني: أهل مكة، الذين يسألون محمداً صلى الله عليه وسلم الآيات، {أَنَّا نَأْتِي الأرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} أكثر المفسرين على أن المراد منه فتح ديار الشرك، فإن ما زاد في ديار الإسلام فقد نقص من ديار الشرك، يقول: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} فنفتَحُها لمحمد أرضاً بعد أرض حوالي أرضهم، أفلا يعتبرون؟ هذا قول ابن عباس وقتادة وجماعة.
وقال قوم: هو خراب الأرض، معناه: أَو لَمْ يروا أنا نأتي الأرض فنخربها، ونُهلك أهلَها، أفلا يخافون أن نفعل بهم ذلك؟
وقال مجاهد: هو خراب الأرض وقبض أهلها.
وعن عكرمة قال: قبض الناس. وعن الشعبي مثله.
وقال عطاء وجماعة: نقصانها موت العلماء، وذهاب الفقهاء.
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنبأنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا إسماعيل بن أبي أويس، حدثني مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنَّ الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبْقِ عالماً اتَّخذ الناس رُؤساءَ جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضَلُّوا وأضَلُّوا».
وقال الحسن: قال عبد الله بن مسعود: موتُ العالم ثلمةٌ في الإسلام لا يسدها شيء ما اختلف الليل والنهار.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: عليكم بالعلم قبل أن يُقبض وقَبضُه ذهابُ أهله.
وقال علي رضي الله عنه: إنما مثل الفقهاء كمثل الأكف إذا قطعت كفّ لم تَعُدْ.
وقال سليمان: لا يزال الناس بخير ما بقي الأول حتى يتعلم الآخِرُ، فإذا هلك الأولُ قبل أن يتعلّم الآخر هَلكَ الناس.
وقيل لسعيد بن جبير: ما علامة هلاك الناس؟ قال: هلاك عُلمائهم.
{وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} لا رادَّ لقضائه، ولا ناقض لحكمه، {وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}.

.تفسير الآيات (42- 43):

{وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)}
{وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} يعني: من قبل مشركي مكة، والمكر: إيصالُ المكروه إلى الإنسان من حيث لا يشعر.
{فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا} أي: عند الله جزاء مكرهم وقيل: إن الله خالق مكرهم جميعا، بيده الخيرُ والشرُ، وإليه النفع والضر، فلا يضر مَكْرُ أحدٍ أحدا إلا بإذنه.
{يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ} قرأ أهل الحجاز وأبو عمرو {الكافر} على التوحيد، وقرأ الآخرون: {الْكُفَّارُ} على الجمع. {لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ} أي: عاقبة الدار الآخرة حين يدخلون النار، ويدخل المؤمنون الجنة.
{وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} إني رسوله إليكم {وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} يريد: مؤمني أهل الكتاب يشهدون أيضاً على ذلك.
قال قتادة: هو عبد الله بن سلام.
وأنكر الشعبي هذا وقال: السورة مكية، وعبد الله بن سلام أسلم بالمدينة.
وقال أبو بشر: قلت لسعيد بن جبير {وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} أهو عبد الله بن سلام؟ فقال: وكيف يكون عبد الله بن سلام وهذه السورة مكية؟
وقال الحسن ومجاهد: {وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} هو الله عز وجل يدل عليه: قراءة عبد الله بن عباس، {وَمِنْ عندِه} بكسر الميم والدال، أي: من عند الله عز وجل، وقرأ الحسن وسعيد بن جبير: {وَمِنْ عِندِه} بكسر الميم والدال {عُلِم الْكِتَابِ} على الفعل المجهول دليل هذه القراءة قوله تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} [الكهف- 65] وقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآَنَ} [الرحمن- 1، 2].