فصل: تفسير الآية رقم (18):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآية رقم (18):

{مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (18)}
{مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ} يعني: أعمال الذين كفروا بربهم- كقوله تعالى: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ} [الزمر- 60]- أي: ترى وجوه الذين كذبوا على الله مسودة، {كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} وصف اليومَ بالعصوف، والعصُوف من صفة الريح لأن الريح تكون فيها، كما يقال: يوم حار ويوم بارد، لأن الحر والبرد فيه.
وقيل: معناه: في يوم عاصف الريح، فحذف الريح لأنها قد ذكرت من قبل. وهذا مَثَلٌ ضربه الله لأعمال الكفار، يريد: أنهم لا ينتفعون بأعمالهم التي عملوها في الدنيا لأنهم أشركوا فيها غير الله كالرماد الذي ذَرَتْه الريح لا ينتفع به، فذلك قوله تعالى: {لا يَقْدِرُونَ} يعني: الكفار {مِمَّا كَسَبُوا} في الدنيا، {عَلَى شَيْءٍ} في الآخرة، {ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ}.

.تفسير الآيات (19- 21):

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20) وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (21)}
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السموات وَالأرْضَ} قرأ حمزة والكسائي {خالقُ السمواتِ والأرضَ} وفي سورة النور {خالق كل دابة} مضافا.
وقرأ الآخرون {خلق} على الماضي {والأرض} وكلٍّ بالنصب.
و{بالحق} أي: لم يخلقهما باطلا وإنما خلقهما لأمرٍ عظيم، {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} سواكم أَطْوَعَ لله منكم.
{وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} منيع شديد، يعني أن الأشياء تسهل في القدرة، لا يصعب على الله تعالى شيء وإن جلّ وعَظُم.
قوله عز وجل: {وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا} أي: خرجوا من قبورهم إلى الله وظهروا جميعا {فَقَالَ الضُّعَفَاءُ} يعني: الأتباع، {لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا} أي: تكبَّروا على الناس وهم القادة والرؤساء: {إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا} جمع تابع، مثل: حَرَس وحارس، {فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ} دافعون، {عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ}.
{قَالُوا} يعني القادة المتبوعين: {لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ} أي: لو هدانا الله لدعوناكم إلى الهدى، فلما أضلَّنا دعوناكم إلى الضلالة، {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} مهربٍ ولا منجاةٍ.
قال مقاتل: يقولون في النار: تعالوا نجزع، فيجزعون خمسمائة عام، فلا ينفعهم الجزع، ثم يقولون: تعالوا نصبر، فيصبرون خمسمائة عام فلا ينفعهم، فحينئذ يقولون: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ}.
قال محمد بن كعب القرظي بلغني أن أهل النار استغاثوا بالخزنة. فقال الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ} [غافر- 49]، فردت الخزنة عليهم: {أو لم تَكُ تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى}، فردت الخزنة عليهم: {ادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ} [غافر- 50] فلما يئسوا مما عند الخزنة نادوا: {يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف- 77] سألوا الموت، فلا يجيبهم ثمانين سنة والسنة ستون وثلاثمائة يوما، واليوم كألف سنة مما تعدون، ثم لحظ إليهم بعد الثمانين إنكم ماكثون، فلما يئسوا مما قَبْله قال بعضهم لبعض: إنه قد نزل بكم من البلاء ما ترون فهلموا فلنصبر، فلعل الصبر ينفعنا كما صبرَ أهل الدنيا على طاعة الله فنفعهم، فأجمعوا على الصبر، فطال صبرهم ثم جزعوا فنادوا: {سواءٌ علينا أجَزِعْنا أم صبرنا ما لنا من مَحيص}، أي: من منجى.
قال: فقام إبليس عند ذلك فخطبهم، فقال: {إن الله وعدكم وعد الحق} الآية، فلما سمعوا مقالته مقتوا أنفسهم فنودُوا: {لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} [غافر- 10] قالوا فنادوا الثانية: {فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون}، فردّ عليهم: {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} الآيات [السجدة- 12، 13] فنادوا الثالثة: {رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ} [إبراهيم 44]، فردّ عليهم: {أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ} الآيات [إبراهيم- 44]، ثم نادوا الرابعة: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} فرد عليهم: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ}، الآية [فاطر- 37] قال: فمكث عليهم ما شاء الله، ثم ناداهم: {ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون}، فلما سمعُوا ذلك قالوا: الآن يرحمنا، فقالوا عند ذلك: {ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قومًا ضالين ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون}، قال عند ذلك: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون 105- 108] فانقطع عند ذلك الرجاء والدعاء عنهم، فأقبل بعضهم على بعض ينبح بعضهم في وجوه بعض، وأطبقت عليهم النار.

.تفسير الآية رقم (22):

{وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22)}
قوله تعالى: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ} يعني: إبليس، {لَمَّا قُضِيَ الأمْرُ} أي: فرغ منه فأدخل أهل الجنةَ الجنة وأهلِ النار النار.
وقال مقاتل: يوضع له منبر في النار، فيرقاه فيجتمع عليه الكفار باللائمة فيقول لهم: {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ} فوفى لكم به، {وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ} وقيل: يقول لهم: قلت لكم لا بعث ولا جنة ولا نار. {وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} ولاية. وقيل: لم آتكم بحجة فيما دعوتكم إليه، {إلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ} هذا استثناء منقطع معناه: لكن {دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} بإجابتي ومتابعتي من غير سلطان ولا برهان، {مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ} بمُغِيثكم، {وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} بمغيثيَّ.
قرأ الأعمش وحمزة {بمصرخيِّ} بكسر الياء، والآخرون بالنصب لأجل التضعيف، ومَنْ كسر فلالتقاءِ الساكنين، حرِّكت إلى الكسر، لأن الياء أخت الكسرة، وأهل النحو لم يرضوه، وقيل: إنه لغة بني يربوع. والأصل بمصرخيني فذهبت النون لأجل الإضافة، وأدغمت ياء الجماعة في ياء الإضافة.
{إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} أي: كفرت بجعلكُم إياي شريكًا في عبادته وتبرأت من ذلك.
{إِنَّ الظَّالِمِينَ} الكافرين، {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
أخبرنا محمد بن عبد الله بن أبي توبة، أنبأنا محمد بن أحمد الحارث، أنبأنا محمد بن يعقوب الكسائي، أنبأنا عبد الله بن محمود، حَدَّثنا إبراهيم بن عبد الله الخلال، حدثنا عبد الله بن المبارك، عن رشدين بن سعد، أخبرني عبد الرحمن بن زياد، عن دخين الحجري، عن عقبة بن عامر- رضي الله عنه- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة ذكر الحديث ثم قال: «يقول عيسى عليه السلام ذلكم النبيُّ الأمي، فيأتوني فيأذن الله لي أن أقوم فيثور من مجلسي من أطيب ريح شمَّها أحدٌ، حتى آتي ربي عز وجل فيشفِّعني ويجعل لي نورًا من شعر رأسي إلى ظفر قدمي، ثم يقول الكفار: قد وجد المؤمنون مَنْ يشفع لهم فمن يشفع لنا؟ فيقولون: ما هو غير إبليس، هو الذي أضلَّنا، فيأتونه فيقولون له: قد وجد المؤمنون من يشفع لهم فقم أنت فاشفع لنا، فإنك أنت أضللتنا. فيقوم فيثور من مجلسه أنتن ريح شمَّها أحدٌ، ثم تعظم جهنم ويقول عند ذلك: {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ} الآية».

.تفسير الآيات (23- 24):

{وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ (23) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24)}
قوله عز وجل: {وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ} يسلِّم بعضهم على بعض، وتسلِّم الملائكة عليهم.
وقيل: المحيِّي بالسلام هو الله عز وجل.
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مثلا} ألم تعلم، والمَثَلُ: قول سائر لتشبيه شيء بشيء. {كَلِمَةً طَيِّبَةً} وهي قول: لا إله إلا الله، {كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} وهي النخلة يريد كشجرة طيبة الثمر.
وقال ظبيان عن ابن عباس هي شجرة في الجنة.
{أَصْلُهَا ثَابِتٌ} في الأرض، {وَفَرْعُهَا} أعلاها، {فِي السَّمَاءِ} كذلك أصل هذه الكلمة: راسخٌ في قلب المؤمن بالمعرفة والتصديق، فإذا تكلم بها عرجت، فلا تحجب حتى تنتهي إلى الله عز وجل. قال الله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر- 10].

.تفسير الآية رقم (25):

{تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25)}
{تُؤْتِي أُكُلَهَا} تعطي ثمرها، {كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} والحين في اللغة هو الوقت.
وقد اختلفوا في معناه هاهنا فقال مجاهد وعكرمة: الحين ها هنا: سنة كاملة، لأن النخلة تثمر كل سنة.
وقال سعيد بن جبير وقتادة والحسن: ستة أشهر من وقت إطلاعها إلى صرامها. ورُوي ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وقيل: أربعة أشهر من حين ظهورها إلى إدراكها.
وقال سعيد بن المسيب: شهران من حين تؤكل إلى حين الصرام.
وقال الربيع بن أنس: {كل حين}: أي: كل غدوة وعشية، لأن ثمر النخل يؤكل أبدا ليلا ونهارًا، صيفًا وشتاءً، إما تمرًا أو رُطَبًا أو بُسْرًا، كذلك عملُ المؤمن يصعدُ أول النهار وآخره وبَركةُ إيمانه لا تنقطع أبدًا، بل تصل إليه في كل وقت.
والحكمةُ في تمثيل الإيمان بالشجرة: هي أن الشجرة لا تكون شجرة إلا بثلاثة أشياء: عِرق راسخ، وأصل قائم، وفرع عال، كذلك الإيمان لا يتم إلا بثلاثة أشياء: تصديق بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالأبدان.
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي، أنبأنا أبو الحسن علي بن عبد الله الطيسفوني، أنبأنا عبد الله بن عمر الجوهري، أخبرنا أحمد بن علي الكشميهني، حدثنا علي بن حجر، حدثنا إسماعيل بن جعفر، حدثنا عبد الله بن دينار أنه سمع ابن عمر رضي الله عنهما يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ من الشجر شجرةً لا يسقط ورقُها، وإنها مثل المسلم فحدِّثوني ما هي؟ قال عبد الله: فوقع الناس في شجر البوادي، ووقع في نفسي أنها النخلة فاستحييت، ثم قالوا: حدِّثْنا ما هي يا رسول الله؟ قال: هي النخلة. قال عبد الله: فذكرت ذلك لعمر، فقال: لأنْ تكون قلتَ هي النخلة كان أحبَّ إلي من كذا وكذا».
وقيل: الحكمة في تشبيهها بالنخلة من بين سائر الأشجار: أن النخلة شبه الأشجار بالإنسان من حيثُ إنها إذا قطع رأسها يبست، وسائر الأشجار تتشعب من جوانبها بعد قطع رؤوسها ولأنها تشبه الإنسان في أنها لا تحمل إلا بالتلقيح ولأنها خلقت من فضل طينة آدم عليه السلام، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أكرموا عمتكم» قيل: ومَنْ عمتنا؟ قال: «النخلة» {وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}.

.تفسير الآية رقم (26):

{وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26)}
{وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ} وهي الشرك، {كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ} وهي الحنظل.
وقيل: هي الثوم.
وقيل: هي الكشوث وهي العَشَقَة {اجْتُثَّتْ} يعني انقلَعَتَ، {مِنْ فَوْقِ الأرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} ثبات.
معناه: وليس لها أصل ثابت في الأرض، ولا فرع صاعد إلى السماء، كذلك الكافر لا خير فيه، ولا يصعدُ له قول طيب ولا عمل صالح.

.تفسير الآية رقم (27):

{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)}
قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} كلمة التوحيد، وهي قول: لا إله إلا الله {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} يعني قبل الموت، {وَفِي الآخِرَةِ} يعني في القبر. هذا قول أكثر أهل التفسير.
وقيل: {في الحياة الدنيا}: عند السؤال في القبر، {وفي الآخرة}: عند البعث.
والأول أصح.
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا أبو الوليد، حدثنا شعبة، أخبرني علقمة بن مرثد قال: سمعت سعيد بن عبيدة، عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «المسلم إذا سئل في القبر يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فلذلك قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ}».
وأخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر، أنبأنا عبد الغافر بن محمد، أنبأنا محمد بن عيسى الجلودي، أنبأنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، أنبأنا مسلم بن الحجاج، حَدَّثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة بهذا الإسناد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} قال: نزلت في عذاب القبر يقال له: مَنْ ربك؟ فيقول: ربي الله، ونبيي محمد، فذلك قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} الآية.
وأخبرنا عبد الواحد المليحي، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدَّثنا عياش بن الوليد، حدثنا عبد الأعلى، حدثنا سعيد، عن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه حدثهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ العبدَ إذا وُضِع في قبره، وتولّى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم، أتاه ملكان فَيُقْعِدانه، فيقولان: ما كنت تقول في هذا الرجل، لمحمد صلى الله عليه وسلم؟ فأما المؤمن، فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله. فيقال له: انظر إلى مقعدك من النار، قد أبدلك الله به مقعدًا من الجنة، فيراهما جميعا» قال قتادة: وذكر لنا أنه يُفْسَحُ له في قبره، ثم رجع إلى حديث أنس قال: «وأما المنافق والكافر، فيقال له: ما كنتَ تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري، كنت أقول ما يقول الناس، فيقال له: لا دَرَيْتَ ولا تلَيْتَ، ويُضْرَب بمطارقَ من حديدٍ ضربةً، فيصيح صيحة يسمعها مَنْ يليه غيرَ الثَّقَلَيْن».
أخبرنا أبو الفرج المظفر بن إسماعيل التميمي، حدثنا أبو القاسم حمزة بن يوسف السهمي، أنبأنا أبو أحمد عبد الله بن عدي الحافظ، حدثنا عبد الله بن سعيد، حدثنا أسد بن موسى، حدثنا عنبسة بن سعيد بن كثير، حدثني جدي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الميت يسمع حِسَّ النِّعال إذا ولَّى عنه الناس مُدْبِرين، ثم يُجْلَسُ ويُوضَعُ كفنُه في عُنُقِه ثم يُسأل».
وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قُبِر الميتُ أتاه مَلَكان أسودان أزرقان، يقال لأحدهما: المنكر، وللآخر النَّكير، فيقولان: ما كنتَ تقول في هذا الرجل؟ فيقول: هو عبد الله ورسوله، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبد الله ورسوله، فيقولان له: قد كنا نعلم أنك تقولُ هذا، ثم يُفْسح له في قبره سبعون ذراعا في سبعين، ثم ينَّور له فيه، ثم يقال: نمْ كنومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحبُّ أهله إليه، حتى يبعثه الله تعالى، وإن كان منافقًا أو كافرا قال: سمعت الناس يقولون قولا فقلت مثله، لا أدري، فيقولان: قد كنا نعلم أنك تقول ذلك فيقال للأرض التئمي عليه فتلتئم عليه، فتختلف أضلاعه، فلا يزال فيها معذَّبًا حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك».
وروي عن البراء بن عازب رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر قبض روح المؤمن وقال: «فتعاد روحه في جسده ويأتيه ملكان فيجلسانه في قبره فيقولان له مَنْ ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فيقول: ربي الله وديني الإسلام ونبيي محمد فينتهرانه ويقولان له الثانية: من ربك وما دينك ومن نبيك وهي آخر فتنة تعرض على المؤمن فيثبته الله عز وجل، فيقول: ربي الله وديني الإسلام ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم فينادي منادٍ من السماء: أن صَدَق عبدي، قال: فذلك قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ}».
أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي، أنبأنا أبو العباس عبد الله بن محمد بن هارون الطيسفوني، أخبرنا أبو الحسن محمد بن أحمد الترابي، أنبأنا أبو بكر أحمد بن محمد بن عمر بن بسطام، أنبأنا أبو الحسن أحمد بن سيار القرشي، حدثنا إبراهيم بن موسى الفراء أبو إسحاق حدثنا هشام بن يوسف حدثنا عبد الله بن يحيى عن هانئ مولى عثمان قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الرجل وقف عليه وقال: «استغفروا لأخيكم واسألوا الله له التثبيت، فإنه الآن يسأل».
وقال عمرو بن العاص في سياق الموت وهو يبكي: فإذا أنا مت فلا تصحبني نائحة ولا نار، فإذا دفنتموني فسنُّوا عليَّ التراب سنًا، ثم أقيموا حول قبري قدر ما ينحر جزور ويقسم لحمها حتى أستأنس بكم، وأنظر ماذا أراجع به رسل ربي.
قوله تعالى: {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ} أي: لا يهدي المشركين إلى الجواب بالصواب في القبر {وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} من التوفيق والخذلان والتثبيت وترك التثبيت.