فصل: تفسير الآيات (102- 103):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآيات (102- 103):

{قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103)}
{قُلْ نَزَّلَهُ} يعني القرآن، {رُوحُ الْقُدُسِ} جبريل، {مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} بالصدق، {لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا} أي: ليثبت قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا ويقينا، {وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} آدمي، وما هو من عند الله، واختلفوا في هذا البشر: قال ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم قينا بمكة، اسمه بلعام، وكان نصرانيا، أعجمي اللسان، فكان المشركون يرون رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل عليه ويخرج، فكانوا يقولون إنما يعلمه بلعام.
وقال عكرمة: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرئ غلاما لبني المغيرة يقال له يعيش وكان يقرأ الكتب، فقالت قريش: إنما يعلمه يعيش.
وقال الفراء: قال المشركون إنما يتعلم من عايش مملوك كان لحويطب بن عبد العزى، وكان قد أسلم وحسن إسلامه، وكان أعجم اللسان.
وقال ابن إسحاق: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني كثيرا ما يجلس عند المروة إلى غلام رومي نصراني، عبد لبعض بني الحضرمي، يقال له جبر، وكان يقرأ الكتب.
وقال عبد الله بن مسلم الحضرمي كان لنا عبدان من أهل عين التمر يقال لأحدهما يسار، ويكنى أبا فكيهة، ويقال للآخر جبر وكانا يصنعان السيوف بمكة، وكانا يقرآن التوراة والإنجيل، فربما مر بهما النبي صلى الله عليه وسلم، وهما يقرآن، فيقف ويستمع.
قال الضحاك: وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا آذاه الكفار يقعد إليهما ويستروح بكلامهما، فقال المشركون: إنما يتعلم محمد منهما، فنزلت هذه الآية.
قال الله تعالى تكذيبا لهم: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ} أي يميلون ويشيرون إليه، {أَعْجَمِيٌّ} الأعجمي الذي لا يفصح وإن كان ينزل بالبادية، والعجمي منسوب إلى العجم، وإن كان فصيحا، والأعرابي البدوي، والعربي منسوب إلى العرب، وإن لم يكن فصيحا، {وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} فصيح وأراد باللسان القرآن، والعرب تقول: اللغة لسان، وروي أن الرجل الذي كانوا يشيرون إليه أسلم وحسن إسلامه.

.تفسير الآيات (104- 106):

{إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105) مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106)}
{إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ} لا يرشدهم الله، {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ثم أخبر الله تعالى أن الكفار هم المفترون. فقال: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} لا محمد صلى الله عليه وسلم.
فإن قيل: قد قال: {إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون}، فما معنى قوله: {وأولئك هم الكاذبون}؟ قيل: {إنما يفتري الكذب}: إخبار عن فعلهم، و{هم الكاذبون} نعت لازم لهم، كقول الرجل لغيره: كذبت وأنت كاذب، أي: كذبت في هذا القول، ومن عادتك الكذب.
أخبرنا أبو سعيد الشريحي، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي، أخبرنا أبو حفص عمر بن أحمد الجوهري، أخبرنا جدي أبو بكر محمد بن عمر بن حفص، حدثنا أبو بكر محمد بن الفرج الأزرق، حدثنا سعيد بن عبد الحميد بن جعفر، حدثنا يعلى بن الأشدق، عن عبد الله بن جراد قال قلت: يا رسول الله المؤمن يزني؟ قال: «قد يكون ذلك»، قال قلت: المؤمن يسرق؟ قال: «قد يكون ذلك»، قلت المؤمن يكذب؟ قال: «لا». قال الله: {إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله}.
{مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ}.
قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في عمار، وذلك أن المشركين أخذوه، وأباه ياسرا، وأمه سمية، وصهيبا، وبلالا وخبابا، وسالما، فعذبوهم، فأما سمية: فإنها ربطت بين بعيرين ووجئ قبلها بحربة فقتلت، وقتل زوجها ياسر، وهما أول قتيلين قتلا في الإسلام، وأما عمار: فإنه أعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرها.
قال قتادة: أخذ بنو المغيرة عمارا وغطوه في بئر ميمون، وقالوا له: اكفر بمحمد، فتابعهم على ذلك، وقلبه كاره، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن عمارا كفر فقال: كلا إن عمارا ملئ إيمانا من قرنه إلى قدمه، واختلط الإيمان بلحمه ودمه، فأتى عمار رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبكي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما وراءك؟ قال: شر يا رسول الله، نلت منك وذكرت آلهتهم قال: كيف وجدت قلبك، قال مطمئنا بالإيمان، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يمسح عينيه وقال: إن عادوا لك فعد لهم بما قلت، فنزلت هذه الآية.
قال مجاهد: نزلت في ناس من أهل مكة، آمنوا فكتب إليهم بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن هاجروا، فإنا لا نراكم منا حتى تهاجروا إلينا، فخرجوا يريدون المدينة، فأدركتهم قريش في الطريق فكفروا كارهين.
وقال مقاتل: نزلت في جبر، مولى عامر بن الحضرمي، أكرهه سيده على الكفر فكفر مكرها. {وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ} ثم أسلم مولى جبر وحسن إسلامه وهاجر جبر مع سيده، {وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} أي: فتح صدره للكفر بالقبول واختاره، {فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.
وأجمع العلماء على: أن من أكره على كلمة الكفر، يجوز له أن يقول بلسانه، وإذا قال بلسانه غير معتقد لا يكون كفرا، وإن أبى أن يقول حتى يقتل كان أفضل.
واختلف أهل العلم في طلاق المكره. فذهب أكثرهم إلى أنه لا يقع.

.تفسير الآيات (107- 110):

{ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110)}
{ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} لا يرشدهم. {أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} عما يراد بهم. {لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} أي المغبونون. {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا} عذبوا ومنعوا من الإسلام، فتنهم المشركون، {ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا} على الإيمان والهجرة والجهاد، {إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا} من بعد تلك الفتنة والغفلة {لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}.
نزلت في عياش بن أبي ربيعة، أخي أبي جهل من الرضاعة، وفي أبي جندل بن سهيل بن عمرو، والوليد بن الوليد بن المغيرة، وسلمة بن هشام وعبد الله بن أسيد الثقفي، فتنهم المشركون فأعطوهم بعض ما أرادوا ليسلموا من شرهم، ثم إنهم هاجروا بعد ذلك وجاهدوا.
وقال الحسن وعكرمة: نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم فاستزله الشيطان، فلحق بالكفار، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله يوم فتح مكة، فاستجاره له عثمان، وكان أخاه لأمه من الرضاعة، فأجاره رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم إنه أسلم وحسن إسلامه، فأنزل الله هذه الآية.
وقرأ ابن عامر {فتنوا} بفتح الفاء والتاء، ورده إلى من أسلم من المشركين فتنوا المسلمين.

.تفسير الآيات (111- 112):

{يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (111) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112)}
{يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ} تخاصم وتحتج، {عَنْ نَفْسِهَا} بما أسلفت من خير وشر، مشتغلا بها لا تتفرغ إلى غيرها، {وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ}.
روي أن عمر بن الخطاب قال لكعب الأحبار: خوفنا، قال: يا أمير المؤمنين، والذي نفسي بيده، لو وافيت يوم القيامة بمثل عمل سبعين نبيا لأتت عليك ساعات وأنت لا تهمك إلا نفسك، وإن لجهنم زفرة لا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل منتخب، إلا وقع جاثيا على ركبتيه، حتى إبراهيم خليل الرحمن، يقول: يا رب لا أسألك إلا نفسي، وإن تصديق ذلك: الذي أنزل الله عليكم {يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها}.
وروى عكرمة عن ابن عباس في هذه الآية قال: ما تزال الخصومة بين الناس يوم القيامة، حتى تخاصم الروح الجسد، فتقول الروح: يا رب، لم يكن لي يد أبطش بها، ولا رجل أمشي بها، ولا عين أبصر بها. ويقول الجسد: خلقتني كالخشب ليست لي يد أبطش بها، ولا رجل أمشي بها، ولا عين أبصر بها، فجاء هذا كشعاع النور، فبه نطق لساني، وأبصرت عيني، ومشت رجلي. فيضرب الله لهما مثلا أعمى ومقعد، دخلا حائطا فيه ثمار، فالأعمى لا يبصر الثمر، والمقعد لا يناله، فحمل الأعمى المقعد فأصابا من الثمر فعليهما العذاب. قوله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً} يعني: مكة، كانت آمنة، لا يهاج أهلها ولا يغار عليها، {مُطْمَئِنَّةً} قارة بأهلها، لا يحتاجون إلى الانتقال للانتجاع كما يحتاج إليه سائر العرب، {يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ} يحمل إليها من البر والبحر نظيره: {يجبى إليه ثمرات كل شيء} [القصص- 57].
{فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ} جمع النعمة، وقيل: جمع نعماء مثل بأساء وأبؤس، {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ} ابتلاهم الله بالجوع سبع سنين، وقطعت العرب عنهم الميرة بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جهدوا فأكلوا العظام المحرقة، والجيف، والكلاب الميتة، والعهن، وهو الوبر يعالج بالدم، حتى كان أحدهم ينظر إلى السماء فيرى شبه الدخان من الجوع، ثم إن رؤساء مكة كلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: هذا عاديت الرجال، فما بال النساء والصبيان؟ فأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس بحمل الطعام إليهم وهم بعد مشركون. وذكر اللباس لأن ما أصابهم من الهزال والشحوب وتغير ظاهرهم عما كانوا عليه من قبل كاللباس لهم {وَالْخَوْفِ} يعني: بعوث النبي صلى الله عليه وسلم وسراياه التي كانت تطيف بهم. {بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}.

.تفسير الآيات (113- 116):

{وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113) فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115) وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (116)}
{وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ} محمد صلى الله عليه وسلم، {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}. {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}. قوله تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ} أي: لا تقولوا لوصف ألسنتكم، أو لأجل وصفكم الكذب، أي: أنكم تحلون وتحرمون لأجل الكذب لا لغيره، {هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ} يعني البحيرة والسائبة، {لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} فتقولون إن الله أمرنا بهذا، {إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} لا ينجون من عذاب الله.

.تفسير الآيات (117- 120):

{مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120)}
{مَتَاعٌ قَلِيلٌ} يعني: الذي هم فيه متاع قليل، أو لهم متاع قليل في الدنيا. {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} في الآخرة. {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ} يعني في سورة الأنعام، وهو قوله تعالى: {وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر} [الأنعام- 146] الآية.
{وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ} بتحريم ذلك عليهم، {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} فحرمنا عليهم ببغيهم. {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا} معنى الإصلاح: الاستقامة على التوبة، {إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا} أي: من بعد الجهالة، {لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} قوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} قال ابن مسعود: الأمة، معلم الخير، أي: كان معلمًا للخير، يأتم به أهل الدنيا، وقد اجتمع فيه من الخصال الحميدة ما يجتمع في أمة.
قال مجاهد: كان مؤمنا وحده والناس كلهم كفار.
قال قتادة: ليس من أهل دين إلا يتولونه ويرضونه.
{قَانِتًا لِلَّهِ} مطيعا له، وقيل: قائما بأوامر الله تعالى، {حَنِيفًا} مسلما مستقيما على دين الإسلام. وقيل: مخلصا. {وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}.

.تفسير الآيات (121- 124):

{شَاكِرًا لأنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123) إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124)}
{شَاكِرًا لأنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ} اختاره، {وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي: إلى دين الحق. {وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} يعني الرسالة والخلة وقيل: لسان الصدق والثناء والحسن.
وقال مقاتل بن حيان: يعني الصلوات في قول هذه الأمة: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم.
وقيل: أولادا أبرارا على الكبر.
وقيل: القبول العام في جميع الأمم.
{وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} مع آبائه الصالحين في الجنة. وفي الآية تقديم وتأخير، مجازه: وآتيناه في الدنيا والآخرة حسنة، وإنه لمن الصالحين. {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} يا محمد، {أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} حاجا مسلما، {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}.
وقال أهل الأصول: كان النبي صلى الله عليه وسلم مأمور بشريعة إبراهيم إلا ما نسخ في شريعته، وما لم ينسخ صار شرعا له. قوله تعالى: {إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ} قيل: معناه إنما جعل السبت لعنة على الذين اختلفوا فيه أي: خالفوا فيه.
وقيل: معناه ما فرض الله تعظيم السبت وتحريمه إلا على الذين اختلفوا فيه أي: خالفوا فيه فقال قوم: هو أعظم الأيام، لأن الله تعالى فرغ من خلق الأشياء يوم الجمعة ثم سبت يوم السبت.
وقال قوم: بل أعظم الأيام يوم الأحد، لأن الله تعالى ابتدأ فيه خلق الأشياء، فاختاروا تعظيم غير ما فرض الله عليهم، وقد افترض الله عليهم تعظيم يوم الجمعة.
قال الكلبي: أمرهم موسى عليه السلام بالجمعة، فقال: تفرغوا لله في كل سبعة أيام يوما فاعبدوه يوم الجمعة، ولا تعملوا فيه لصنعتكم، وستة أيام لصناعتكم، فأبوا وقالوا: لا نريد إلا اليوم الذي فرغ الله فيه من الخلق يوم السبت، فجعل ذلك اليوم عليهم وشدد عليهم فيه ثم جاءهم عيسى عليه السلام بيوم الجمعة، فقالوا لا نريد أن يكون عيدهم بعد عيدنا- يعنون اليهود- فاتخذوا الأحد فأعطى الله الجمعة هذه الأمة، فقبلوها وبورك لهم فيها.
أخبرنا أبو علي حسان بن سعيد المنيعي، أخبرنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمش الزيادي، حدثنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان، حدثنا أحمد بن يوسف السلمي، أنبأنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر عن همام بن منبه قال: حدثنا أبو هريرة عن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم، فهذا يومهم الذي فرض عليهم فاختلفوا فيه، فهدانا الله له، فهم لنا فيه تبع، فاليهود غدا، والنصارى بعد غد».
قال الله تعالى: {إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ} قال قتادة: الذين اختلفوا فيه هم اليهود، استحله بعضهم، وحرمه بعضهم.
{وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}.