فصل: تفسير الآيات (166- 167):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآيات (166- 167):

{إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)}
{إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ} هذا في يوم القيامة حين يجمع الله القادة والأتباع فيتبرأ بعضهم من بعض، هذا قول أكثر المفسرين، وقال السدي: هم الشياطين يتبرأون من الإنس {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ} أي عنهم {الأسْبَاب} أي الصلات التي كانت بينهم في الدنيا من القرابات والصداقات وصارت مخالتهم عداوة، وقال ابن جريج: الأرحام كما قال الله تعالى: {فلا أنساب بينهم يومئذ} [101- المؤمنون] وقال السدي: يعني الأعمال التي كانوا يعملونها في الدنيا كما قال الله تعالى: {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا} [23- الفرقان].
وأصل السبب ما يوصل به إلى الشيء من ذريعة أو قرابة أو مودة ومنة يقال للحبل سبب وللطريق سبب.
{وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} يعني الأتباع {لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً} أي رجعة إلى الدنيا {فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ} أي من المتبوعين {كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا} اليوم {كَذَلِك} أي كما أراهم العذاب كذلك {يُرِيهِمُ اللَّهُ} وقيل كتبرئ بعضهم من بعض يريهم الله {أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ} ندامات {عَلَيْهِمْ} جمع حسرة قيل يريهم الله ما ارتكبوا من السيئات فيتحسرون لِمَ عملوا، وقيل يريهم ما تركوا من الحسنات فيندمون على تضييعها وقال ابن كيسان: إنهم أشركوا بالله الأوثان رجاء أن تقربهم إلى الله عز وجل، فلما عذبوا على ما كانوا يرجون ثوابه تحسروا وندموا. قال السدي: ترفع لهم الجنة فينظرون إليها وإلى بيوتهم فيها لو أطاعوا الله فيقال لهم تلك مساكنكم لو أطعتم الله، ثم تقسم بين المؤمنين فذلك حين يندمون ويتحسرون {وَمَاهُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّار}.

.تفسير الآيات (168- 169):

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأرْضِ حَلالا طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (169)}
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأرْضِ حَلالا طَيِّبًا} نزلت في ثقيف وخزاعة وعامر بن صعصعة وبني مدلج فيما حرموا على أنفسهم من الحرث والأنعام والبحيرة والسائبة والوصيلة والحام، فالحلال ما أحله الشرع طيبا، قيل: ما يستطاب ويستلذ، والمسلم يستطيب الحلال ويعاف الحرام، وقيل الطيب الطاهر {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} قرأ أبو جعفر وابن عامر والكسائي وحفص ويعقوب بضم الطاء والباقون بسكونها وخطوات الشيطان آثاره وزلاته، وقيل هي النذر في المعاصي. وقال أبو عبيدة: هي المحقرات من الذنوب. وقال الزجاج: طرقه {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} بين العداوة وقيل مظهر العداوة، وقد أظهر عداوته بإبائه السجود لآدم وغروره إياه حتى أخرجه من الجنة.
وأبان يكون لازما ومتعديا ثم ذكر عداوته.
فقال: {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ} أي بالإثم وأصل السوء ما يسوء صاحبه وهو مصدر ساء يسوء سوأ ومساءة أي أحزنه، وسوأته فساء أي حزنته فحزن {وَالْفَحْشَاء} المعاصي وما قبح من القول والفعل وهو مصدر كالسراء والضراء. روى باذان عن ابن عباس قال: الفحشاء من المعاصي ما يجب فيه الحد والسوء من الذنوب ما لا حد فيه. وقال السدي: هي الزنا وقيل هي البخل {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} تحريم الحرث والأنعام.

.تفسير الآيات (170- 171):

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ (170) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (171)}
قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} قيل هذه قصة مستأنفة والهاء والميم في لهم كناية عن غير مذكور. روي عن ابن عباس قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود إلى الإسلام، فقال رافع بن خارجة ومالك بن عوف قالوا: بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا، أي ما وجدنا عليه آباءنا فهم كانوا خيرا وأعلم منا، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وقيل الآية متصلة بما قبلها وهي نازلة في مشركي العرب وكفار قريش والهاء والميم عائدة إلى قوله: {ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا} [165- البقرة] {قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا} أي ما وجدنا {عَلَيْهِ آبَاءَنَا} عبادة الأصنام، وقيل معناه: وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله في تحليل ما حرموه على أنفسهم من الحرث والأنعام والبحيرة والسائبة. والهاء والميم عائدة إلى الناس في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا} {قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ} قرأ الكسائي: بل نتبع بإدغام اللام في النون. وكذلك يدغم لام هل وبل في التاء والثاء والزاي والسين والصاد والطاء والظاء ووافق حمزة في التاء والثاء والسين {مَا أَلْفَيْنَا} ما وجدنا {عَلَيْهِ آبَاءَنَا} التحريم والتحليل.
قال تعالى: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ} أي كيف يتبعون آباءهم وآباؤهم {لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا} والواو في {أولو} واو العطف، ويقال لها واو التعجب دخلت عليها ألف الاستفهام للتوبيخ والمعنى أيتبعون آباءهم وإن كانوا جهالا لا يعقلون شيئا، لفظه عام ومعناه الخصوص. أي لا يعقلون شيئا من أمور الدين لأنهم كانوا يعقلون أمر الدنيا {وَلا يَهْتَدُونَ} ثم ضرب الله مثلا فقال جل ذكره: {ومثل الذين كفروا كمثل الذين ينعق بما لا يسمع} والنعيق والنعق صوت الراعي بالغنم معناه مثلك يا محمد ومثل الكفار في وعظهم ودعائهم إلى الله عز وجل كمثل الراعي الذي ينعق بالغنم، وقيل مثل واعظ الكفار وداعيهم معهم كمثل الراعي ينعق بالغنم وهي لا تسمع {إِلا دُعَاءً} صوتا {ونداء} فأضاف المثل إلى الذين كفروا لدلالة الكلام عليه كما في قوله تعالى: {واسأل القرية} [82- يوسف] معناه كما أن البهائم تسمع صوت الراعي ولا تفهم ولا تعقل ما يقال لها، كذلك الكافر لا ينتفع بوعظك إنما يسمع صوتك. وقيل: معناه: ومثل الذين كفروا في قلة عقلهم وفهمهم عن الله وعن رسوله كمثل المنعوق به من البهائم التي لا تفقه من الأمر والنهي إلا الصوت فيكون المعنى للمنعوق به والكلام خارج عن الناعق وهو فاش في كلام العرب يفعلون ذلك ويقبلون الكلام لإيضاح المعنى عندهم، يقولون فلان يخافك كخوف الأسد، أي كخوفه من الأسد. وقال تعالى: {ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة} [76- القصص] وإنما العصبة تنوء بالمفاتيح وقيل معناه مثل الذين كفروا في دعاء الأصنام التي لا تفقه ولا تعقل كمثل الناعق بالغنم فلا ينتفع من نعيقه بشيء غير أنه في غناء من الدعاء والنداء، كذلك الكافر ليس له من دعاء الآلهة وعبادتها إلا العناء والبلاء كما قال تعالى: {إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم} [14- فاطر].
وقيل معنى الآية ومثل الذين كفروا في دعاء الأوثان كمثل الذي يصيح في جوف الجبال فيسمع صوتا يقال له: الصدى لا يفهم منه شيئا، فمعنى الآية كمثل الذي ينعق بما لا يسمع منه الناعق إلا دعاء ونداء {صم} تقول العرب لمن لا يسمع ولا يعقل: كأنه أصم {بكم} عن الخير لا يقولونه {عمي} عن الهدى لا يبصرونه {فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ}.

.تفسير الآيات (172- 173):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)}
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ} حلالات {مَا رَزَقْنَاكُمْ}.
أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن بن أبي شريح أخبرنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي أخبرنا علي بن الجعد أخبرنا فضيل بن مرزوق عن عدي بن ثابت عن أبي حازم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا الطيب وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا} [51- المؤمنون] وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يده إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك».
{وَاشْكُرُوا لِلَّهِ} على نعمه {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} ثم بين المحرمات فقال: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ} قرأ أبو جعفر الميتة في كل القرآن بالتشديد والباقون يشددون البعض. والميتة كل ما لم تدرك ذكاته مما يذبح {والدم} أراد به الدم الجاري يدل عليه قوله تعالى: {أو دما مسفوحا} [145- الأنعام] واستثنى الشرع من الميتة السمك والجراد ومن الدم الكبد والطحال فأحلها.
أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أخبرنا أبو العباس الأصم أخبرنا الربيع بن سليمان أخبرنا الشافعي أخبرنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحلت لنا ميتتان ودمان، الميتتان الحوت والجراد، والدمان، أحسبه قال: الكبد والطحال» {وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ} أراد به جميع أجزائه فعبر عن ذلك باللحم لأنه معظمه {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} أي ما ذبح للأصنام والطواغيت، وأصل الإهلال رفع الصوت. وكانوا إذا ذبحوا لآلهتهم يرفعون أصواتهم بذكرها فجرى ذلك من أمرهم حتى قيل لكل ذابح وإن لم يجهر بالتسمية مهل. وقال الربيع بن أنس وغيره {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} قال ما ذكر عليه اسم غير الله. {فَمَنِ اضْطُرَّ} بكسر النون وأخواته عاصم وحمزة، ووافق أبو عمرو إلا في اللام والواو مثل {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن} [110- الإسراء] ويعقوب إلا في الواو، ووافق ابن عامر في التنوين، والباقون كلهم بالضم، فمن كسر قال: لأن الجزم يحرك إلى الكسر، ومن ضم فلضمة أول الفعل نقل حركتها إلى ما قبلها، وأبو جعفر بكسر الطاء ومعناه فمن اضطر إلى أكل ميتة أي أحوج وألجئ إليه {غير} نصب على الحال، وقيل على الاستثناء وإذا رأيت {غير} يصلح في موضعها {لا} فهي حال، وإذا صلح في موضعها {إلا} فهي استثناء {بَاغٍ وَلا عَادٍ} أصل البغي قصد الفساد، يقال بغى الجرح يبغي بغيا إذا ترامى إلى الفساد، وأصل العدوان الظلم ومجاوزة الحد يقال عدا عليه عدوا وعدوانا إذا ظلم واختلفوا في معنى قوله: {غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} فقال بعضهم {غَيْرَ بَاغٍ} أي: خارج على السلطان، ولا عاد: معتد عاص بسفره، بأن خرج لقطع الطريق أو لفساد في الأرض. وهو قول ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير. وقالوا لا يجوز للعاصي بسفره أن يأكل الميتة إذا اضطر إليها ولا أن يترخص برخص المسافر حتى يتوب، وبه قال الشافعي رحمه الله: لأن إباحته له إعانة له على فساده، وذهب جماعة إلى أن البغي والعدوان راجعان إلى الأكل واختلفوا في تفصيله. فقال الحسن وقتادة {غَيْرَ بَاغٍ} لا تأكله من غير اضطرار {وَلا عَادٍ} أي لا يعدو لشبعه. وقيل {غَيْرَ بَاغٍ} أي غير طالبها وهو يجد غيرها {وَلا عَادٍ} أي غير متعد ما حد له فما يأكل حتى يشبع ولكن يأكل منها قوتا مقدار ما يمسك رمقه. وقال مقاتل بن حيان {غَيْرَ بَاغٍ} أي مستحل لها {وَلا عَادٍ} أي متزود منها. وقيل {غَيْرَ بَاغٍ} أي غير مجاوز للقدر الذي أحل له {وَلا عَادٍ} أي لا يقصر فيما أبيح له فيدعه قال مسروق: من اضطر إلى الميتة والدم ولحم الخنزير فلم يأكل ولم يشرب حتى مات دخل النار.
واختلف العلماء في مقدار ما يحل للمضطر أكله من الميتة، فقال بعضهم مقدار ما يسد رمقه. وهو قول أبي حنيفة رضي الله عنه وأحد قولي الشافعي رضي الله عنه. والقول الآخر يجوز أن يأكل حتى يشبع وبه قال مالك رحمه الله تعالى. وقال سهل بن عبد الله {غَيْرَ بَاغٍ} مفارق للجماعة {وَلا عَادٍ} مبتدع مخالف للسنة ولم يرخص للمبتدع في تناول المحرم عند الضرورة {فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} أي فلا حرج عليه في أكلها {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} لمن أكل في حال الاضطرار {رَحِيمٌ} حيث رخص للعباد في ذلك.

.تفسير الآية رقم (174):

{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174)}
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ} «نزلت في رؤساء اليهود وعلمائهم كانوا يصيبون من سفلتهم الهدايا والمآكل وكانوا يرجون أن يكون النبي المبعوث منهم، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم من غيرهم خافوا ذهاب مأكلهم وزوال رياستهم، فعمدوا إلى صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فغيروها ثم أخرجوها إليهم، فلما نظرت السفلة إلى النعت المغير وجدوه مخالفا لصفة محمد صلى الله عليه وسلم فلم يتبعوه» فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ} يعني صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونبوته {وَيَشْتَرُونَ بِهِ} أي بالمكتوم {ثَمَنًا قَلِيلا} أي عوضا يسيرا يعني المآكل التي يصيبونها من سفلتهم {أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلا النَّارَ} يعني إلا ما يؤديهم إلى النار وهو الرشوة والحرام وثمن الدين، فلما كان يفضي ذلك بهم إلى النار فكأنهم أكلوا النار وقيل معناه أنه يصير نارا في بطونهم {وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي لا يكلمهم بالرحمة وبما يسرهم إنما يكلمهم بالتوبيخ. وقيل: أراد به أنه يكون عليهم غضبان، كما يقال: فلان لا يكلم فلانا إذا كان عليه غضبان {وَلا يُزَكِّيهِمْ} أي لا يطهرهم من دنس الذنوب {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.

.تفسير الآيات (175- 177):

{أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176) لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)}
{أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} قال عطاء والسدي: هو ما: استفهام معناه ما الذي صبرهم على النار وأي شيء يصبرهم على النار حتى تركوا الحق واتبعوا الباطل وقال الحسن وقتادة: والله ما لهم عليها من صبر ولكن ما أجرأهم على العمل الذي يقربهم إلى النار قال الكسائي: فما أصبرهم على عمل أهل النار أي ما أدومهم عليه.
{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} يعني ذلك العذاب بأن الله نزل الكتاب بالحق فأنكروه وكفروا به وحينئذ يكون ذلك في محل الرفع وقال بعضهم محله نصب معناه فعلنا ذلك بهم بأن الله أي لأن الله نزل الكتاب بالحق فاختلفوا فيه وقيل معناه ذلك أي فعلهم الذي يفعلون من الكفر والاختلاف والاجتراء على الله من أجل أن الله نزل الكتاب بالحق وهو قوله تعالى: {إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ختم الله على قلوبهم} [7- البقرة] {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ} فآمنوا ببعض وكفروا ببعض {لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} أي في خلاف وضلال بعيد.
قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} قرأ حمزة وحفص: ليس البر بنصب الراء، والباقون برفعها، فمن رفعها جعل {الْبِر} اسم ليس، وخبره قوله: أن تولوا، تقديره: ليس البر توليتكم وجوهكم. كقوله تعالى: {ما كان حجتهم إلا أن قالوا ائتوا} [25- الجاثية]. والبر كل عمل خير يفضي بصاحبه إلى الجنة واختلفوا في المخاطبين بهذه الآية، فقال قوم: عنى بها اليهود والنصارى، وذلك أن اليهود كانت تصلي قبل المغرب إلى بيت المقدس والنصارى قبل المشرق، وزعم كل فريق منهم: أن البر في ذلك، فأخبر الله تعالى أن البر غير دينهم وعملهم ولكنه ما بينه في هذه الآية وعلى هذا القول قتادة ومقاتل بن حيان. وقال الآخرون: المراد بها المؤمنون وذلك أن الرجل كان في ابتداء الإسلام قبل نزول الفرائض إذا أتى بالشهادتين وصلى الصلاة إلى أي جهة كانت ثم مات على ذلك وجبت له الجنة.
ولما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزلت الفرائض وحددت الحدود وصرفت القبلة إلى الكعبة أنزل الله هذه الآية فقال: {لَيْسَ الْبِرَّ} أي كله أن تصلوا قبل المشرق والمغرب ولا تعملوا على غير ذلك {وَلَكِنَّ الْبِرَّ} ما ذكر في هذه الآية وعلى هذا القول ابن عباس ومجاهد وعطاء والضحاك. {وَلَكِنَّ الْبِرَّ} قرأ نافع وابن عامر ولكن خفيفة النون البر رفع وقرأ الباقون بتشديد النون ونصب البر.
قوله تعالى: {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} جعل من وهي اسم خبر للبر وهو فعل ولا يقال البر زيد واختلفوا في وجهه قيل لما وقع من في موضع المصدر جعله خبرا للبر كأنه قال ولكن البر الإيمان بالله والعرب تجعل الاسم خبرا للفعل وأنشد الفراء:
لعمرك ما الفتيان أن تنبت اللحى ** ولكنما الفتيان كل فتى ندي

فجعل نبات اللحى خبرا للفتى وقيل فيه إضمار معناه ولكن البر بر من آمن بالله فاستغنى بذكر الأول عن الثاني كقولهم الجود حاتم أي الجود جود حاتم وقيل معناه ولكن ذا البر من آمن بالله كقوله تعالى: {هم درجات عند الله} [163- آل عمران] أي ذو درجات وقيل معناه ولكن البار من آمن بالله كقوله تعالى: {والعاقبة للتقوى} [132- طه] أي للمتقي والمراد من البر هاهنا الإيمان والتقوى.
{وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ} {وَالْكِتَاب} يعني الكتب المنزلة {وَالنَّبِيِّينَ} أجمع {وَآتَى الْمَالَ} أعطى المال {عَلَى حُبِّهِ} اختلفوا في هذه الكناية فقال أكثر أهل التفسير: إنها راجعة إلى المال أي أعطى المال في حال صحته ومحبته المال قال ابن مسعود: أن تؤتيه وأنت صحيح شحيح تأمل الغنى وتخشى الفقر.
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا موسى بن إسماعيل أخبرنا عبد الواحد ثنا عمارة بن القعقاع أنا أبو زرعة أخبرنا أبو هريرة قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أي الصدقة أعظم أجرا؟ قال: «أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان».
وقيل هي عائدة على الله عز وجل أي على حب الله تعالى.
{ذَوِي الْقُرْبَى} أهل القرابة.
أخبرنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الضبي أخبرنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجراحي أخبرنا أبو العباس المحبوبي أخبرنا أبو عيسى الترمذي أخبرنا قتيبة أخبرنا سفيان بن عيينة عن عاصم الأحول عن حفصة بنت سيرين عن الرباب عن عمها سلمان بن عامر يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الصدقة على المسكين صدقة وعلى ذي الرحم ثنتان صدقة وصلة».
قوله تعالى: {وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} قال مجاهد: يعني المسافر المنقطع عن أهله يمر عليك ويقال للمسافر ابن السبيل لملازمته الطريق، وقيل: هو الضيف ينزل بالرجل قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه» {وَالسَّائِلِين} يعني الطالبين.
أخبرنا أبو الحسن السرخسي أخبرنا زاهر بن أحمد أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن زيد بن أسلم عن أبي بجيد الأنصاري وهو عبد الرحمن بن بجيد عن جدته وهي أم بجيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ردوا السائل ولو بظلف محرق» وفي رواية قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لم تجدي شيئا إلا ظلفا محرقا فادفعيه إليه» قوله تعالى: {وَفِي الرِّقَابِ} يعني المكاتبين قاله أكثر المفسرين، وقيل: عتق النسمة وفك الرقبة وقيل: فداء الأسارى {وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ} وأعطى الزكاة {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ} فيما بينهم وبين الله عز وجل وفيما بينهم وبين الناس {إِذَا عَاهَدُوا} يعني إذا وعدوا أنجزوا، وإذا حلفوا ونذروا أوفوا، وإذا عاهدوا أوفوا، وإذا قالوا صدقوا، وإذا ائتمنوا أدوا، واختلفوا في رفع قوله والموفون قيل هو عطف على خبر معناه ولكن ذا البر المؤمنون والموفون بعهدهم وقيل تقديره: وهم الموفون كأنه عد أصنافا ثم قال: هم والموفون كذا، وقيل رفع على الابتداء والخبر يعني وهم الموفون ثم قال: {وَالصَّابِرِينَ} وفي نصبها أربعة أوجه.
قال أبو عبيدة: نصبها على تطاول الكلام ومن شأن العرب أن تغير الإعراب إذا طال الكلام والنسق ومثله في سورة النساء {والمقيمين الصلاة} [سورةالمائدة- 162] {والصابئون والنصارى}، وقيل معناه أعني الصابرين، وقيل نصبه نسقا على قوله ذوي القربى أي وآتى الصابرين.
وقال الخليل: نصب على المدح والعرب تنصب الكلام على المدح والذم كأنهم يريدون إفراد الممدوح والمذموم فلا يتبعونه أول الكلام وينصبونه فالمدح كقوله تعالى: {والمقيمين الصلاة} [162- النساء].
والذم كقوله تعالى: {ملعونين أينما ثقفوا} [61- الأحزاب].
قوله تعالى: {فِي الْبَأْسَاءِ} أي الشدة والفقر {وَالضَّرَّاء} المرض والزمانة {وَحِينَ الْبَأْسِ} أي القتال والحرب.
أخبرنا المطهر بن علي بن عبد الله الفارسي أخبرنا أبو ذر محمد بن إبراهيم الصالحاني أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن جعفر بن حبان أخبرنا عبد الله بن محمد البغوي أخبرنا علي بن الجعد أخبرنا زهير عن أبي إسحاق عن حارثة بن مضرب عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كنا إذا احمر البأس ولقي القوم القوم اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه. يعني إذا اشتد الحرب {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا} في إيمانهم {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}.