فصل: تفسير الآية رقم (78):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآية رقم (78):

{قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78)}
{قَالَ} الخضر: {هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} يعني هذا وقت فراق بيني وبينك وقيل: هذا الإنكار على ترك الأجر هو المفرق بيننا. وقال الزجاج: معناه هذا فراق بيننا أي فراق اتصالنا وكرر بين تأكيدا.
{سَأُنَبِّئُكَ} أي سوف أخبرك {بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} وفي بعض التفاسير أن موسى أخذ بثوبه فقال: أخبرني بمعنى ما عملت قبل أن تفارقني فقال: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ}.

.تفسير الآيات (79- 80):

{أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79) وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80)}
{أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} قال كعب: كانت لعشرة إخوة خمسة زمنى وخمسة يعملون في البحر وفيه دليل على أن المسكين وإن كان يملك شيئا فلا يزول عنه اسم المسكنة إذا لم يقم ما يملك بكفايته {يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} أي: يؤاجرون ويكتسبون بها {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} أجعلها ذات عيب.
{وَكَانَ وَرَاءَهُمْ} أي أمامهم {مَلِكٌ} كقوله: {من ورائه جهنم} [إبراهيم- 16].
وقيل: {وراءهم} خلفهم وكان رجوعهم في طريقهم عليه والأول أصح يدل عليه قراءة ابن عباس {وكان أمامهم ملك}.
{يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} أي: كل سفينة صالحة غصبا وكان ابن عباس يقرأ كذلك فخرقها وعيبها الخضر حتى لا يأخذها الملك الغاصب وكان اسمه الجلندي وكان كافرا.
قال محمد بن إسحاق: اسمه متوله بن جلندي الأزدي.
وقال شعيب الجبائي: اسمه هدد بن بدد.
وروي أن الخضر اعتذر إلى القوم وذكر لهم شأن الملك الغاصب ولم يكونوا يعلمون بخبره وقال: أردت إذا هي مرت به أن يدعها لعيبها فإذا جاوزه أصلحوها فانتفعوا بها قيل: سدوها بقارورة وقيل: بالقار. قوله عز وجل: {وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا} أي فعلمنا وفي قراءة ابن عباس: {وأما الغلام فكان كافرا وكان أبواه مؤمنين فخشينا} أي: فعلمنا {أَنْ يُرْهِقَهُمَا} يغشيهما وقال الكلبي: يكلفهما {طُغْيَانًا وَكُفْرًا} قال سعيد بن جبير: فخشينا أن يحملهما حبه على أن يتابعاه على دينه.

.تفسير الآيات (81- 82):

{فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82)}
{فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا} قرأ أبو جعفر ونافع وأبو عمرو: بالتشديد هاهنا وفي سورة التحريم والقلم وقرأ الآخرون بالتخفيف وهما لغتان وفرق بعضهم فقال: التبديل: تغيير الشيء أو تغيير حاله وعين الشيء قائم والإبدال: رفع الشيء ووضع شيء آخر مكانه {رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً} أي صلاحا وتقوى {وَأَقْرَبَ رُحْمًا} قرأ ابن عامر وأبو جعفر ويعقوب: بضم الحاء والباقون بجزمها أي: عطفا من الرحمة. وقيل: هو من الرحم والقرابة قال قتادة: أي أوصل للرحم وأبر بوالديه.
قال الكلبي: أبدلهما الله جارية فتزوجها نبي من الأنبياء فولدت له نبيا فهدى الله على يديه أمة من الأمم.
وعن جعفر بن محمد عن أبيه قال: أبدلهما الله جارية ولدت سبعين نبيا.
وقال ابن جريج: أبدلهما بغلام.
قال مطرف: فرح به أبواه حين ولد وحزنا عليه حين قتل. ولو بقي لكان فيه هلاكهما فليرض امرؤ بقضاء الله تعالى فإن قضاء الله للمؤمن فيما يكره خير له من قضائه فيما يحب. قوله عز وجل: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ} وكان اسمهما أصرم وصريم {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا} اختلفوا في ذلك الكنز روي عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كان ذهبا وفضة».
وقال عكرمة: كان مالا.
وعن سعيد بن جبير: كان الكنز صحفا فيها علم.
وعن ابن عباس: أنه قال كان لوحا من ذهب مكتوبا فيه: «عجبا لمن أيقن بالموت كيف يفرح! عجبا لمن أيقن بالحساب كيف يغفل! عجبا لمن أيقن بالرزق كيف يتعب! عجبا لمن أيقن بالقدر كيف ينصب! عجبا لمن أيقن بزوال الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها! لا إله إلا الله محمد رسول الله». وفي الجانب الآخر مكتوب: «أنا الله لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي خلقت الخير والشر فطوبى لمن خلقته للخير وأجريته على يديه والويل لمن خلقته للشر وأجريته على يديه» وهذا قول أكثر المفسرين وروي ذلك مرفوعا.
قال الزجاج: الكنز إذا أطلق ينصرف إلى كنز المال، ويجوز عند التقييد أن يقال عنده كنز علم، وهذا اللوح كان جامعا لهما.
{وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} قيل: كان اسمه كاسح وكان من الأتقياء. قال ابن عباس: حفظا بصلاح أبويهما.
وقيل: كان بينهما وبين الأب الصالح سبعة آباء.
قال محمد بن المنكدر: إن الله يحفظ بصلاح العبد ولده وولد ولده وعترته وعشيرته وأهل دويرات حوله فما يزالون في حفظ الله ما دام فيهم.
قال سعيد بن المسيب: إني لأصلي فأذكر ولدي فأزيد في صلاتي.
قوله عز وجل: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا} أي: يبلغا ويعقلا. وقيل: أن يدركا شدتهما وقوتهما. وقيل: ثمان عشرة سنة.
{وَيَسْتَخْرِجَا} حينئذ {كَنْزَهُمَا رَحْمَةً} نعمة {مِنْ رَبِّكَ}.
{وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} أي باختياري ورأيي بل فعلته بأمر الله وإلهامه {ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} أي لم تطق عليه صبرا واستطاع واسطاع بمعنى واحد.
روي أن موسى لما أراد أن يفارقه قال له: أوصني، قال: لا تطلب العلم لتحدث به واطلبه لتعمل به.
واختلفوا في أن الخضر حي أم ميت؟ قيل: إن الخضر وإلياس حيان يلتقيان كل سنة بالموسم. وكان سبب حياته فيما يحكى أنه شرب من عين الحياة وذلك أن ذا القرنين دخل الظلمات لطلب عين الحياة. وكان الخضر على مقدمته فوقع الخضر على العين فنزل واغتسل وتوضأ وشرب وصلى شكرا لله عز وجل وأخطأ ذو القرنين الطريق فعاد.
وذهب آخرون إلى أنه ميت لقوله تعالى: {وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد} [الأنبياء- 34].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم بعدما صلى العشاء ليلة: «أرأيتكم ليلتكم هذه؟ فإن على رأس مائة سنة منها لا يبقى ممن هو اليوم حي على ظهر الأرض أحد». ولو كان الخضر حيا لكان لا يعيش بعده.

.تفسير الآية رقم (83):

{وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83)}
قوله عز وجل: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا} خبرا واختلفوا في نبوته: فقال بعضهم: كان نبيا.
وقال أبو الطفيل: سئل علي رضي الله عنه عن ذي القرنين أكان نبيا أم ملكا؟ قال: لم يكن نبيا ولا ملكا ولكن كان عبدا أحب الله وأحبه الله، ناصح الله فناصحه الله.
وروي أن عمر رضي الله عنه سمع رجلا يقول لآخر: يا ذا القرنين فقال: تسميتم بأسماء النبيين فلم ترضوا حتى تسميتم بأسماء الملائكة.
والأكثرون على أنه كان ملكا عادلا صالحا.
واختلفوا في سبب تسميته بـ {ذي القرنين} قال الزهري: لأنه بلغ قرني الشمس مشرقها ومغربها.
وقيل: لأنه ملك الروم وفارس.
وقيل: لأنه دخل النور والظلمة.
وقيل: لأنه رأى في المنام كأنه أخذ بقرني الشمس.
وقيل: لأنه كانت له ذؤابتان حسنتان.
وقيل: لأنه كان له قرنان تواريهما العمامة.
وروى أبو الطفيل عن علي أنه قال سمي ذا القرنين لأنه أمر قومه بتقوى الله، فضربوه على قرنه الأيمن فمات فبعثه الله، ثم أمرهم بتقوى الله فضربوه على قرنه الأيسر فمات، فأحياه الله.
واختلفوا في اسمه قيل: اسمه مرزبان بن مرزبة اليوناني من ولد يونان بن يافث بن نوح. وقيل: اسمه الإسكندر بن فيلفوس بن ياملوس الرومي.

.تفسير الآية رقم (84):

{إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84)}
قوله عز وجل: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرْضِ} أوطأنا، والتمكين: تمهيد الأسباب. قال علي: سخر له السحاب فحمله عليها، ومد له في الأسباب، وبسط له النور، فكان الليل والنهار عليه سواء، فهذا معنى تمكينه في الأرض وهو أنه سهل عليه السير فيها وذلل له طرقها.
{وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} أي: أعطيناه من كل شيء يحتاج إليه الخلق.
وقيل: من كل ما يستعين به الملوك على فتح المدن ومحاربة الأعداء.
{سَبَبًا} أي: علما يتسبب به إلى كل ما يريد ويسير به في أقطار الأرض، والسبب: ما يوصل الشيء إلى الشيء.
وقال الحسن: بلاغا إلى حيث أراد. وقيل: قربنا إليه أقطار الأرض.

.تفسير الآيات (85- 86):

{فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86)}
{فَأَتْبَعَ سَبَبًا} أي: سلك وسار، قرأ أهل الحجاز والبصرة: {فاتبع} و{ثم اتبع} موصولا مشددا، وقرأ الآخرون بقطع الألف وجزم التاء، وقيل: معناهما واحد.
والصحيح: الفرق بينهما، فمن قطع الألف فمعناه: أدرك ولحق، ومن قرأ بالتشديد فمعناه: سار، يقال: ما زلت أتبعه حتى أَتْبَعْتُه، أي: ما زلت أسير خلفه حتى لحقته.
وقوله: {سببا} أي: طريقا. وقال ابن عباس: منزلا. {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} قرأ أبو جعفر وأبو عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر: {حامية} بالألف غير مهموزة، أي: حارة، وقرأ الآخرون: {حَمِئَةٍ} مهموزا بغير الألف، أي: ذات حماة، وهي الطينة السوداء.
وسأل معاوية كعبا: كيف تجد في التوراة أن تغرب الشمس؟ قال: نجد في التوراة أنها تغرب في ماء وطين.
قال القتيبي: يجوز أن يكون معنى قوله: {فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} أي: عندها عين حمئة، أو في رأي العين.
{وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا} أي: عند العين أمة، قال ابن جريج: مدينة لها اثنا عشر ألف باب، لولا ضجيج أهلها لسمعت وجبة الشمس حين تجب.
{قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ} يستدل بهذا من زعم أنه كان نبيا فإن الله تعالى خاطبه والأصح: أنه لم يكن نبيا، والمراد منه: الإلهام.
{إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ} يعني: إما أن تقتلهم إن لم يدخلوا في الإسلام {وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا} يعني: تعفو وتصفح وقيل: تأسرهم فتعلمهم الهدى. خيره الله بين الأمرين.

.تفسير الآيات (87- 90):

{قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90)}
{قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ} أي: كفر {فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ} أي: نقتله {ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ} في الآخرة {فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا} أي: منكرا يعني: بالنار، والنار أنكر من القتل. {وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى} قرأ حمزة والكسائي وحفص ويعقوب: {جَزَاءً} منصوبا منونا أي: فله الحسنى {جزاء} نصب على المصدر وهو مصدر وقع موقع الحال، أي: فله الحسنى مجزيا بها.
وقرأ الآخرون: بالرفع على الإضافة، فالحسنى: الجنة أضاف الجزاء إليها كما قال: {ولدار الآخرة خير} [يوسف- 9]، والدار هي الآخرة.
وقيل: المراد بـ {الحسنى} على هذه القراءة: الأعمال الصالحة. أي له جزاء الأعمال الصالحة.
{وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا} أي: نلين له القول ونعامله باليسر من أمرنا. وقال مجاهد: {يسرا} أي: معروفا. {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا} أي: سلك طرقا ومنازل. {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ} أي موضع طلوعها {وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا} قال قتادة والحسن: لم يكن بينهم وبين الشمس ستر، وذلك أنهم كانوا في مكان لا يستقر عليه بناء فكانوا يكونون في أسراب لهم حتى إذا زالت الشمس عنهم خرجوا إلى معايشهم وحروثهم.
وقال الحسن: كانوا إذا طلعت الشمس يدخلون الماء فإذا ارتفعت عنهم خرجوا يتراعون كالبهائم.
وقال الكلبي: هم قوم عراة يفترش أحدهم إحدى أذنيه، ويلتحف بالأخرى.

.تفسير الآيات (91- 94):

{كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلا (93) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94)}
قوله عز وجل: {كَذَلِكَ} قيل: معناه كما بلغ مغرب الشمس كذلك بلغ مطلعها والصحيح أن معناه: كما حكم في القوم الذين هم عند مغرب الشمس كذلك حكم في الذين هم عند مطلع الشمس {وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا} يعني: بما عنده ومعه من الجند والعدة والآلات {خبرا} أي: علما. {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا}. {حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ} قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص: {السَّدَّيْنِ} و{سدا} هاهنا بفتح السين وافق حمزة والكسائي في {سدا} وقرأ الآخرون: بضم السين وفي يس {سدا} بالفتح حمزة والكسائي وحفص وقرأ الباقون بالضم منهم من قال: هما لغتان معناهما واحد. وقال عكرمة: ما كان من صنعة بني آدم فهو السد بالفتح وما كان من صنع الله فهو سد بالضم وقاله أبو عمرو. وقيل: السد: بالفتح مصدر وبالضم اسم وهما هاهنا: جبلان سد ذو القرنين ما بينهما حاجزا بين يأجوج ومأجوج ومن ورائهم. {وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا} يعني: أمام السدين. {لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلا} قرأ حمزة والكسائي: {يفقهون} بضم الياء وكسر القاف على معنى لا يفقهون غيرهم قولا وقرأ الآخرون: بفتح الياء والقاف أي لا يفقهون كلام غيرهم قال ابن عباس: لا يفقهون كلام أحد ولا يفهم الناس كلامهم. {قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ} فإن قيل: كيف قالوا ذلك وهم لا يفقهون؟
قيل: كلم عنهم مترجم، دليله: قراءة ابن مسعود: لا يكادون يفقهون قولا قال الذين من دونهم يا ذا القرنين.
{إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ} قرأهما عاصم بهمزتين وكذلك في الأنبياء، {فتحت يأجوج ومأجوج} والآخرون بغير همز في السورتين وهما لغتان أصلهما من أجيج النار وهو ضوؤها وشررها شبهوا به لكثرتهم وشدتهم.
وقيل: بالهمزة من شدة أجيج النار وبترك الهمز اسمان أعجميان مثل: هاروت وماروت، وهم من أولاد يافث بن نوح.
قال الضحاك: هم جيل من الترك. قال السدي: الترك سرية من يأجوج ومأجوج، خرجت فضرب ذو القرنين السد فبقيت خارجه، فجميع الترك منهم. وعن قتادة: أنهم اثنان وعشرون قبيلة، بنى ذو القرنين السد على إحدى وعشرين قبيلة فبقيت قبيلة واحدة فهم الترك سموا الترك لأنهم تركوا خارجين.
قال أهل التواريخ: أولاد نوح ثلاثة سام وحام ويافث، فسام أبو العرب والعجم والروم، وحام أبو الحبشة والزنج والنوبة، ويافث أبو الترك والخزر والصقالبة ويأجوج ومأجوج، قال ابن عباس في رواية عطاء: هم عشرة أجزاء وولد آدم كلهم جزء. روي عن حذيفة مرفوعا: إن يأجوج أمة ومأجوج أمة، كل أمة أربعمائة ألف أمة لا يموت الرجل منهم حتى ينظر إلى ألف ذكر من صلبه كلهم قد حمل السلاح وهم من ولد آدم يسيرون إلى خراب الدنيا. وقيل: هم ثلاثة أصناف، صنف منهم أمثال الأرز شجر بالشام طوله عشرون ومائة ذراع في السماء، وصنف منهم عرضه وطوله سواء، عشرون ومائة ذراع، وهؤلاء لا يقوم لهم جبل ولا حديد، وصنف منهم يفترش أحدهم إحدى أذنيه ويلتحف الأخرى لا يمرون بفيل ولا وحش ولا خنزير إلا أكلوه ومن مات منهم. أكلوه، مقدمتهم بالشام وساقتهم بخراسان يشربون أنهار المشارق وبحيرة طبرية.
وعن علي أنه قال: منهم من طوله شبر ومنهم من هو مفرط في الطول.
وقال كعب: هم نادرة في ولد آدم وذلك أن آدم احتلم ذات يوم وامتزجت نطفته بالتراب فخلق الله من ذلك الماء يأجوج ومأجوج فهم يتصلون بنا من جهة الأب دون الأم.
وذكر وهب بن منبه: أن ذا القرنين كان رجلا من الروم ابن عجوز، فلما بلغ كان عبدا صالحا. قال الله له: إني باعثك إلى أمم مختلفة ألسنتهم، منهم أمتان بينهما طول الأرض: إحداهما عند مغرب الشمس يقال لها ناسك، والأخرى عند مطلعها يقال لها منسك، وأمتان بينهما عرض الأرض: إحداهما في القطر الأيمن يقال لها هاويل، والأخرى في قطر الأرض الأيسر يقال لها تأويل، وأمم في وسط الأرض منهم الجن والإنس ويأجوج ومأجوج فقال ذو القرنين: بأي قوة أكابرهم؟ وبأي جمع أكاثرهم؟ وبأي لسان أناطقهم؟ قال الله عز وجل: إني سأطوفك وأبسط لك لسانك وأشد عضدك فلا يهولنك شيء وألبسك الهيبة فلا يروعك شيء وأسخر لك النور والظلمة وأجعلهما من جنودك يهديك النور من أمامك وتحوطك الظلمة من ورائك.
فانطلق حتى أتى مغرب الشمس فوجد جمعا وعددا لا يحصيه إلا الله، فكابرهم بالظلمة حتى جمعهم في مكان واحد فدعاهم إلى الله وعبادته فمنهم من آمن ومنهم من صد عنه فعمد إلى الذين تولوا عنه فأدخل عليهم الظلمة فدخلت في أجوافهم وبيوتهم فدخلوا في دعوته فجند من أهل المغرب جندا عظيما فانطلق يقودهم والظلمة تسوقهم حتى أتى هاويل فعمل فيهم كعمله في ناسك، ثم مضى حتى انتهى إلى منسك عند مطلع الشمس فعمل فيها وجند منها جنودا كفعله في الأمتين ثم أخذ ناحية الأرض اليسرى فأتى تاويل فعمل فيها كعمله فيما قبلها، ثم عمد إلى الأمم التي في وسط الأرض، فلما دنا مما يلي منقطع الترك نحو المشرق قالت له أمة صالحة من الإنس: يا ذا القرنين إن بين هذين الجبلين خلقا أشباه البهائم يفترسون الدواب والوحوش لهم أنياب وأضراس كالسباع يأكلون الحيات والعقارب وكل ذي روح خلق في الأرض وليس يزداد خلق كزيادتهم ولا شك أنهم سيملئون الأرض ويظهرون علينا ويفسدون فيها، فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا قال: ما مكني فيه ربي خير قال: أعدوا إلي الصخور والحديد والنحاس حتى أعلم علمهم.
فانطلق حتى توسط بلادهم فوجدهم على مقدار واحد يبلغ طول الواحد منهم مثل نصف الرجل المربوع منا لهم مخاليب كالأظفار في أيدينا وأنياب وأضراس كالسباع ولهم هدب من الشعر في أجسادهم ما يواريهم ويتقون به من الحر والبرد ولكل واحد منهم أذنان عظيمتان يفترش إحداهما ويلتحف بالأخرى يصيف في إحداهما ويشتو في الأخرى يتسافدون تسافد البهائم حيث التقوا، فلما عاين ذلك ذو القرنين انصرف إلى ما بين الصدفين فقاس ما بينهما فحفر له الأساس حتى بلغ الماء وجعل حشوه الصخر وطينه النحاس يذاب فيصب عليه فصار كأنه عرق من جبل تحت الأرض.
قوله تعالى: {قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ} قال الكلبي: فسادهم أنهم كانوا يخرجون أيام الربيع إلى أرضهم فلا يدعون فيها شيئا أخضر إلا أكلوه ولا شيئا يابسا إلا احتملوا وأدخلوه أرضهم وقد لقوا منهم أذى شديدا وقتلا.
وقيل: فسادهم أنهم كانوا يأكلون الناس.
وقيل: معناه أنهم سيفسدون في الأرض عند خروجهم.
{فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا} قرأ حمزة والكسائي {خراجا} بالألف وقرأ الآخرون {خَرْجًا} بغير ألف وهما لغتان بمعنى واحد أي جعلا وأجرا من أموالنا.
وقال أبو عمرو: الخرج: ما تبرعت به والخراج: ما لزمك أداؤه. وقيل: الخراج: على الأرض والخرج: على الرقاب. يقال: أد خرج رأسك وخراج مدينتك.
{عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا} أي حاجزا فلا يصلون إلينا.