فصل: تفسير الآيات (30- 31):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآيات (30- 31):

{أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنَا فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31)}
{أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا} قرأ ابن كثير {لم ير} بغير واو وكذلك هو في مصاحفهم، معناه: ألم يعلم الذين كفروا، {أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ كَانَتَا رَتْقًا} قال ابن عباس رضي الله عنهما وعطاء وقتادة: كانتا شيئا واحدا ملتزقتين {فَفَتَقْنَاهُمَا} فصلنا بينهما بالهواء، والرتق في اللغة: السد، والفتق: الشق.
قال كعب: خلق الله السموات والأرض بعضها على بعض، ثم خلق ريحا فوسطها ففتحها بها.
قال مجاهد والسدي: كانت السموات مرتقة طبقة واحدة ففتقها فجعلها سبع سماوات، وكذلك الأرض كانتا مرتقة طبقة واحدة فجعلها سبع أرضين.
قال عكرمة وعطية: كانت السماء رتقا لا تمطر والأرض رتقا لا تنبت، ففتق السماء بالمطر والأرض بالنبات. وإنما قال: {رَتْقًا} على التوحيد وهو من نعت السموات والأرض لأنه مصدر وضع موضع الاسم، مثل الزور والصوم ونحوهما. {وَجَعَلْنَا} وخلقنا {مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} أي: وأحيينا بالماء الذي ينزل من السماء كل شيء حي أي من الحيوان ويدخل فيه النبات والشجر، يعني أنه سبب لحياة كل شيء والمفسرون يقولون: يعني أن كل شيء حي فهو مخلوق من الماء. كقوله تعالى: {والله خلق كل دابة من ماء} [النور: 45]، قال أبو العالية: يعني النطفة، فإن قيل: قد خلق الله بعض ما هو حي من غير الماء؟ قيل: هذا على وجه التكثير، يعني أن أكثر الأحياء في الأرض مخلوقة من الماء أو بقاؤه بالماء، {أَفَلا يُؤْمِنُونَ}.
{وَجَعَلْنَا فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ} جبالا ثوابت، {أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ}؛ يعني كي لا تميد بهم {وَجَعَلْنَا فِيهَا} في الرواسي: {فِجَاجًا} طرقا ومسالك، والفج: الطريق الواسع بين الجبلين، أي جعلنا بين الجبال طرقا حتى يهتدوا إلى مقاصدهم، {سُبُلا} تفسير للفجاج، {لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ}.

.تفسير الآيات (32- 33):

{وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33)}
{وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا} من أن تسقط، دليله قوله تعالى: {ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه} [الحج: 65]، وقيل: محفوظا من الشياطين بالشهب، دليله قوله تعالى: {وحفظناها من كل شيطان رجيم} [الحجر: 17]، {وَهُمْ} يعني الكفار، {عَنْ آيَاتِهَا} ما خلق الله فيها من الشمس والقمر والنجوم وغيرها، {مُعْرِضُونَ} لا يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها. {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} يجرون ويسيرون بسرعة كالسابح في الماء، وإنما قال: {يَسْبَحُونَ} ولم يقل يسبح على ما يقال لما لا يعقل، لأنه ذكر عنها فعل العقلاء من الجري والسبح، فذكر على ما يعقل.
والفلك: مدار النجوم الذي يضمها، والفلك في كلام العرب: كل شيء مستدير، وجمعه أفلاك، ومنه فلك المغزل.
وقال الحسن: الفلك طاحونة كهيئة فلكة المغزل: يريد أن الذي يجري فيه النجوم مستدير كاستدارة الطاحونة.
وقال بعضهم: الفلك السماء الذي فيه ذلك الكوكب، فكل كوكب يجري في السماء الذي قدر فيه، وهو معنى قول قتادة.
وقال الكلبي الفلك استدارة السماء.
وقال آخرون: الفلك موج مكفوف دون السماء يجري فيه الشمس والقمر والنجوم.

.تفسير الآيات (34- 37):

{وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35) وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36) خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (37)}
قوله عز وجل: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} دوام البقاء في الدنيا، {أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} أي أفهم الخالدون إن مت؟ نزلت هذه الآية حين قالوا نتربص بمحمد ريب المنون. {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ} نختبركم {بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ} بالشدة والرخاء، والصحة والسقم، والغنى والفقر، وقيل: بما تحبون وما تكرهون، {فِتْنَةً} ابتلاء لننظر كيف شكركم فيما تحبون، وصبركم فيما تكرهون، {وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ} ما يتخذونك {إِلا هُزُوًا} سخريا قال السدي: نزلت في أبي جهل مر به النبي صلى الله عليه وسلم فضحك، وقال: هذا نبي بني عبد مناف {أَهَذَا الَّذِي} أي يقول بعضهم لبعض أهذا الذي، {يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ} أي يعيبها، يقال: فلان يذكر فلانا أي يعيبه، وفلان يذكر الله أي يعظمه ويجله، {وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ} وذلك أنهم كانوا يقولون لا نعرف الرحمن إلا مسيلمة، {وَهُمْ} الثانية صلة. قوله عز وجل: {خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} اختلفوا فيه، فقال قوم: معناه أن بنيته وخلقته من العجلة وعليها طبع، كما قال: {وَكَانَ الإنْسَانُ عَجُولا} [الإسراء: 11].
قال سعيد بن جبير والسدي: لما دخلت الروح في رأس آدم وعينه نظر إلى ثمار الجنة فلما دخلت جوفه اشتهى الطعام، فوثب قبل أن تبلغ الروح إلى رجليه عجلا إلى ثمار الجنة، فوقع فقيل: {خلق الإنسان من عجل}، والمراد بالإنسان آدم وأورث أولاده العجلة، والعرب تقول للذي يكثر منه الشيء: خلقت منه، كما تقول العرب: خلقت في لعب، وخلقت من غضب، يراد المبالغة في وصفه بذلك، يدل على هذا قوله تعالى: {وكان الإنسان عجولا}.
وقال قوم: معناه خلق الإنسان يعني آدم من تعجيل في خلق الله إياه، لأن خلقه كان بعد خلق كل شيء في آخر النهار يوم الجمعة، فأسرع في خلقه قبل مغيب الشمس.
قال مجاهد: فلما أحيا الروح رأسه قال يا رب استعجل بخلقي قبل غروب الشمس. وقيل: بسرعة وتعجيل على غير ترتيب خلق سائر الآدميين من النطفة والعلقة والمضغة وغيرها.
وقال قوم: من عجل، أي: من طين، قال الشاعر:
والنبع في الصخرة الصماء منبتة ** والنخل ينبت بين الماء والعجل

{سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ} نزل هذا في المشركين كانوا يستعجلون العذاب ويقولون: أمطر علينا حجارة من السماء، وقيل: نزلت في النضر بن الحارث فقال تعالى: {سَأُرِيكُمْ آيَاتِي} أي مواعيدي فلا تستعجلون، أي فلا تطلبوا العذاب من قبل وقته، فأراهم يوم بدر، وقيل: كانوا يستعجلون القيامة.

.تفسير الآيات (38- 39):

{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (39)}
{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} فقال تعالى: {لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ} لا يدفعون {عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ} قيل: ولا عن ظهورهم السياط، {وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} يمنعون من العذاب، وجواب لو في قوله: {لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ} محذوف معناه: ولو علموا لما أقاموا على كفرهم، ولما استعجلوا، ولا قالوا: متى هذا الوعد؟.

.تفسير الآيات (40- 44):

{بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (40) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (41) قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43) بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44)}
{بَلْ تَأْتِيهِمْ} يعني الساعة {بَغْتَةً} فجأة، {فَتَبْهَتُهُمْ} أي تحيرهم، يقال: فلان مبهوت أي متحير، {فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ} يمهلون. {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ} نزل، {بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} أي جزاء استهزائهم. {قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ} يحفظكم، {بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ} إن أنزل بكم عذابه، وقال ابن عباس: من يمنعكم من عذاب الرحمن، {بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ} عن القرآن ومواعظ الله، {مُعْرِضُونَ} {أَمْ لَهُمْ} أم: صلة فيه، وفي أمثاله {آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا} فيه تقديم وتأخير، تقديره: أم لهم آلهة من دوننا تمنعهم، ثم وصف الآلهة بالضعف، فقال تعالى: {لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ} منع أنفسهم، فكيف ينصرون عابديهم، {وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ} قال ابن عباس: يمنعون. وقال عطية: عنه يجارون، تقول العرب: أنا لك جار وصاحب من فلان، أي مجير منه. وقال مجاهد: ينصرون. وقال قتادة: ولا يصبحون من الله بخير. {بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاءِ} الكفار، {وَآبَاءَهُمْ} في الدنيا أي أمهلناهم. وقيل: أعطيناهم النعمة، {حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ} أي امتد بهم الزمان فاغتروا.
{أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} يعني ما ننقص من أطراف المشركين ونزيد في أطراف المؤمنين، يريد ظهور النبي صلى الله عليه وسلم وفتحه ديار الشرك أرضا فأرضا، {أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ} أم نحن.

.تفسير الآيات (45- 47):

{قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (45) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46) وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)}
{قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ} أي أخوفكم بالقرآن، {وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ} قرأ ابن عامر بالتاء وضمها وكسر الميم، {الصم} نصب، جعل الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وقرأ الآخرون بالياء وفتحها وفتح الميم، {الصم} رفع، {إِذَا مَا يُنْذَرُونَ} يخوفون. {وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ} أصابتهم {نَفْحَةٌ} قال ابن عباس رضي الله عنهما طرف. وقيل: قليل. قال ابن جريج: نصيب، من قولهم نفح فلان لفلان من ماله أي أعطاه حظا منه. وقيل: ضربة من قولهم نفحت الدابة برجلها إذا ضربت، {مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} أي بإهلاكنا إنا كنا مشركين، دعوا على أنفسهم بالويل بعدما أقروا بالشرك. {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ} أي ذوات القسط، والقسط: العدل، {لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} لا ينقص من ثواب حسناته ولا يزاد على سيئاته، وفي الأخبار: إن الميزان له لسان وكفتان.
روى أن داود عليه السلام سأل ربه أن يريه الميزان فأراه كل كفة ما بين المشرق والمغرب، فغشي عليه، ثم أفاق فقال: يا إلهي من الذي يقدر أن يملأ كفته حسنات؟ فقال: يا داود إني إذا رضيت على عبدي ملأتها بتمرة.
{وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ} قرأ أهل المدينة {مِثْقَالَ} برفع اللام هاهنا وفي سورة لقمان، أي وإن وقع مثقال حبة، ونصبها الآخرون على معنى: وإن كان ذلك الشيء مثقال حبة أي زنة حبة من خردل، {أَتَيْنَا بِهَا} أحضرناها لنجازي بها.
{وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} قال السدي: محصين، والحسب معناه: العد، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: عالمين حافظين، لأن من حسب شيئا علمه وحفظه.

.تفسير الآيات (48- 51):

{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنزلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50) وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51)}
قوله عز وجل: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ} يعني الكتاب المفرق بين الحق والباطل، وهو التوراة. وقال ابن زيد: الفرقان النصر على الأعداء، كما قال الله تعالى: {وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان} [الأنفال: 41]، يعني يوم بدر، لأنه قال: {وَضِيَاءً} أدخل الواو فيه أي آتينا موسى النصر والضياء وهو التوراة.
ومن قال: المراد بالفرقان التوراة، قال: الواو في قوله: {وَضِيَاءً} زائدة مقحمة، معناه: آتيناه التوراة ضياء، وقيل: هو صفة أخرى للتوراة، {وَذِكْرًا} تذكيرا، {لِلْمُتَّقِينَ} {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} أي يخافونه ولم يروه، {وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ} خائفون. {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنزلْنَاهُ} يعني القرآن وهو ذكر لمن تذكر به، مبارك يتبرك به ويطلب منه الخير، {أَفَأَنْتُم} يا أهل مكة، {لَهُ مُنْكِرُونَ} جاحدون وهذا استفهام توبيخ وتعبير. قوله عز وجل: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ} قال القرطبي: أي صلاحه، {مِنْ قَبْلُ} أي من قبل موسى وهارون، وقال المفسرون: رشده، أي هداه من قبل أي من قبل البلوغ، وهو حين خرج من السرب وهو صغير، يريد هديناه صغيرا كما قال تعالى ليحيى عليه السلام: {وآتيناه الحكم صبيا} [مريم: 12]، {وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} أنه أهل للهداية والنبوة.

.تفسير الآيات (52- 57):

{إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاعِبِينَ (55) قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لأكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57)}
{إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ} أي الصور، يعني الأصنام {الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} أي على عبادتها مقيمون. {قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ} فاقتدينا بهم. {قَالَ} إبراهيم، {لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} خطأ بين بعبادتكم إياها. {قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاعِبِينَ} يعنون أجاد أنت فيما تقول أم انت من اللاعبين؟. {قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ} خلقهن، {وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} أي على أنه الإله الذي لا يستحق العبادة غيره. وقيل: من الشاهدين على أنه خالق السموات والأرض. {وَتَاللَّهِ لأكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} لأمكرن بها، {بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} أي بعد أن تدبروا منطلقين إلى عيدكم.
قال مجاهد وقتادة: إنما قال إبراهيم هذا سرا من قومه ولم يسمع ذلك إلا رجل واحد فأفشاه عليه، وقال: إنا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم.
قال السدي: كان لهم في كل سنة مجمع وعيد وكانوا إذا رجعوا من عيدهم دخلوا على الأصنام فسجدوا لها، ثم عادوا إلى منازلهم، فلما كان ذلك العيد قال أبو إبراهيم له: يا إبراهيم لو خرجت معنا إلى عيدنا أعجبك ديننا، فخرج معهم إبراهيم، فلما كان ببعض الطريق ألقى نفسه، وقال إني سقيم، يقول أشتكي رجلي فلما مضوا نادى في آخرهم وقد بقي ضعفاء الناس، {وَتَاللَّهِ لأكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} فسمعوها منه، ثم رجع إبراهيم إلى بيت الآلهة وهن في بهو عظيم مستقبل باب البهو صنم عظيم إلى جنبه أصغر منه، والأصنام بعضها إلى جنب بعض كل صنم يليه أصغر منه إلى باب البهو، وإذا هم قد جعلوا طعاما فوضعوه بين يدي الآلهة، وقالوا: إذا رجعنا وقد بركت الآلهة في طعامنا أكلنا، فلما نظر إليهم إبراهيم وإلى ما بين أيديهم من الطعام، قال لهم: على طريق الاستهزاء ألا تأكلون؟، فلما لم تجبه قال: ما لكم لا تنطقون؟. فراغ عليهم ضربا باليمين، وجعل يكسرهن في يده حتى إذا لم يبق إلا الصنم الأكبر علق الفأس في عنقه ثم خرج فذلك قوله عز وجل.