فصل: تفسير الآيات (93- 96):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآيات (93- 96):

{وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94) وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (95) حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96)}
{وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} أي اختلفوا في الدين فصاروا فرقا وأحزابا، قال الكلبي: فرقوا دينهم بينهم يلعن بعضهم بعضا ويتبرأ بعضهم من بعض، والتقطع هاهنا بمعنى التقطيع، {كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ} فنجزيهم بأعمالهم.
{فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ} لا يجحد ولا يبطل سعيه بل يشكر ويثاب عليه، {وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} لعمله حافظون، وقيل: معنى الشكر من الله المجازاة. {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ} قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر: {وحرم} بكسر الحاء بلا ألف، وقرأ الباقون بالألف {حرام} وهما لغتان مثل حل وحلال.
قال ابن عباس: معنى الآية وحرام على قرية أي أهل قرية، {أَهْلَكْنَاهَا} أن يرجعوا بعد الهلاك، فعلى هذا تكون {لا} صلة، وقال آخرون: الحرام بمعنى الواجب، فعلى هذا تكون {لا} ثابتا معناه واجب على أهل قرية أهلكناهم {أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ} إلى الدنيا.
وقال الزجاج: معناه وحرام على أهل قرية أهلكناهم أي حكمنا بهلاكهم أن تتقبل أعمالهم لأنهم لا يرجعون أي لا يتوبون، والدليل على هذا المعنى أنه قال في الآية التي قبلها: {فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه} أي يتقبل عمله، ثم ذكر هذه الآية عقيبه وبين أن الكافر لا يتقبل عمله. قوله عز وجل: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ} قرأ ابن عامر وأبو جعفر ويعقوب: {فتحت} بالتشديد على التكثير، وقرأ الآخرون بالتخفيف، {يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ} يريد فتح السد عن يأجوج ومأجوج، {وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ} أي نشز وتل، والحدب المكان المرتفع، {يَنْسِلُونَ} يسرعون النزول من الآكام والتلال كنسلان الذئب، وهو سرعة مشيه، واختلفوا في هذه الكناية، فقال قوم: عني بهم يأجوج ومأجوج بدليل ما روينا عن النواس بن سمعان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ويبعث الله يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون» وقال قوم: أراد جميع الخلق يعني أنهم يخرجون من قبورهم، ويدل عليه قراءة مجاهد وهم من كل جدث بالجيم والثاء كما قال: {فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون} [يونس: 51].
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر الجرجاني، أخبرنا عبد الغافر بن محمد الفارسي، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي، أخبرنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، أخبرنا مسلم بن حجاج، أخبرنا أبو خيثمة زهير بن حرب، أخبرنا سفيان بن عيينة، عن فرات القزاز، عن أبي الطفيل، عن حذيفة بن أسيد الغفاري، قال: اطلع النبي صلى الله عليه وسلم علينا ونحن نتذاكر، فقال: ما تذكرون؟ قالوا: نذكر الساعة. قال: «إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات، فذكر الدخان والدجال والدابة وطلوع الشمس من مغربها ونزول عيسى ابن مريم ويأجوج ومأجوج، وثلاثة خسوف: خسف بالمغرف وخسف بالمشرق وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم».

.تفسير الآية رقم (97):

{وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97)}
قوله عز وجل: {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} يعني القيامة، قال الفراء وجماعة: الواو في قوله واقترب مقحمة فمعناه حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج اقترب الوعد الحق، كما قال الله تعالى: {فلما أسلما وتله للجبين وناديناه} [الصافات: 103] أي ناديناه، والدليل عليه ما روي عن حذيفة قال: لو أن رجلا اقتنى فلوا بعد خروج يأجوج ومأجوج لم يركبه حتى تقوم الساعة وقال قوم: لا يجوز طرح الواو، وجعلوا جواب حتى إذا فتحت في قوله يا ويلنا، فيكون مجاز الآية. حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج واقترب الوعد الحق، قالوا: يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا قوله: {فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا} وفي قوله: {هي} ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها كناية عن الأبصار. ثم أظهر الأبصار بيانا، معناه فإذا الأبصار شاخصة أبصار الذين كفروا.
والثاني: أن {هي} تكون عمادا كقوله: {فإنها لا تعمى الأبصار} [الحج: 46].
والثالث: أن يكون تمام الكلام عند قوله: {هي}، على معنى فإذا هي بارزة يعني من قربها كأنها حاضرة، ثم ابتدأ: {شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا} على تقديم الخبر على الابتداء، مجازها أبصار الذين كفروا شاخصة. قال الكلبي: شخصت أبصار الكفار فلا تكاد تطرف من شدة ذلك اليوم وهوله، يقولون، {يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} اليوم، {بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ} بوضعنا العبادة في غير موضعها.

.تفسير الآيات (98- 101):

{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ (100) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101)}
{إِنَّكُمْ} أيها المشركون {وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} يعني الأصنام، {حَصَبُ جَهَنَّمَ} أي وقودها. وقال مجاهد وقتادة: حطبها، والحصب في لغة أهل اليمن: الحطب. وقال عكرمة: هو الحطب بلغة الحبشة. قال الضحاك: يعني يرمون بهم في النار كما يرمى بالحصباء. وأصل الحصب الرمي، قال الله عز وجل: {أرسلنا عليهم حاصبا} [القمر: 34] أي ريحا ترميهم بحجارة، وقرأ علي بن أبي طالب: حطب جهنم، {أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} أي فيها داخلون. {لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ} يعني الأصنام، {آلِهَةً} على الحقيقة، {مَا وَرَدُوهَا} أي ما دخل عابدوها النار، {وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ} يعني العابد والمعبودين. {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ} قال ابن مسعود: في هذه الآية إذا بقي في النار من يخلد فيها جعلوا في توابيت من نار، ثم جعلت تلك التوابيت في توابيت أخرى ثم تلك التوابيت في توابيت أخر عليها مسامير من نار، فلا يسمعون شيئا ولا يرى أحد منهم أن في النار أحدا يعذب غيره، ثم استثنى فقال: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} قال بعض أهل العلم: إن هاهنا بمعنى: إلا الذين سبقت لهم منا الحسنى، يعني السعادة والعدة الجميلة بالجنة، {أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} قيل: الآية عامة في كل من سبقت لهم من الله السعادة. وقال أكثر المفسرين: عني بذلك كل من عبد من دون الله وهو لله طائع ولعبادة من يعبده كاره، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد وصناديد قريش في الحطيم وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما فعرض له النضر بن الحارث، فكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أفحمه ثم تلا عليه: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} الآيات الثلاثة، ثم قام فأقبل عبد الله بن الزبعري السهمي فأخبره الوليد بن المغيرة بما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عبد الله: أما والله لو وجدته لخصمته، فدعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له ابن الزبعري: أنت قلت: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم}؟ قال: نعم، قال: أليست اليهود تعبد عزيرا والنصارى تعبد المسيح، وبنو مليح يعبدون الملائكة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل هم يعبدون الشياطين فأنزل الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} يعني عزيرا والمسيح والملائكة، {أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} وأنزل في ابن الزبعري: {ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون} [الزخرف: 58]، وزعم جماعة أن المراد من الآية الأصنام، لأن الله تعالى قال: {وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} ولو أراد به الملائكة والناس لقال ومن تعبدون من دون الله.

.تفسير الآيات (102- 103):

{لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102) لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103)}
{لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} يعني صوتها وحركة تلهبها إذا نزلوا منازلهم في الجنة، والحس والحسيس: الصوت الخفي: {وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ} مقيمون كما قال: {وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين} [الزخرف: 71]. {لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأكْبَرُ} قال ابن عباس: الفزع الأكبر: النفخة الأخيرة بدليل قوله عز وجل: {ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السموات ومن في الأرض} [النمل: 87]، قال الحسن: حين يؤمر بالعبد إلى النار. قال ابن جريج: حين يذبح الموت وينادى يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت. وقال سعيد بن جبير والضحاك: هو أن تطبق عليهم جهنم وذلك بعد أن يخرج الله منها من يريد أن يخرجه. {وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ} أي تستقبلهم الملائكة على أبواب الجنة يهنئونهم، ويقولون: {هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ}.

.تفسير الآيات (104- 105):

{يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104) وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105)}
{يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ} قرأ أبو جعفر: {تطوى} بالتاء وضمها وفتح الواو، و{السماء} رفع على المجهول، وقرأ العامة بالنون وفتحها وكسر الواو، و{السماء} نصب، {كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم للكتب على الجمع، وقرأ الآخرون للكتاب على الواحد، واختلفوا في السجل، فقال السدي: السجل ملك يكتب أعمال العباد، واللام زائدة، أي كطي السجل للكتب كقوله: {ردف لكم} [النمل: 72]، اللام فيه زائدة، وقال ابن عباس ومجاهد والأكثرون: السجل الصحيفة للكتب أي لأجل ما كتب معناه كطي الصحيفة على مكتوبها، والسجل اسم مشتق من المساجلة وهي المكاتبة، والطي هو الدرج الذي هو ضد النشر، {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} أي كما بدأناهم في بطون أمهاتهم حفاة عراة غرلا كذلك نعيدهم يوم القيامة، نظيره قوله تعالى: {ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة} [الأنعام: 94]، وروي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنكم محشورون حفاة عراة غرلا»، ثم قرأ: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} {وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} يعني الإعادة والبعث. قوله عز وجل: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ} قال سعيد بن جبير ومجاهد: الزبور جميع الكتب المنزلة، والذكر أم الكتاب الذي عنده، والمعنى من بعد ما كتب ذكره في اللوح المحفوظ.
وقال ابن عباس والضحاك: الزبور التوراة والذكر الكتب المنزلة من بعد التوراة.
وقال الشعبي: الزبور كتاب داود، والذكر التوراة. وقيل: الزبور زبور داود والذكر القرآن، وبعد بمعنى قبل، كقوله تعالى: {وكان وراءهم ملك} [الكهف: 97]: أي أمامهم {والأرض بعد ذلك دحاها} [النازعات: 30] قبله، {أَنَّ الأرْضَ} يعني أرض الجنة، {يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} قال مجاهد: يعني أمة محمد صلى الله عليه وسلم دليله قوله تعالى: {وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض} [الزمر: 74]، وقال ابن عباس: أراد أن أراضي الكفار يفتحها المسلمون وهذا حكم من الله بإظهار الدين وإعزاز المسلمين. وقيل: أراد بالأرض الأرض المقدسة.

.تفسير الآيات (106- 109):

{إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107) قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109)}
{إِنَّ فِي هَذَا} أي في هذا القرآن، {لَبَلاغًا} وصولا إلى البغية، أي من اتبع القرآن وعمل به وصل إلى ما يرجوه من الثواب. وقيل: بلاغا أي كفاية. يقال في هذا الشيء بلاغ وبلغة أي كفاية، والقرآن زاد الجنة كبلاغ المسافر، {لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} أي المؤمنين الذين يعبدون الله، وقال ابن عباس: عالمين. وقال كعب الأحبار: هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم أهل الصلوات الخمس وشهر رمضان. {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} قال ابن زيد: يعني رحمة للمؤمنين خاصة فهو رحمة لهم. وقال ابن عباس: هو عام في حق من آمن ومن لم يؤمن فمن آمن فهو رحمة له في الدنيا والآخرة، ومن لم يؤمن فهو رحمة له في الدنيا بتأخير العذاب عنهم ورفع المسخ والخسف والاستئصال عنهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما أنا رحمة مهداة». {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} أي أسلموا. {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ} أي أعلمتكم بالحرب وأن لا صلح بيننا، {عَلَى سَوَاءٍ} أي إنذار بين يستوي في علمه لا استيذانا به دونكم لتتأهبوا لما يراد بكم، أي آذنتكم على وجه نستوي نحن وأنتم في العلم به، وقيل: لتستووا في الإيمان، {وَإِنْ أَدْرِي} أي وما أعلم. {أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ} يعني القيامة.

.تفسير الآيات (110- 112):

{إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111) قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112)}
{إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ}. {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ} أي لعل تأخير العذاب عنكم كناية عن غير مذكور، {فِتْنَةٌ} اختبار، {لَكُم} ليرى كيف صنيعكم وهو أعلم، {وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} أي تتمتعون إلى انقضاء آجالكم. {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ} قرأ حفص عن عاصم: {قَالَ رَبِّ احْكُمْ} والآخرون: {قل رب احكم} افصل بيني وبين من كذبني بالحق، فإن قيل كيف قال احكم بالحق والله لا يحكم إلا بالحق؟ قيل: الحق هاهنا بمعنى العذاب كأنه استعجل العذاب لقومه فعذبوا يوم بدر، نظيره قوله تعالى: {ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق} [الأعراف: 89]، وقال أهل المعاني: معناه رب احكم بحكمك الحق فحذف الحكم وأقيم الحق مقامه، والله تعالى يحكم بالحق طلب أو لم يطلب، ومعنى الطلب ظهور الرغبة من الطالب في حكمه الحق، {وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} من الكذب والباطل.

.سورة الحج:

مكية غير آيات من قوله عز وجل: {هَذَانِ خَصْمَانِ} إلى قوله: {وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ}.

.تفسير الآيات (1- 2):

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)}
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} أي: احذروا عقابه بطاعته، {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} والزلزلة والزلزال شدة الحركة على الحالة الهائلة، واختلفوا في هذه الزلزلة:
فقال علقمة والشعبي: هي من أشراط الساعة. وقيل: قيام الساعة.
وقال الحسن والسدي: هذه الزلزلة تكون يوم القيامة.
وقال ابن عباس: زلزلة الساعة قيامها فتكون معها. {يَوْمَ تَرَوْنَهَا} يعني الساعة، وقيل: الزلزلة، {تَذْهَلُ} قال ابن عباس: تشغل، وقيل: تنسى، يقال: ذهلت عن كذا أي تركته واشتغلت بغيره. {كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ} أي: كل امرأة معها ولد ترضعه، يقال: امرأة مرضع، بلا هاء، إذا أريد به الصفة، مثل حائض وحامل، فإذا أرادوا الفعل أدخلوا الهاء. {وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا} أي: تسقط ولدها من هول ذلك اليوم.
قال الحسن: تذهل المرضعة عن ولدها بغير فطام وتضع الحامل ما في بطنها بغير تمام وهذا يدل على أن هذه الزلزلة تكون في الدنيا لأن بعد البعث لا يكون حمل.
ومن قال: تكون في القيامة، قال هذا على وجه تعظيم الأمر لا على حقيقته، كقولهم: أصابنا أمر يشيب فيه الوليد، يريد شدته.
{وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى} قرأ حمزة والكسائي: {سكرى وما هم بسكرى} بلا ألف وهما لغتان في جمع السكران، مثل كسلى وكسالى.
قال الحسن: معناه: وترى الناس سكارى من الخوف، وما هم بسكارى من الشراب.
وقيل: معناه: وترى الناس كأنهم سكارى، {وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ}.
أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي، أخبرنا أبو طاهر محمد بن محمش الزيادي، أخبرنا أبو بكر محمد بن عمر بن حفص التاجر، أخبرنا إبراهيم بن عبد الله بن عمر بن بكير الكوفي العبسي، أخبرنا وكيع عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله عز وجل يوم القيامة: يا آدم قم فابعث بعث النار، قال فيقول: لبيك وسعديك والخير كله في يديك، يا رب وما بعث النار؟ قال فيقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين، قال: فحينئذ يشيب المولود، وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد، قال: فيقولون: وأينا ذاك الواحد؟» فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تسعمائة وتسعة وتسعون من يأجوج ومأجوج ومنكم واحد»، فقال الناس: الله أكبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والله إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة، والله إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة، والله إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة، قال فكبر الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أنتم يومئذ في الناس إلا كالشعرة البيضاء في الثور الأسود، أو الشعرة السوداء في الثور الأبيض».
وروي عن عمران بن حصين، وأبي سعيد الخدري، وغيرهما: أن هاتين الآيتين نزلتا في غزوة بني المصطلق ليلا فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم فحثوا المطي حتى كانوا حول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأها عليهم فلم ير أكثر باكيا من تلك الليلة، فلما أصبحوا لم يحطوا السروج عن الدواب، ولم يضربوا الخيام ولم يطبخوا قدرا، والناس ما بين باك أو جالس حزين متفكر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتدرون أي يوم ذلك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ذلك يوم يقول الله عز وجل لآدم قم فابعث بعث النار من ولدك، فيقول آدم: من كل كم؟ فيقول الله عز وجل: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار وواحد في الجنة، قال: فكبر ذلك على المسلمين وبكوا وقالوا: فمن ينجو إذا يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبشروا وسددوا وقاربوا فإن معكم خليقتين ما كانتا في قوم إلا كثرتاه: يأجوج ومأجوج، ثم قال: إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة، فكبروا وحمدوا الله، ثم قال: إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة، فكبروا وحمدوا الله، ثم قال: إني لأرجو أن تكونوا ثلثي أهل الجنة، وإن أهل الجنة مائة وعشرون صفا، ثمانون منها أمتي، وما المسلمون في الكفار إلا كالشامة في جنب البعير أو كالرقمة في ذراع الدابة، بل كالشعرة السوداء في الثور الأبيض أو كالشعرة البيضاء في الثور الأسود. ثم قال: ويدخل من أمتي سبعون ألفا الجنة بغير حساب، فقال عمر: سبعون ألفا؟ قال: نعم ومع كل واحد سبعون ألفا، فقام عكاشة بن محصن فقال: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنت منهم، فقام رجل من الأنصار فقال: ادع الله أن يجعلني منهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سبقك بها عكاشة».