فصل: تفسير الآية رقم (186):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآية رقم (186):

{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)}
قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال يهود أهل المدينة: يا محمد كيف يسمع ربنا دعاءنا وأنت تزعم أن بيننا وبين السماء مسيرة خمسمائة عام وإن غلظ كل سماء مثل ذلك، فنزلت هذه الآية، وقال الضحاك: سأل بعض الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ فأنزل الله تعالى: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب} وفيه إضمار كأنه قال: فقل لهم إني قريب منهم بالعلم لا يخفى علي شيء كما قال: {ونحن أقرب إليه من حبل الوريد} [16- ق].
أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا عبد الواحد عن عاصم عن أبي عثمان عن أبي موسى الأشعري قال: لما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر أو قال: لما توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر، أشرف الناس على واد فرفعوا أصواتهم بالتكبير: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أربعوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إنكم تدعون سميعا قريبا وهو معكم».
قوله تعالى: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} قرأ أهل المدينة غير قالون وأبو عمرو بإثبات الياء فيهما في الوصل، والباقون بحذفها وصلا ووقفا، وكذلك اختلف القراء في إثبات الياءات المحذوفة من الخط وحذفها في التلاوة، ويثبت يعقوب جميعها وصلا ووقفا، واتفقوا على إثبات ما هو مثبت في الخط وصلا ووقفا {فَلْيَسْتَجِيبُوا} قيل: الاستجابة بمعنى الإجابة، أي: فليجيبوا لي بالطاعة، والإجابة في اللغة: الطاعة وإعطاء ما سئل فالإجابة من الله تعالى العطاء، ومن العبد الطاعة، وقيل: فليستجيبوا لي أي ليستدعوا مني الإجابة، وحقيقته فليطيعوني {وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} لكي يهتدوا، فإن قيل فما وجه قوله تعالى: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ} {أدعوني أستجب لكم} وقد يدعى كثيرا فلا يجيب؟ قلنا: اختلفوا في معنى الآيتين قيل معنى الدعاء هاهنا الطاعة، ومعنى الإجابة الثواب، وقيل معنى الآيتين خاص وإن كان لفظهما عاما، تقديرهما: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ} إن شئت، كما قال: {فيكشف ما تدعون إليه إن شاء} [41- الأنعام] أو أجيب دعوة الداعي إن وافق القضاء أو: أجيبه إن كانت الإجابة خيرا له أو أجيبه إن لم يسأل محالا.
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان أخبرنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني أخبرنا حميد بن زنجويه أخبرنا عبد الله بن صالح حدثني معاوية بن صالح أن ربيعة بن زيد حدثه عن أبي إدريس عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يستجيب الله لأحدكم ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم أو يستعجل» قالوا وما الاستعجال يا رسول الله؟ قال: «يقول قد دعوتك يا رب، قد دعوتك يا رب، فلا أراك تستجيب لي، فيستحسر عند ذلك فيدع الدعاء».
وقيل هو عام، ومعنى قوله: {أُجِيب} أي اسمع، ويقال ليس في الآية أكثر من إجابة الدعوة، فأما إعطاء المنية فليس بمذكور فيها، وقد يجيب السيد عبده، والوالد ولده ثم لا يعطيه سؤله فالإجابة كائنة لا محالة عند حصول الدعوة، وقيل معنى الآية أنه لا يخيِّب دعاءه، فإن قدر له ما سأل أعطاه، وإن لم يقدره له ادخر له الثواب في الآخرة، أو كف عنه به سوءا والدليل عليه ما أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أبو منصور السمعاني أخبرنا أبو جعفر الرياني أخبرنا حميد بن زنجويه أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا ابن ثوبان وهو عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان عن أبيه عن مكحول عن جبير بن نفير عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه حدثهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما على الأرض رجل مسلم يدعو الله تعالى بدعوة إلا آتاه، الله إياها أو كف عنه من السوء مثلها ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم» وقيل: إن الله تعالى يجيب دعاء المؤمن في الوقت ويؤخر إعطاء مراده ليدعوه فيسمع صوته ويعجل إعطاء من لا يحبه لأنه يبغض صوته، وقيل: إن للدعاء آدابا وشرائط وهي أسباب الإجابة فمن استكملها كان من أهل الإجابة، ومن أخل بها فهو من أهل الاعتداء في الدعاء فلا يستحق الإجابة.

.تفسير الآية رقم (187):

{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)}
قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} فالرفث كناية عن الجماع، قال ابن عباس: إن الله تعالى حيي كريم يكنى كل ما ذكر في القرآن من المباشرة والملامسة والإفضاء والدخول والرفث فإنما عنى به الجماع وقال الزجاج: الرفث كلمة جامعة لكل ما يريده الرجال من النساء، قال أهل التفسير: كان في ابتداء الأمر إذا أفطر الرجل حل له الطعام والشراب والجماع إلى أن يصلي العشاء الآخرة أو يرقد قبلها، فإذا صلى العشاء أو رقد قبلها حرم عليه الطعام والنساء إلى الليلة القابلة، ثم إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه واقع أهله بعدما صلى العشاء فلما اغتسل أخذ يبكي ويلوم نفسه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني أعتذر إلى الله وإليك من نفسي هذه الخاطئة، إني رجعت إلى أهلي بعد ما صليت العشاء فوجدت رائحة طيبة فسولت لي نفسي فجامعت أهلي فهل تجد لي من رخصة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما كنت جديرا بذلك يا عمر» فقام رجال واعترفوا بمثله فنزل في عمر وأصحابه: {أُحِلَّ لَكُمْ} أي أبيح لكم {لَيْلَةَ الصِّيَامِ} أي في ليلة الصيام {الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ} أي سكن لكم {وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} أي سكن لهن دليله. قوله تعالى: {وجعل منها زوجها ليسكن إليها} [189- الأعراف] وقيل لا يسكن شيء كسكون أحد الزوجين إلى الآخر، وقيل: سمي كل واحد من الزوجين لباسا لتجردهما عند النوم واجتماعهما في ثوب واحد حتى يصير كل واحد منهما لصاحبه كالثوب الذي يلبسه، وقال الربيع بن أنس: هن فراش لكم وأنتم لحاف لهن، قال أبو عبيدة وغيره: يقال للمرأة هي لباسك وفراشك وإزارك وقيل: اللباس اسم لما يواري الشيء فيجوز أن يكون كل واحد منهما سترا لصاحبه عما لا يحل كما جاء في الحديث: «من تزوج فقد أحرز ثلثي دينه» {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} أي تخونونها وتظلمونها بالمجامعة بعد العشاء، قال البراء: لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله، وكان رجال يخونون أنفسهم، فأنزل الله تعالى: {علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم} {فَتَابَ عَلَيْكُمْ} تجاوز عنكم {وَعَفَا عَنْكُمْ} محا ذنوبكم {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ} جامعوهن حلالا سميت المجامعة مباشرة لتلاصق بشرة كل واحد منهم لصاحبه، {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} أي فاطلبوا ما قضى الله لكم، وقيل ما كتب الله لكم في اللوح المحفوظ يعني الولد، قاله أكثر المفسرين، قال مجاهد: ابتغوا الولد إن لم تلد هذه فهذه وقال قتادة: وابتغوا الرخصة التي كتب الله لكم بإباحة الأكل والشرب والجماع في اللوح المحفوظ، وقال معاذ بن جبل: وابتغوا ما كتب الله لكم يعني ليلة القدر.
قوله: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ} نزلت في رجل من الأنصار اسمه أبو صرمة بن قيس بن صرمة، وقال عكرمة: أبو قيس بن صرمه، وقال الكلبي: أبو قيس صرمة بن أنس بن أبي صرمة، وذلك أنه ظل نهاره يعمل في أرض له وهو صائم، فلما أمسى رجع إلى أهله بتمر، وقال لأهله قدمي الطعام فأرادت المرأة أن تطعمه شيئا سخينا فأخذت تعمل له سخينة، وكان في الابتداء من صلى العشاء ونام حرم عليه الطعام والشراب، فلما فرغت من طعامه إذ هي به قد نام وكان قد أعيا وكل فأيقظته فكره أن يعصي الله ورسوله، فأبى أن يأكل فأصبح صائما مجهودا، فلم ينتصف النهار حتى غشي عليه، فلما أفاق أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: يا أبا قيس مالك أمسيت طليحا فذكر له ماله فاغتم لذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} يعني في ليالي الصوم {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ} يعني بياض النهار من سواد الليل، سميا خيطين لأن كل واحد منهما يبدو في الابتداء ممتدا كالخيط.
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا سعيد بن أبي مريم أخبرنا أبو غسان محمد بن مطرف ثنا أبو حازم عن سهل بن سعد قال: أنزلت: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ} ولم ينزل قوله: {مِنَ الْفَجْرِ} فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجله الخيط الأبيض والخيط الأسود ولا يزال يأكل حتى يتبين له رؤيتهما، فأنزل الله تعالى بعده {مِنَ الْفَجْرِ} فعلموا إنما يعني بهما الليل والنهار.
أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا الحجاج بن منهال أخبرنا هشيم أخبرنا حصين بن عبد الرحمن عن الشعبي عن عدي بن حاتم قال: لما نزلت: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ} عمدت إلى عقال أسود وإلى عقال أبيض فجعلتهما تحت وسادتي فجعلت أنظر إليهما وإلى الليل فلا يستبين لي فغدوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال: «إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار».
أخبرنا أبو الحسن السرخسي أخبرنا زاهر بن أحمد أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن بلالا ينادي بليل فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم» قال: «كان ابن أم مكتوم رجلا أعمى لا ينادي حتى يقال له أصبحت أصبحت» واعلم أن الفجر فجران كاذب وصادق، فالكاذب يطلع أولا مستطيلا كذنب السرحان يصعد إلى السماء فبطلوعه لا يخرج الليل ولا يحرم الطعام والشراب على الصائم، ثم يغيب فيطلع بعده الفجر الصادق مستطيرا ينتشر سريعا في الأفق، فبطلوعه يدخل النهار ويحرم الطعام والشراب على الصائم.
أخبرنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الضبي أخبرنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجراحي أخبرنا أبو العباس المحبوبي أخبرنا أبو عيسى الترمذي أخبرنا هناد ويوسف بن عيسى قالا أخبرنا وكيع عن أبي هلال عن سوادة بن حنظلة عن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يمنعكم من سحوركم آذان بلال ولا الفجر المستطيل ولكن الفجر المستطير في الأفق».
قوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} فالصائم يحرم عليه الطعام والشراب بطلوع الفجر الصادق ويمتد إلى غروب الشمس فإذا غربت حصل الفطر.
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا الحميدي أخبرنا سفيان أخبرنا هشام بن عروة قال: سمعت أبي يقول: سمعت عاصم بن عمر بن الخطاب عن أبيه رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم».
قوله تعالى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} وقد نويتم الاعتكاف في المساجد وليس المراد عن مباشرتهن في المساجد لأن ذلك ممنوع منه في غير الاعتكاف والعكوف هو الإقامة على الشيء والاعتكاف في الشرع هو الإقامة في المسجد على عبادة الله، وهو سنة ولا يجوز في غير المسجد ويجوز في جميع المساجد.
أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا عبد الله بن يوسف أخبرنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله تعالى، ثم اعتكف أزواجه من بعده» والآية نزلت في نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يعتكفون في المسجد، فإذا عرضت للرجل منهم الحاجة إلى أهله خرج إليها فجامعها ثم اغتسل، فرجع إلى المسجد فنهوا عن ذلك ليلا ونهارا حتى يفرغوا من اعتكافهم، فالجماع حرام في حال الاعتكاف ويفسد به الاعتكاف، أما ما دون الجماع من المباشرات كالقبلة واللمس بالشهوة، فمكروه ولا يفسد به الاعتكاف عند أكثر أهل العلم وهو أظهر قولي الشافعي، كما لا يبطل به الحج، وقالت طائفة يبطل بها اعتكافه وهو قول مالك، وقيل إن أنزل بطل اعتكافه وإن لم ينزل فلا كالصوم، وأما اللمس الذي لا يقصد به التلذذ فلا يفسد به الاعتكاف لما أخبرنا أبو الحسن السرخسي أخبرنا زاهر بن أحمد أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اعتكف أدنى إلي رأسه فأرجله وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان».
قوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} يعني تلك الأحكام التي ذكرها في الصيام والاعتكاف، حدود أي: ما منع الله عنها، قال السدي: شروط الله، وقال شهر بن حوشب: فرائض الله، وأصل الحد في اللغة المنع، ومنه يقال للبواب حداد، لأنه يمنع الناس من الدخول، وحدود الله ما منع الناس من مخالفتها {فَلا تَقْرَبُوهَا} فلا تأتوها {كَذَلِك} هكذا {يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} لكي يتقوها فينجوا من العذاب.

.تفسير الآية رقم (188):

{وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)}
قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} قيل نزلت هذه الآية في امرئ القيس بن عايش لكندي ادعى عليه ربيعة بن عبدان الحضرمي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أرضا أنه غلبني عليها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للحضرمي ألك بينة؟ قال لا قال: فلك يمينه فانطلق ليحلف فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما إن حلف على ماله ليأكله ظلما ليلقين الله وهو عنه معرض» فأنزل الله هذه الآية {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} أي لا يأكل بعضكم مال بعض بالباطل أي من غير الوجه الذي أباحه الله، وأصل الباطل الشيء الذاهب، والأكل بالباطل أنواع، قد يكون بطريق الغصب والنهب وقد يكون بطريق اللهو كالقمار وأجرة المغني ونحوهما، وقد يكون بطريق الرشوة والخيانة {وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} أي تلقوا أمور تلك الأموال بينكم وبين أربابها إلى الحكام، وأصل الإدلاء: إرسال الدلو وإلقاؤه في البئر يقال: أدلى دلوه إذا أرسله، ودلاه يدلوه إذا أخرجه قال ابن عباس: هذا في الرجل يكون عليه مال وليس عليه بينة فيجحد المال ويخاصم فيه إلى الحاكم، وهو يعرف أن الحق عليه وإنه أثم بمنعه، قال مجاهد في هذه الآية: لا تخاصم وأنت ظالم، قال الكلبي: هو أن يقيم شهادة الزور وقوله: {وَتُدْلُوا} في محل الجزم بتكرير حرف النهي، معناه ولا تدلوا بها إلى الحكام، وقيل معناه: ولا تأكلوا بالباطل وتنسبونه إلى الحكام، قال قتادة: لا تدل بمال أخيك إلى الحاكم وأنت تعلم أنك ظالم فإن قضاءه لا يحل حراما، وكان شريح القاضي يقول: إني لأقضي لك وإني لأظنك ظالما ولكن لا يسعني إلا أن أقضي بما يحضرني من البينة وإن قضائي لا يحل لك حراما.
أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أخبرنا أبو العباس الأصم أخبرنا الربيع أخبرنا الشافعي أخبرنا مالك بن أنس عن هشام بن عروة عن أبيه عن زينب بنت أبي سلمة عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذنه فإنما أقطع له قطعة من النار».
قوله تعالى: {لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا} طائفة {مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإثْمِ} بالظلم وقال ابن عباس: باليمين الكاذبة يقطع بها مال أخيه {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أنكم مبطلون.