فصل: تفسير الآيات (45- 50):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآيات (45- 50):

{ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46) فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50)}
{ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ} أي بحجة بينة من اليد والعصا. وغيرهما. {إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا} تعظموا عن الإيمان، {وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ} متكبرين قاهرين غيرهم بالظلم. {فَقَالُوا} يعني فرعون وقومه، {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا} يعني: موسى وهارون، {وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} مطيعون متذللون، والعرب تسمي كل من دان للملك: عابدا له. {فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ} بالغرق. {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} التوراة، {لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} أي لكي يهتدي به قومه. {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} دلالة على قدرتنا، ولم يقل آيتين، قيل: معناه شأنهما آية. وقيل: معناه جعلنا كل واحد منهما آية، كقوله تعالى: {كلتا الجنتين آتت أكلها} [الكهف- 33]. {وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ} الربوة المكان المرتفع من الأرض، واختلفت الأقوال فيها، فقال عبد الله بن سلام: هي دمشق، وهو قول سعيد بن المسيب ومقاتل، وقال الضحاك: غوطة دمشق. وقال أبو هريرة: هي الرملة. وقال عطاء عن ابن عباس: هي بيت المقدس، وهو قول قتادة وكعب. وقال كعب: هي أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلا. وقال ابن زيد: هي مصر. وقال السدي: أرض فلسطين. {ذَاتِ قَرَارٍ} أي: مستوية منبسطة واسعة يستقر عليها ساكنوها. {وَمَعِينٍ} فالمعين الماء الجاري الظاهر الذي تراه العيون، مفعول من عانه يعينه إذا أدركه البصر.

.تفسير الآيات (51- 55):

{يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55)}
قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ} قال الحسن ومجاهد وقتادة والسدي والكلبي وجماعة: أراد به محمدا صلى الله عليه وسلم وحده على مذهب العرب في مخاطبة الواحد بلفظ الجماعة. وقال بعضهم: أراد به عيسى. وقيل: أراد به جميع الرسل عليهم السلام، {كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ} أي الحلالات، {وَاعْمَلُوا صَالِحًا} الصلاح هو الاستقامة على ما توجبه الشريعة، {إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} {وَإِنَّ هَذِهِ} قرأ أهل الكوفة: وإن بكسر الألف على الابتداء، وقرأ الباقون بفتح الألف، وخفف ابن عامر النون وجعل إن صلة، مجازة: وهذه {أُمَّتُكُمْ} وقرأ الباقون بتشديد النون على معنى وبأن هذا، تقديره: بأن هذه أمتكم، أي ملتكم وشريعتكم التي أنتم عليها، {أُمَّةً وَاحِدَةً} أي ملة واحدة وهي الإسلام، {وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} أي: اتقوني لهذا.
وقيل: معناه أمرتكم بما أمرت به المرسلين من قبلكم، فأمركم واحد، {وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} فاحذرون. وقيل: هو نصب بإضمار فعل، أي: اعلموا أن هذه أمتكم، أي ملتكم، أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون. {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ} دينهم، {بَيْنَهُمْ} أي: تفرقوا فصاروا فرقا، يهودا ونصارى ومجوسا، {زُبُرًا} أي: فرقا وقطعا مختلفة، واحدها زبور وهو الفرقة والطائفة، ومثله الزبرة وجمعها زبر، ومنه: {زبر الحديد} [الكهف- 96]. أي: صاروا فرقا كزبر الحديد. وقرأ بعض أهل الشام {زبرا} بفتح الباء، قال قتادة ومجاهد {زبرا} أي: كتبا، يعني دان كل فريق بكتاب غير الكتاب الذي دان به الآخرون. وقيل: جعلوا كتبهم قطعا مختلفة، آمنوا بالبعض، وكفروا بالبعض، وحرفوا البعض، {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ} بما عندهم من الدين، {فَرِحُونَ} معجبون ومسرورون. {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ} قال ابن عباس: في كفرهم وضلالتهم، وقيل: عمايتهم، وقيل: غفلتهم {حَتَّى حِينٍ} إلى أن يموتوا. {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ} ما نعطيهم ونجعله مددا لهم من المال والبنين في الدنيا.

.تفسير الآيات (56- 60):

{نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ (56) إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60)}
{نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ} أي: نجعل لهم في الخيرات، ونقدمها ثوابا لأعمالهم لمرضاتنا عنهم، {بَل لا يَشْعُرُونَ} أن ذلك استدراج لهم. ثم ذكر المسارعين في الخيرات فقال: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} أي: خائفون، والإشفاق: الخوف، والمعنى أن المؤمنين بما هم عليه من خشية الله خائفون من عقابه، قال الحسن البصري: المؤمن من جمع إحسانا وخشية، والمنافق من جمع إساءة وأمنا. {وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ} يصدقون. {وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ}. {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا} أي: يعطون ما أعطوا من الزكاة والصدقات، وروي عن عائشة أنها كانت تقرأ {والذين يأتون ما أتوا} أي: يعملون ما عملوا من أعمال البر، {وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} أن ذلك لا ينجيهم من عذاب الله وأن أعمالهم لا تقبل منهم، {أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} لأنهم يوقنون أنهم يرجعون إلى الله عز وجل. قال الحسن: عملوا لله بالطاعات واجتهدوا فيها وخافوا أن ترد عليهم.
أخبرنا أبو سعيد الشريحي، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي، أخبرنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا محمد بن حامد، حدثنا محمد بن الجهم، أخبرنا عبد الله بن عمرو، أخبرنا وكيع عن مالك بن مغول، عن عبد الرحمن بن سعيد بن وهب، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت يا رسول الله {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} أهو الذي يزني ويشرب الخمر ويسرق؟ قال: «لا يا بنت الصديق، ولكنه الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ويخاف أن لا يقبل منه».

.تفسير الآيات (61- 64):

{أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61) وَلا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (62) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63) حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64)}
قوله عز وجل: {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} يبادرون إلى الأعمال الصالحات، {وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} أي: إليها سابقون، كقوله تعالى: {لما نهوا} أي: إلى ما نهوا، ولما قالوا ونحوها، وقال ابن عباس في معنى هذه الآية: سبقت لهم من الله السعادة. وقال الكلبي: سبقوا الأمم إلى الخيرات. قوله: {وَلا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} أي: طاقتها، فمن لم يستطع القيام فليصل قاعدا، ومن لم يستطع الصوم فليفطر، {وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ} وهو اللوح المحفوظ، {ينطق بالحق} يبين بالصدق، ومعنى الآية: لا يكلف الله نفسا إلا وسعها إلا ما أطاقت من العمل، وقد أثبتنا عمله في اللوح المحفوظ، فهو ينطق به ويبينه. وقيل: هو كتب أعمال العباد التي تكتبها الحفظة، {وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} ولا ينقص من حسناتهم ولا يزاد على سيئاتهم. ثم ذكر الكفار، فقال: {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ} أي: في غفلة وجهالة، {مِنْ هَذَا} أي: من القرآن، {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ} أي: للكفار أعمال خبيثة من المعاصي والخطايا محكومة عليهم من دون ذلك، يعني من دون أعمال المؤمنين التي ذكرها الله تعالى في قوله: {إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون}، {هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} لابد لهم من أن يعملوها، فيدخلوا بها النار، لما سبق لهم من الشقاوة. هذا قول أكثر المفسرين. وقال قتادة: هذا ينصرف إلى المسلمين، وأن لهم أعمالا سوى ما عملوا من الخيرات هم لها عاملون، والأول أظهر. {حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ} أي: أخذنا أغنياءهم ورؤساءهم، {بِالْعَذَابِ} قال ابن عباس: هو السيف يوم بدر. وقال الضحاك: يعني الجوع حين دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف» فابتلاهم الله عز وجل بالقحط حتى أكلوا الكلاب والجيف. {إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ} يضجون ويجزعون ويستغيثون، وأصل الجأر: رفع الصوت بالتضرع.

.تفسير الآيات (65- 69):

{لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67) أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69)}
{لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ} أي لا تضجوا، {إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ} لا تمنعون منا ولا ينفعكم تضرعكم. {قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ} يعني القرآن، {فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ} ترجعون القهقرى تتأخرون عن الإيمان. {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ} اختلفوا في هذه الكناية، فأظهر الأقاويل أنها تعود إلى البيت الحرام كناية عن غير مذكور، أي: مستكبرين متعظمين بالبيت الحرام، وتعظمهم به أنهم كانوا يقولون نحن أهل حرم الله وجيران بيته، فلا يظهر علينا أحد، ولا نخاف أحدا، فيأمنون فيه وسائر الناس في الخوف، هذا قول ابن عباس ومجاهد، وجماعة، وقيل: {مستكبرين به} أي: بالقرآن فلم يؤمنوا به. والأول أظهر، المراد منه الحرم، {سَامِرًا} نصب على الحال، أي أنهم يسمرون بالليل في مجالسهم حول البيت، ووحد سامرا وهو بمعنى السمار لأنه وضع موضع الوقت، أراد تهجرون ليلا. وقيل: وحد سامرا، ومعناه الجمع كقوله: {ثم نخرجكم طفلا} [الحج- 5]، {تَهْجُرُونَ} قرأ نافع {تهجرون} بضم التاء وكسر الجيم من الإهجار وهو الإفحاش في القول، أي: تفحشون وتقولون الخنا، وذكر أنهم كانوا يسبون النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وقرأ الآخرون: {تهجرون} بفتح التاء وضم الجيم، أي: تعرضون عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الإيمان والقرآن، وترفضونها: وقيل: هو من الهجر وهو القول القبيح، يقال هجر يهجر هجرا إذا قال غير الحق. وقيل تهزئون وتقولون ما لا تعلمون، من قولهم: هجر الرجل في منامه إذا هذى. {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا} أي: يتدبروا، {الْقَوْلَ} يعني: ما جاءهم من القول وهو القرآن، فيعرفوا ما فيه من الدلالات على صدق محمد صلى الله عليه وسلم، {أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأوَّلِينَ} فأنكروا، يريد إنا قد بعثنا من قبلهم رسلا إلى قومهم كذلك بعثنا محمدا صلى الله عليه وسلم إليهم. وقيل: {أم} بمعنى بل، يعني: جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين فلذلك أنكروا. {أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ} محمدا صلى الله عليه وسلم، {فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} قال ابن عباس: أليس قد عرفوا محمدا صلى الله عليه وسلم صغيرا وكبيرا، وعرفوا نسبه وصدقه وأمانته ووفاءه بالعهود. وهذا على سبيل التوبيخ لهم على الإعراض عنه بعدما عرفوه بالصدق والأمانة.

.تفسير الآيات (70- 74):

{أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74)}
{أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ} جنون، وليس كذلك، {بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ} يعني بالصدق والقول الذي لا تخفى صحته وحسنه على عاقل، {وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ} قال ابن جريج ومقاتل والسدي وجماعة: {الحق} هو الله، أي: لو اتبع الله مرادهم فيما يفعل، وقيل: لو اتبع مرادهم، فسمى لنفسه شريكا وولدا كما يقولون: {لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ} وقال الفراء والزجاج: والمراد بالحق القرآن أي: لو نزل القرآن بما يحبون من جعل الشريك والولد على ما يعتقدونه {لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} وهو كقوله تعالى: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} [الأنبياء- 22].
{بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ} بما يذكرهم، قال ابن عباس: أي: بما فيه فخرهم وشرفهم، يعني القرآن، فهو كقوله تعالى: {لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم} [الأنبياء- 10]، أي: شرفكم، {وإنه لذكر لك ولقومك} [الزخرف- 44]، أي: شرف لك ولقومك. {فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ} يعني عن شرفهم، {مُعْرِضُونَ} {أَمْ تَسْأَلُهُمْ} على ما جئتهم به، {خَرْجًا} أجرا وجعلا {فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ} أي: ما يعطيك الله من رزقه وثوابه خير، {وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} قرأ حمزة والكسائي: {خراجا} {فخراج} كلاهما بالألف، وقرأ ابن عامر كلاهما بغير ألف، وقرأ الآخرون: {خرجا} بغير ألف {فخراج} بالألف. {وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وهو الإسلام. {وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ} أي: عن دين الحق، {لَنَاكِبُونَ} لعادلون مائلون.

.تفسير الآيات (75- 80):

{وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (80)}
{وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ} قحط وجدوبة {لَلَجُّوا} تمادوا، {فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} ولم ينزعوا عنه. {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ} وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا على قريش أن يجعل عليهم سنين كسني يوسف، فأصابهم القحط، فجاء أبو سفيان إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال أنشدك الله والرحم، ألست تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين؟ فقال: بلى، فقال: قد قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع، فادع الله أن يكشف عنا هذا القحط، فدعا فكشف عنهم، فأنزل الله هذه الآية {فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ} أي: ما خضعوا وما ذلوا لربهم، وأصله طلب السكون، {وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} أي: لم يتضرعوا إلى ربهم بل مضوا على تمردهم. {حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ} قال ابن عباس: يعني القتل يوم بدر. وهو قول مجاهد، وقيل: هو الموت. وقيل: هو قيام الساعة، {إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} آيسون من كل خير. {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ} أي: أنشأ لكم الأسماع {وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ} لتسمعوا وتبصروا وتعقلوا، {قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ} أي: لم تشكروا هذه النعم. {وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ} خلقكم، {فِي الأرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} تبعثون. {وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} أي: تدبير الليل والنهار في الزيادة والنقصان، قال الفراء: جعلهما مختلفين، يتعاقبان ويختلفان في السواد والبياض، {أَفَلا تَعْقِلُونَ} ما ترون من صنعة فتعتبرون.