فصل: تفسير الآيات (81- 88):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآيات (81- 88):

{بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الأوَّلُونَ (81) قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ (83) قُلْ لِمَنِ الأرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88)}
{بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الأوَّلُونَ} أي: كذبوا كما كذب الأولون. {قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} لمحشورون، قالوا ذلك على طريق الإنكار والتعجب. {لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا} الوعد، {مِنْ قَبْلُ} أي: وعد آباءنا قوم ذكروا أنهم رسل الله فلم نر له حقيقة، {إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ} أكاذيب الأولين. {قُلْ} يا محمد مجيبا لهم، يعني أهل مكة، {لِمَنِ الأرْضُ وَمَنْ فِيهَا} من الخلق، {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} خالقها ومالكها. {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} ولابد لهم من ذلك لأنهم يقرون أنها مخلوقة. {قُلْ} لهم إذا أقروا بذلك: {أَفَلا تَذَكَّرُونَ} فتعلمون أن من قدر على خلق الأرض ومن فيها ابتداء يقدر على إحيائهم بعد الموت. {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}. {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} قرأ العامة {لله} ومثله ما بعده، فجعلوا الجواب على المعنى، كقول القائل للرجل: من مولاك؟ فيقول: لفلان، أي أنا لفلان وهو مولاي. وقرأ أهل البصرة فيهما {الله} وكذلك هو في مصحف أهل البصرة، وفي سائر المصاحف، مكتوب بالألف كالأول، {قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} تحذرون. {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} الملكوت الملك، والتاء فيه للمبالغة، {وَهُوَ يُجِيرُ} أي: يؤمن من يشاء {وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ} أي: لا يؤمن من أخافه الله، أو يمنع هو من السوء من يشاء، ولا يمنع منه من أراده بسوء، {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} قيل: معناه أجيبوا إن كنتم تعلمون.

.تفسير الآيات (89- 96):

{سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92) قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96)}
{سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} أي: تخدعون وتصرفون عن توحيده وطاعته، والمعنى: كيف يخيل لكم الحق باطلا؟ {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ} بالصدق {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} فيما يدعون من الشريك {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} أي: من شريك، {إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ} أي: تفرد بما خلقه فلم يرض أن يضاف خلقه وإنعامه إلى غيره، ومنع الإله الآخر من الاستيلاء على ما خلق. {وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} أي: طلب بعضهم مغالبة بعض كفعل ملوك الدنيا فيما بينهم، ثم نزه نفسه فقال: {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} قرأ أهل المدينة والكوفة غير حفص: {عالم} برفع الميم على الابتداء، وقرأ الآخرون بجرها على نعت الله في سبحان الله، {فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي: تعظم عما يشركون، ومعناه أنه أعظم من أن يوصف بهذا الوصف. قوله: {قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي} أي: إن أريتني، {مَا يُوعَدُونَ} أي: ما أوعدتهم من العذاب. {رَبِّ} أي: يا رب، {فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} أي: لا تهلكني بهلاكهم. {وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ} من العذاب لهم، {لَقَادِرُونَ} {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} أي: ادفع بالخلة التي هي أحسن، هي الصفح والإعراض والصبر، {السَّيِّئَةَ} يعني أذاهم، أمرهم بالصبر على أذى المشركين والكف عن المقاتلة، نسختها آية السيف {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} يكذبون ويقولون من الشرك.

.تفسير الآيات (97- 101):

{وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ (101)}
{وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ} أي: أمتنع وأعتصم بك، {مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ} قال ابن عباس: نزعاتهم. وقال الحسن: وساوسهم. وقال مجاهد: نفخهم ونفثهم. وقال أهل المعاني: دفعهم بالإغواء إلى المعاصي، وأصل الهمز شدة الدفع. {وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} في شيء من أموري، وإنما ذكر الحضور لأن الشيطان إذا حضره يوسوسه. ثم أخبر أن هؤلاء الكفار الذين ينكرون البعث يسألون الرجعة إلى الدنيا عند معاينة الموت، فقال: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} ولم يقل ارجعني، وهو يسأل الله وحده الرجعة، على عادة العرب فإنهم يخاطبون الواحد بلفظ الجمع على وجه التعظيم، كما أخبر الله تعالى عن نفسه فقال: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} [الحجر- 9]، ومثله كثير في القرآن. وقيل: هذا الخطاب مع الملائكة الذين يقبضون روحه ابتداء بخطاب الله لأنهم استغاثوا بالله أولا ثم رجعوا إلى مسألة الملائكة الرجوع إلى الدنيا. قوله تعالى: {لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} أي: ضيعت أن أقول لا إله إلا الله. وقيل: أعمل بطاعة الله. قال قتادة: ما تمنى أن يرجع إلى أهله وعشيرته ولا ليجمع الدنيا ويقضي الشهوات، ولكن تمنى أن يرجع فيعمل بطاعة الله، فرحم الله امرءا عمل فيما يتمناه الكافر إذا رأى العذاب، {كَلا} كلمة ردع وزجر، أي: لا يرجع إليها، {إِنَّهَا} يعني: سؤاله الرجعة، {كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} ولا ينالها {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ} أي أمامهم وبين أيديهم حاجز، {إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} والبرزخ الحاجز بين الشيئين، واختلفوا في معناه هاهنا، فقال مجاهد: حجاب بينهم وبين الرجوع إلى الدنيا. وقال قتادة: بقية الدنيا. وقال الضحاك: البرزخ ما بين الموت إلى البعث. وقيل: هو القبر، وهم فيه إلى يوم يبعثون. {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ} اختلفوا في هذه النفخة، فروى سعيد بن جبير عن ابن عباس: أنها النفخة الأولى {ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض} [الزمر- 68]، {فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} {ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون} [الزمر- 68]، {وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون} [الصافات- 27].
وعن ابن مسعود: أنها النفخة الثانية، قال: يؤخذ بيد العبد والأمة يوم القيامة فينصب على رءوس الأولين والآخرين ثم ينادي مناد: هذا فلان ابن فلان، فمن كان له قبله حق فليأت إلى حقه، فيفرح المرء أن يكون له الحق على والده وولده أو زوجته أو أخيه فيأخذ منه، ثم قرأ ابن مسعود {فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون}.
وفي رواية عطاء عن ابن عباس: أنها الثانية فلا أنساب بينهم أي: لا يتفاخرون بالأنساب يومئذ كما كانوا يتفاخرون في الدنيا، ولا يتساءلون سؤال تواصل كما كانوا يتساءلون في الدنيا: من أنت ومن أي قبيلة أنت؟ ولم يرد أن الأنساب تنقطع.
فإن قيل: أليس قد جاء في الحديث: «كل سبب ونسب ينقطع إلا نسبي وسببي».
قيل: معناه لا يبقى يوم القيامة سبب ولا نسب إلا نسبه وسببه، وهو الإيمان والقرآن.
فإن قيل: قد قال هاهنا{وَلا يَتَسَاءَلُونَ} وقال في موضع آخر: {وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون} [الصافات- 27].
الجواب: ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن للقيامة أحوالا ومواطن، ففي موطن يشتد عليهم الخوف، فيشغلهم عظم الأمر عن التساؤل فلا يتساءلون، وفي موطن يفيقون إفاقة فيتساءلون.

.تفسير الآيات (102- 108):

{فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ (108)}
{وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ}. {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ} أي: تسفع، وقيل: تحرق، {وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} عابسون.
أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة، أخبرنا محمد بن أحمد الحارثي، أخبرنا محمد بن يعقوب الكسائي، أخبرنا عبد الله بن محمود، أخبرنا إبراهيم بن عبد الله الخلال، أخبرنا عبد الله بن المبارك، عن سعيد بن يزيد، عن أبي السمح، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وهم فيها كالحون، قال: تشويه النار، فتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه، وتسترخي شفته السفلى حتى تضرب سرته» وبهذا الإسناد عن عبد الله بن المبارك عن حاجب بن عمر عن الحكم ابن الأعرج قال: قال: أبو هريرة: «يعظم الكافر في النار مسيرة سبع ليال، فيصير ضرسه مثل أحد، وشفاههم عند سررهم، سود زرق خسر مقبوحون» قوله عز وجل: {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ} يعني القرآن، تخوفون بها، {فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} قرأ حمزة والكسائي: {شقاوتنا} بالألف وفتح الشين، وهما لغتان أي: غلبت علينا شقوتنا التي كتبت علينا فلم نهتد. {وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ} عن الهدى. {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا} أي: من النار، {فَإِنْ عُدْنَا} لما تكره {فَإِنَّا ظَالِمُونَ} {قَالَ اخْسَئُوا} أبعدوا، {فِيهَا} كما يقال للكلب إذا طرد: اخسأ، {وَلا تُكَلِّمُونِ} في رفع العذاب، فإني لا أرفعه عنكم، فعند ذلك أيس المساكين من الفرج، قال الحسن: هو آخر كلام يتكلم به أهل النار ثم لا يتكلمون بعدها إلا الشهيق والزفير، ويصير لهم عواء كعواء الكلاب لا يفهمون ولا يفهمون، روي عن عبد الله بن عمرو: أن أهل جهنم يدعون مالكا خازن النار أربعين عاما: {يا مالك ليقض علينا ربك} [الزخرف- 77] فلا يجيبهم، ثم يقول: {إنكم ماكثون} [الزخرف- 77]، ثم ينادون ربهم: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} فيدعهم مثل عمر الدنيا مرتين ثم يرد عليهم: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} فلا ينبس القوم بعد ذلك بكلمة إن كان إلا الزفير والشهيق.
وقال القرطبي: إذا قيل لهم: {اخسئوا فيها ولا تكلمون} انقطع رجاؤهم، وأقبل بعضهم ينبح في وجه بعض، وأطبقت عليهم.

.تفسير الآيات (109- 111):

{إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111)}
{إِنَّهُ} الهاء في {إنه} عماد وتسمى أيضا المجهولة، {كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي} وهم المؤمنون {يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} {فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا} قرأ أهل المدينة وحمزة والكسائي: {سخريا} بضم السين هاهنا وفي سورة ص، وقرأ الباقون بكسرهما، واتفقوا على الضم في سورة الزخرف. قال الخليل: هما لغتان مثل قولهم: بحر لجي، ولجى بضم اللام وكسرها، مثل كوكب دري ودري، قال الفراء والكسائي: الكسر بمعنى الاستهزاء بالقول، والضم بمعنى التسخير والاستعباد بالفعل، واتفقوا في سورة الزخرف بأنه بمعنى التسخير، {حَتَّى أَنْسَوْكُمْ} أي: أنساكم اشتغالكم بالاستهزاء بهم وتسخيرهم، {ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ} نظيره: {إن الذين اجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون} [المطففين- 29] قال مقاتل: نزلت في بلال وعمار وخباب وصهيب وسلمان والفقراء من الصحابة، كان كفار قريش يستهزئون بهم. {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا} على أذاكم واستهزائكم في الدنيا، {أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} قرأ حمزة والكسائي {أنهم} بكسر الألف على الاستئناف، وقرأ الآخرون بفتحها، فيكون في موضع المفعول الثاني إني جزيتهم اليوم بصبرهم الفوز بالجنة.

.تفسير الآيات (112- 115):

{قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ (115)}
{قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ} قرأ حمزة والكسائي: {قل كم لبثتم} على الأمر. ومعنى الآية: قولوا أيها الكافرون، فأخرج الكلام مخرج الواحد، والمراد منه الجماعة، إذ كان معناه مفهوما، ويجوز أن يكون الخطاب لكل واحد منهم، أي قل يا أيها الكافرون، وقرأ ابن كثير: قل كم، على الأمر، وقال أن على الخبر، لأن الثانية جواب، وقرأ الآخرون: {قال} فيهما جميعا، أي: قال الله عز وجل للكفار يوم البعث: كم لبثتم؟ {فِي الأرْضِ} أي: في الدنيا وفي القبور {عَدَدَ سِنِينَ} {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} نسوا مدة لبثهم في الدنيا لعظم ما هم بصدده من العذاب، {فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ} الملائكة الذين يحفظون أعمال بني آدم ويحصونها عليهم. {قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ} أي: ما لبثتم في الدنيا، {إِلا قَلِيلا} سماه قليلا لأن الواحد وإن طال مكثه في الدنيا فإنه يكون قليلا في جنب ما يلبث في الآخرة، لأن لبثه في الدنيا وفي القبر متناه، {لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} قدر لبثكم في الدنيا. قوله عز وجل: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} لعبا وباطلا لا لحكمة، وهو نصب على الحال، أي: عابثين. وقيل: للعبث، أي: لتلعبوا وتعبثوا كما خلقت البهائم لا ثواب لها ولا عقاب، وهو مثل قوله: {أيحسب الإنسان أن يترك سدى} [القيامة- 36]، وإنما خلقتم للعبادة وإقامة أوامر الله عز وجل، و{وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} أي: أفحسبتم أنكم إلينا لا ترجعون في الآخرة للجزاء، وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب لا {ترجعون} بفتح التاء وكسر الجيم.
أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان، أخبرنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني، أخبرنا حميد بن زنجويه، أخبرنا بشر بن عمر، أخبرنا عبد الله بن لهيعة، أخبرنا عبد الله بن هبيرة، عن حنش، أن رجلا مصابا مر به على ابن مسعود فرقاه في أذنيه: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} حتى ختم السورة فبرأ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بماذا رقيت في أذنه»؟ فأخبره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لو أن رجلا موقنا قرأها على جبل لزال».