فصل: تفسير الآيات (54- 55):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآيات (54- 55):

{قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (54) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)}
{قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا} أي: تولوا عن طاعة الله ورسوله، {فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ} يعني: على الرسول ما كُلِّف وأُمر به من تبليغ الرسالة، {وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ} من الإجابة والطاعة، {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} أي: التبليغ البين. قوله عز وجل: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ} قال أبو العالية في هذه الآية: مكث النبي صلى الله عليه وسلم بمكة بعد الوحي عشر سنين مع أصحابه، وأمروا بالصبر على أذى الكفار، وكانوا يُصْبِحُونَ ويُمْسُونَ خائفين، ثم أمروا بالهجرة إلى المدينة، وأمروا بالقتال وهم على خوفهم لا يفارق أحد منهم سلاحه، فقال رجل منهم: ما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع السلاح؟ فأنزل الله هذه الآية {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ} أدخل اللام لجواب اليمين المضمرة، يعني: والله ليستخلفنهم، أي: ليورثنهم أرض الكفار من العرب والعجم، فيجعلهم ملوكها وساستها وسكانها، {كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} قرأ أبو بكر عن عاصم: {كما استخلف} بضم التاء وكسر اللام على ما لم يسم فاعله، وقرأ الآخرون بفتح التاء واللام لقوله تعالى: {وعد الله}. قال قتادة: {كَمَا اسْتَخْلَفَ} داود وسليمان وغيرهما من الأنبياء. وقيل: {كما استخلف الذين من قبلهم} أي: بني إسرائيل حيث أهلك الجبابرة بمصر والشام وأورثهم أرضهم وديارهم، {وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} أي: اختار، قال ابن عباس: يوسع لهم في البلاد حتى يملكوها ويظهر دينهم على سائر الأديان، {وَلَيُبدِّلنَّهُمْ} قرأ ابن كثير وأبو بكر ويعقوب بالتخفيف من الإبدال، وقرأ الآخرون بالتشديد من التبديل، وهما لغتان، وقال بعضهم: التبديل تغيير حال إلى حال، والإبدال رفع الشيء وجعل غيره مكانه، {مِنْ بَعْدِخَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي} آمنين، {لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} فأنجز الله وعده، وأظهر دينه، ونصر أولياءه، وأبدلهم بعد الخوف أمنًا وبسطًا في الأرض.
أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، أخبرنا محمد بن إسماعيل، أخبرنا محمد بن الحكم، أخبرنا النضر، أخبرنا إسرائيل، أخبرنا سعيد الطاهري، أخبرنا محمد بن خليفة، عن عدي بن حاتم قال: بينا أنا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أتاه رجل فشكى إليه الفاقة، ثم أتاه آخر فشكى إليه قطع السبيل، فقال: «يا عدي هل رأيت الحيرة؟ قلت: لم أرها وقد أنبئت عنها»، قال: «فإن طالت بك حياة فَلَتَريَنَّ الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحدا إلا الله»، قلت فيما بيني وبين نفسي: فأين دعار طيء الذين قد سعروا البلاد؟، «ولئن طالت بك حياة لتفتحن كنوز كسرى» قلت: كسرى بن هرمز؟ قال: «كسرى بن هرمز، لئن طالت بك حياة لترين الرجل يخرج ملء كفه من ذهب وفضة يطلب من يقبله منه فلا يجد أحدا يقبله منه، وليَلْقَينَّ اللهَ أحدُكم يوم القيامة وليس بينه وبينه ترجمان يترجمُ فليقولنّ له: ألم أبعث إليك رسولا فيبلغك؟ فيقول: بلى، فيقول: ألم أعطك مالا وأفضل عليك؟ فيقول: بلى فينظر عن يمينه فلا يرى إلا جهنَّم، وينظر عن يساره فلا يرى إلا جهنم»، قال عدي: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اتقوا النار ولو بشق تمرة فمن لم يجد فبكلمة طيبة»، قال عدي: فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا الله، وكنت ممن افتتح كنوز كسرى بن هرمز، ولئن طالت بكم حياة لترونَّ ما قال النبي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم يخرج ملء كفه وفي الآية دلالة على خلافة الصديق وإمامة الخلفاء الراشدين. أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن بن أبي شريح، أخبرنا أبو القاسم البغوي، أخبرنا علي بن الجعد، أخبرني حماد هو ابن مسلمة بن دينار، عن سعيد بن جمهان، عن سفينة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون، مُلْكًا». ثم قال: أمسك خلافة أبي بكر سنتين، وخلافة عمر عشرًا، وعثمان اثنتا عشر، وعلي ستة. قال علي: قلت لحماد: سفينة، القائل، لسعيد أمسك؟ قال: نعم. قوله عز وجل: {وَمَنْ كَفَرَبَعْدَ ذَلِكَ} أراد به كفران النعمة، ولم يرد الكفر بالله، {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} العاصون لله. قال أهل التفسير: أول من كفر بهذه النعمة وجحد حقها الذين قتلوا عثمان رضي الله عنه، فلما قتلوه غيرَّ الله ما بهم وأدخل عليهم الخوف حتى صاروا يقتتلون بعد أن كانوا إخوانًا.
أخبرنا أبو المظفر محمد بن أحمد التميمي، أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن بن عثمان بن القاسم المعروف بابن أبي نصر، أخبرنا أبو الحسن خيثمة بن سليمان بن حيدرة المعروف بالطرابلسي، أخبرنا إسحاق بن إبراهيم بن عباد، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، عن حميد بن هلال قال: قال عبد الله بن سلام في عثمان: إن الملائكة لم تزل محيطة بمدينتكم هذه منذ قدمها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اليوم، فوالله لئن قتلتموه ليذهبون ثم لا يعودون أبدا، فوالله لا يقتله رجل منكم إلا لقي الله أجذم لا يَدَ لهُ، وإن سيف الله لم يزل مغمودًا عنكم، والله لئن قتلتموه ليسلنَّه الله ثم لا يغمده عنكم، إما قال: أبدًا، وإما قال: إلى يوم القيامة، فما قتل نبي قط إلا قتل به سبعون ألفًا، ولا خليفة إلا قتل به خمسة وثلاثون ألفًا.

.تفسير الآيات (56- 57):

{وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الأرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57)}
قوله عز وجل: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} أي: افعلوها على رجاء الرحمة. {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} قرأ عامر وحمزة {لا يحسبن} بالياء، أي: لا يحسبن الذين كفروا أنفسهم {مُعْجِزِينَ فِي الأرْضِ} وقرأ الآخرون بالتاء، يقول: لا تحسبن يا محمد الذين كفروا معجزين فائتين عنا، {وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ}.

.تفسير الآية رقم (58):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58)}
قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم} الآية: قال ابن عباس رضي الله عنهما وجَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم غلاما من الأنصار يقال له مدلج بن عمرو إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقت الظهيرة ليدعوه، فدخل فرأى عمر بحالةٍ كره عمر رؤيته ذلك، فأنزل الله هذه الآية وقال مقاتل: نزلت في أسماء بنت مرثد، كان لها غلام كبير، فدخل عليها في وقتٍ كرهته، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن خدمنا وغلماننا يدخلون علينا في حال نكرهها، فأنزل الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم}: اللام لام الأمر. {الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم} يعني: العبيد والإماء، {وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ} من الأحرار، ليس المراد منهم الأطفال الذين لم يظهروا على عورات النساء، بل الذين عرفوا أمر النساء ولكن لم يبلغوا.
{ثَلاثَ مَرَّاتٍ} أي: ليستأذنوا في ثلاث أوقات، {مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ} يريد المَقِيْل، {وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ} وإنما خص هذه الأوقات لأنها ساعات الخلوة ووضع الثياب، فربما يبدو من الإنسان ما لا يحب أن يراه أحد، أمر العبيد والصبيان بالاستئذان في هذه الأوقات، وأما غيرهم فليستأذنوا في جميع الأوقات {ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ} قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر: {ثلاث} بنصب الثاء بدلا عن قوله: {ثلاث مرات}، وقرأ الآخرون بالرفع، أي: هذه الأوقات ثلاث عورات لكم، سميت هذه الأوقات عورات لأن الإنسان يضع فيها ثيابه فتبدو عورته، {لَيْسَ عَلَيْكُمْ} جناح، {وَلا عَلَيْهِمْ} يعني: على العبيد والخدم والصبيان، {جُنَاحٌ} في الدخول عليكم من غير استئذان، {بَعْدَهُن} أي: بعد هذه الأوقات الثلاثة، {طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ} أي: العبيد والخدم يطوفون عليكم فيترددون ويدخلون ويخرجون في أشغالهم بغير إذن، {بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ} أي: يطوف، {بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} واختلف العلماء في حكم هذه الآية: فقال قوم: منسوخ.
قال ابن عباس رضي الله عنه: لم يكن للقوم ستور ولا حجاب، فكان الخدم والولائد يدخلون فربما يرون منهم ما لا يحبون، فأمروا بالاستئذان، وقد بسط الله الرزق واتخذ الناس الستور فرأى أن ذلك أغنى عن الاستئذان وذهب قوم إلى أنها غير منسوخة، روى سفيان عن موسى بن أبي عائشة قالت: سألت الشعبي عن هذه الآية: {ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم} أمنسوخة هي؟ قال: لا والله، قلت: إن الناس لا يعملون بها، قال: الله المستعان وقال سعيد بن جبير في هذه الآية: إن ناسًا يقولون نسخت، والله ما نسخت، ولكنها مما تهاون به الناس.

.تفسير الآية رقم (59):

{وَإِذَا بَلَغَ الأطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59)}
قوله تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الأطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ} أي: الاحتلام، يريد الأحرار الذين بلغوا، {فليستأذنوا} أي: يستأذنون في جميع الأوقات في الدخول عليكم، {كَمَااسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} الأحرار والكبار.
وقيل: يعني الذين كانوا مع إبراهيم وموسى وعيسى. {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ} دلالاته. وقيل: أحكامه، {وَاللَّهُ عَلِيمٌ} بأمور خلقه، {حَكِيم} بما دبر لهم. قال سعيد بن المسيب: يستأذن الرجل على أمه، فإنما أنزلت هذه الآية في ذلك. وسئل حذيفة: أيستأذن الرجل على والدته؟ قال: نعم، إن لم يفعل رأى منها ما يكره.

.تفسير الآيات (60- 61):

{وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60) لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)}
قوله تعالى: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ} يعني اللاتي قعدن عن الولد والحيض من الكبر، لا يلدن ولا يحضن، واحدتها قاعد بلا هاء. وقيل: قعدن عن الأزواج، وهذا معنى قوله: {اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا} أي: لا يردن الرجال لكبرهن، قال ابن قتيبة: سميت المرأة قاعدًا إذا كبرت، لأنها تكثر القعود. وقال ربيعة الرأي: هن العُجَّز، اللائي إذا رآهن الرجال استقذروهن، فأما من كانت فيها بقية من جمال، وهي محل الشهوة، فلا تدخل في هذه الآية، {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ} عند الرجال، يعني: يضعن بعض ثيابهن، وهي الجلباب والرداء الذي فوق الثياب، والقناع الذي فوق الخمار، فأما الخمار فلا يجوز وضعه، وفي قراءة ابن مسعود رضي الله عنه وأبي بن كعب: {أن يضعن من ثيابهن}، {غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} أي: من غير أن يردن بوضع الجلباب، والرداء إظهار زينتهن، والتبرُّج هو أن تظهر المرأة من محاسنها ما ينبغي لها أن تتنزه عنه. {وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ} فلا يلقين الجلباب والرداء، {خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَىالْمَرِيضِ حَرَجٌ} الآية، اختلف العلماء في هذه الآية، فقال ابن عباس رضي الله عنهما لما أنزل الله عز وجل قوله: {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} [النساء- 29]، تحرج المسلمون عن مؤاكلة المرضى والزَّمنى والعمي والعرج، وقالوا الطعام أفضل الأموال، وقد نهانا الله عن أكل المال بالباطل. والأعمى لا يبصر موضع الطعام الطيب، والأعرج لا يتمكن من الجلوس، ولا يستطيع المزاحمة على الطعام، والمريض يضعف عن التناول فلا يستوفي الطعام، فأنزل الله هذه الآية وعلى هذا التأويل يكون {على} بمعنى في أي: ليس في الأعمى، يعني: ليس عليكم في مؤاكلة الأعمى والأعرج والمريض.
وقال سعيد بن جبير والضحاك وغيرهما كان العرجان والعميان والمرضى يتنزهون عن مؤاكلة الأصحاء، لأن الناس يتقذرون منهم ويكرهون مؤاكلتهم، ويقول الأعمى: ربما أكل أكثر، ويقول الأعرج: ربما أخذ مكان الاثنين، فنزلت هذه الآية. وقال مجاهد: نزلت الآية ترخيصًا لهؤلاء في الأكل من بيوت من سمَّى الله في هذه الآية، وذلك أن هؤلاء كانوا يدخلون على الرجل لطلب الطعام فإذا لم يكن عنده ما يطعمهم ذهب بهم إلى بيوت آبائهم وأمهاتهم أو بعض من سمى الله في هذه الآية، فكان أهل الزمانة يتحرجون من ذلك الطعام ويقولون ذهب بنا إلى بيت غيره؟ فأنزل الله هذه الآية وقال سعيد بن المسيب: كان المسلمون إذا غزوا خلفوا زمناهم ويدفعون إليهم مفاتيح أبوابهم ويقولون قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما في بيوتنا، فكانوا يتحرجون من ذلك ويقولون لا ندخلها وهم غُيَّب، فأنزل الله هذه الآية رخصة لهم قال الحسن: نزلت هذه الآية رخصة لهؤلاء في التخلف عن الجهاد. قال: تم الكلام عند قوله: {ولا على المريض حرج}، وقوله تعالى: {وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} كلام منقطع عما قبله.
وقيل: لما نزل قوله: {لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} [النساء- 29]، قالوا: لا يحل لأحد منا أن يأكل عند أحد، فأنزل الله عز وجل: {وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ} أي: لا حرج عليكم أن تأكلوا من بيوتكم. قيل: أراد من أموال عيالكم وأزواجكمُ وبيت المرأة كبيت الزوج. وقال ابن قتيبة: أراد من بيوت أولادكم، نَسَبَ بيوتَ الأولادِ إلى الآباء كما جاء في الحديث: «أنت ومالك لأبيك»، {أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَه} قال ابن عباس رضي الله عنهما: عني بذلك وكيل الرجل وقيمه في ضيعته وماشيته، لا بأس عليه أن يأكل من ثمر ضيعته، ويشرب من لبن ماشيته، ولا يحمل ولا يدخر. وقال الضحاك: يعني في بيوت عبيدكم ومماليككم، وذلك أن السيد يملك منزل عبده والمفاتيح الخزائن، لقوله تعالى: {وعنده مفاتح الغيب} [الأنعام- 59] ويجوز أن يكون الذي يفتح به. قال عكرمة: إذا ملك الرجل وقال بعضهم: أراد أن تأكلوا من بيوت أولادكم، فنسب بيوت الأولاد إلى الآباء؛ لأن الأولاد كسبهم، وأموالهم كأموالهم. يدلك على هذا: أن الناس لا يتوقون أن يأكلوا من بيوتهم، وأن الله سبحانه عدد القربات وهم أبعد نسبا من الولد، ولم يذكر الولد.
المفتاح فهو خازن، فلا بأس أن يطعم الشيء اليسير. وقال السدي: الرجل يولي طعامه غيره يقوم عليه فلا بأس أن يأكل منه وقال قوم: {ما ملكتم مفاتحه} ما خزنتموه عندكم قال مجاهد وقتادة: من بيوت أنفسكم مما أحرزتم وملكتم.
{أَوْ صَدِيقِكُمْ} الصديق الذي صدقك في المودة. قال ابن عباس: نزلت في الحارث بن عمرو رضي الله عنه، خرج غازيًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلَّف مالك بن زيد على أهله، فلما رجع وجده مجهودًا فسأله عن حاله، فقال: تحرجت أن آكل طعامك بغير إذنك فأنزل الله هذه الآية. وكان الحسن وقتادة يريان دخول الرجل بيت صديقه والتحرم بطعامه من غير استئذان منه في الأكل بهذه الآية. والمعنى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا} من منازل هؤلاء إذا دخلتموها وإن لم يحضروا، من غير أن تتزودوا وتحملوا.
قوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًاأَوْ أَشْتَاتًا} نزلت في بني ليث بن عمرو، وهم حي من بني كنانة كان الرجل منهم لا يأكل وحده حتى يجد ضيفًا يأكل معه، فربما قعد الرجل والطعام، بين يديه من الصباح إلى الرَّواح، وربما كانت معه الإبل الحُفَّل، فلا يشرب من ألبانها حتى يجد من يشاربه، فإذا أمسى ولم يجد أحدًا أكل، هذا قول قتادة والضحاك وابن جريج وقال عطاء الخراساني عن ابن عباس رضي الله عنهما: كان الغني يدخل على الفقير من ذوي قرابته وصداقته فيدعوه إلى طعامه، فيقول: والله إني لأجنح، أي: أتحرج أن آكل معك وأنا غني وأنت فقير، فنزلت هذه الآية. وقال عكرمة وأبو صالح: نزلت في قوم من الأنصار كانوا لا يأكلون إذا نزل بهم ضيف إلا مع ضيفهم، فرخص لهم أن يأكلوا كيف شاءوا، جميعًا أو أشتاتًا متفرقين.
{فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} أي: يسلم بعضكم على بعض، هذا في دخول الرجل بيت نفسه يسلم على أهله ومن في بيته، وهو قول جابر وطاوس والزهري وقتادة والضحاك وعمرو بن دينار. وقال قتادة: إذا دخلت بيتك فسلِّمْ على أهلك فهو أحق من سَلَّمْتَ عليه، وإذا دخلت بيتًا لا أحد فيه فقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. حُدِّثْنَا أن الملائكة ترد عليه وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن لم يكن في البيت أحد فليقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، السلام على أهل البيت ورحمة الله. وروى عمرو بن دينار عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} قال: إذا دخلت المسجد فقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين {تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّه} نصب على المصدر، أي: تحيون أنفسكم تحية، {مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} وقال ابن عباس رضي الله عنهما: حسنة جميلة. وقيل: ذكر البركة والطيبة هاهنا لما فيه من الثواب والأجر {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}.