فصل: تفسير الآيات (44- 52):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآيات (44- 52):

{فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44) فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قَالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52)}
{فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ}. {فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ}. {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ}. {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ}. {رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ}. {قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ}. {قَالُوا لا ضَيْرَ} لا ضرر، {إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ} {إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} من أهل زماننا. {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} يتبعكم فرعون وقومه ليحولوا بينكم وبين الخروج من مصر.
وروي عن ابن جريج قال: أوحى الله تعالى إلى موسى: أن اجمع بني إسرائيل كل أربعة أهل أبيات في بيت، ثم اذبحوا أولاد الضأن، فاضربوا بدمائها على أبوابكم، فإني سآمر الملائكة فلا يدخلوا بيتا على بابه دم، وسآمرها فتقتل أبكار آل فرعون من أنفسهم وأموالهم، ثم اخبزوا خبزًا فطيرًا فإنه أسرع لكم ثم أَسْرِ بعبادي حتى تنتهي إلى البحر، فيأتيك أمري، ففعل ذلك، فلما أصبحوا قال فرعون: هذا عمل موسى وقومه، قتلوا أبكارنا من أنفسنا، وأخذوا أموالنا. فأرسل في أثره ألف ألف وخمسمائة ألف ملك مسور مع كل ملك ألف، وخرج فرعون في الكرسي العظيم.

.تفسير الآيات (53- 58):

{فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58)}
{فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} يحشرون الناس يعني: الشُّرَطَ ليجمعوا السحرة. وقيل: حتى يجمعوا له الجيش، وذكر بعضهم: أنه كان له ألف مدينة واثنا عشرة ألف قرية. وقال لهم: {إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ} عصابة {قَلِيلُونَ} والشرذمة القطعة من الناس غير الكثير، وجمعها شراذم. قال أهل التفسير: كانت الشرذمة الذين قللهم فرعون ستمائة ألف. وعن ابن مسعود قال: كانوا ستمائة وسبعين ألفا ولا يحصى عدد أصحاب فرعون.. {وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ} يقال: غاظه وأغاظه وغيظه إذا أغضبه، والغيظ والغضب واحد، يقول: أغضبونا بمخالفتهم ديننا وقتلهم أبكارنا وذهابهم بأموالنا التي استعاروها، وخروجهم من أرضنا بغير إذن منا. {وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} قرأ أهل الحجاز والبصرة: {حذرون} و{فرهين} بغير ألف، وقرأ الآخرون {حاذرون} و{فارهين} بالألف فيهما، وهما لغتان. وقال أهل التفسير: حاذرون، أي: مُؤْدُون ومقوون، أي: ذوو أداة وقوة مستعدون شاكون في السلاح ومعنى {حذرون} أي: خائفون شرهم. وقال الزجاج: الحاذر: المستعد، والحَذِر: المتيقظ. وقال الفراء: الحاذر: الذي يحذرك الآن، والحذر: المخوف. وكذلك لا تلقاه إلا حذرًا، والحَذَر: اجتناب الشيء خوفًا منه. {فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ} وفي القصة: البساتين كانت ممتدة على حافتي النيل، {وَعُيُونٍ} أنهار جارية. {وَكُنُوزٍ} يعني الأموال الظاهرة من الذهب والفضة. قال مجاهد: سماها كنوزًا لأنه لم يعط حق الله منها، وما لم يعط حق الله منه فهو كنز وإن كان ظاهرًا، قيل: كان لفرعون ثمانمائة ألف غلام، كل غلام على فرس عتيق، في عنق كل فرس طوق من ذهب، {وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} أي: مجلس حسن، قال المفسرون: أراد مجالس الأمراء والرؤساء التي كانت تحفها الأتباع. وقال مجاهد، وسعيد بن جبير: هي المنابر. وذكر بعضهم: أنه كان إذا قعد على سريره وضع بين يديه ثلاثمائة كرسي من ذهب يجلس عليها الأشراف عليهم الأقبية من الديباج مَخُوصة بالذهب.

.تفسير الآيات (59- 63):

{كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63)}
{كَذَلِكَ} كما وصفنا، {وَأَوْرَثْنَاهَا} بهلاكهم، {بَنِي إِسْرَائِيلَ} وذلك أن الله تعالى رد بني إسرائيل إلى مصر بعدما أغرق فرعون وقومه، فأعطاهم جميع ما كان لفرعون وقومه من الأموال والمساكن. {فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ} أي: لحقوهم في وقت إشراق الشمس، وهو إضاءتها، أي: أدرك قوم فرعون موسى وأصحابَهُ وقت شروق الشمس. {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ} أي: تقابلا بحيث يرى كل فريق صاحبه، وكسر حمزة الراء من {تراءى} وفتحها الآخرون. {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} أي: سيدركنا قوم فرعون ولا طاقة لنا بهم. {قَالَ} موسى ثقة بوعد الله إياه: {كَلا} لن يدركونا، {إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} يدلني على طريق النجاة. {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ} أي: فضربه {فانفلق} فانشقَّ، {فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ} قطعة من الماء، {كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} كالجبل الضخم، قال ابن جريج وغيره لما انتهى موسى إلى البحر هاجت الريح، والبحر يرمي بموج مثل الجبال، فقال يوشع: يا مكلم الله أين أُمرتَ فقد غشينا فرعون والبحر أمامنا؟ قال موسى: هاهنا، فخاض يوشع الماء وجاز البحر، ما يواري حافر دابته الماء. وقال الذي يكتم إيمانه: يا مكلم الله أين أُمرتَ؟ قال: هاهنا، فكبح فرسه بلجامه حتى طار الزَّبَدُ من شدقيه، ثم أقحمه البحر، فارتسب في الماء، وذهب القوم يصنعون مثل ذلك، فلم يقدروا، فجعل موسى لا يدري كيف يصنع، فأوحى الله إليه: أن اضرب بعصاك البحر، فضربه فانفلق، فإذا الرجل واقف على فرسه لم يبتلْ سَرْجه ولا لِبْدُه.

.تفسير الآيات (64- 73):

{وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73)}
{وَأَزْلَفْنَا} يعني: وقرَّبْنَا {ثَمَّ الآخَرِينَ} يعني: قوم فرعون، يقول: قدمناهم إلى البحر، وقربناهم إلى الهلاك، وقال أبو عبيدة: {وأزلفنا}: جمعنا، ومنه ليلة المزدلفة أي: ليلة الجَمْع. وفي القصة أن جبريل كان بين بني إسرائيل وقوم فرعون وكان يسوق بني إسرائيل، ويقولون: ما رأينا أحسن سياقة من هذا الرجل، وكان يَزَعُ قوم فرعون، وكانوا يقولون: ما رأينا أحسن زعة من هذا. {وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ}. {ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ} فرعون وقومه. وقال سعيد بن جبير: كان البحر ساكنًا قبل ذلك، فلما ضربه موسى بالعصا اضطرب فجعل يمد ويجزر. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} أي: من أهل مصر، قيل: لم يكن آمن من أهل مصر إلا آسية امرأة فرعون وحزبيل المؤمن، ومريم بنت ناقوسا التي دلت على عظام يوسف عليه السلام. {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} العزيز في الانتقام من أعدائه، الرحيم بالمؤمنين حين أنجاهم. قوله: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ}. قوله: {إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ} أي شيءٍ تعبدون؟. {قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} أي: نقيم على عبادتها. قال بعض أهل العلم: إنما قال: {فَنَظَلُّ} لأنهم كانوا يعبدونها بالنهار، دون الليل، يقال: ظل يفعل كذا إذا فعل بالنهار. {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ} أي: هل يسمعون دعاءكم، {إِذْ تَدْعُونَ} قال ابن عباس يسمعون لكم. {أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ} قيل بالرزق، {أَوْ يَضُرُّونَ} إن تركتم عبادتها.

.تفسير الآيات (74- 79):

{قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79)}
{قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} معناه: إنها لا تسمع قولا ولا تجلب نفعًا، ولا تدفع ضرًا، لكن اقتدينا بآبائنا. فيه إبطال التقليد في الدين. {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأقْدَمُونَ} الأولون. {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي} أي: أعداء لي، ووحَّده على معنى أن كلَّ معبودٍ لكم عدو لي. فإن قيل: كيف وصف الأصنام بالعداوة وهي جمادات؟ قيل: معناه فإنهم عدو لي لو عبدتهم يوم القيامة كما قال تعالى: {سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدًا} [مريم- 82]. وقال الفرَّاء: هو من المقلوب، أراد: فإني عدوٌّ لهم، لأن من عاديته فقد عاداك. وقيل: {فإنهم عدو لي} على معنى إني لا أتولاهم ولا أطلب من جهتهم نفعًا، كما لا يُتَوَلَّى العدو، ولا يُطْلب من جهته النفع.
قوله: {إِلا رَبَّ الْعَالَمِينَ} اختلفوا في هذا الاستثناء، قيل: هو استثناء منقطع، كأنه قال: فإنهم عدو لي لكن رب العالمين وليي. وقيل: إنهم كانوا يعبدون الأصنام مع الله، فقال إبراهيم: كل من تعبدون أعدائي إلا ربَّ العالمين. وقيل: إنهم غير معبود لي إلا رب العالمين، فإني أعبده. وقال الحسين بن الفضل: معناه إلا من عَبَدَ ربَّ العالمين. ثم وصف معبوده فقال: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} أي: يرشدني إلى طريق النجاة. {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} أي: يرزقني ويغذني بالطعام والشراب، فهو رازقي ومن عنده رزقي.

.تفسير الآيات (80- 85):

{وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85)}
{وَإِذَا مَرِضْتُ} أضاف المرض إلى نفسه وإن كان المرض والشفاء كله من الله، استعمالا لحسن الأدب كما قال الخَضِرُ: {فأردت أن أعيبها} [الكهف- 79]، وقال: {فأراد ربك أن يبلغا أشدهما} [الكهف- 82]. {فَهُوَ يَشْفِينِ} أي: يبرئني من المرض. {وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} أدخل {ثم} هاهنا للتراخي، أي: يميتني في الدنيا ويحييني في الآخرة. {وَالَّذِي أَطْمَعُ} أي: أرجو، {أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} أي: خطاياي يوم الحساب. قال مجاهد: هو قوله: {إني سقيم}، وقوله: {بل فعله كبيرهم هذا}، وقوله لسارة: «هذه أختي»، وزاد الحسن وقوله للكواكب: {هذا ربي}. وأخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر، أخبرنا عبد الغافر بن محمد الفارسي، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي، أخبرنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، حدثنا مسلم بن الحجاج، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا حفص بن غياث، عن داود، عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة قال: قلت يا رسول الله: ابن جدعان، كان في الجاهلية يصل الرحم، ويطعم المساكين، فهل ذاك نافعه؟ قال: «لا ينفعه إنه لم يقل يوما، رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين» وهذا كله احتجاج من إبراهيم على قومه، وإخبار أنه لا يصلح للإلهية من لا يفعل هذه الأفعال. {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا} قال ابن عباس: معرفة حدود الله وأحكامه. وقال مقاتل: الفهم والعلم. وقال الكلبي: النبوة {وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} بمن قبلي من النبيين في المنزلة والدرجة. {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ} أي: ثناء حسنًا، وذكرًا جميلا وقبولا عامًا في الأمم التي تجيء بعدي، فأعطاه الله ذلك، فجعل كل أهل الأديان يتولَّونه ويثنون عليه. قال القتيبي: وضع اللسان موضع القول على الاستعارة لأن القول يكون به. {وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ} أي: ممن تعطيه جنة النعيم.

.تفسير الآيات (86- 96):

{وَاغْفِرْ لأبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ (88) إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96)}
{وَاغْفِرْ لأبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ} وقال هذا قبل أن يتبين له أنه عدو الله، كما سبق ذكره في سورة التوبة. {وَلا تُخْزِنِي} لا تفضحني، {يَوْمِ يُبْعَثُونَ} {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} أي: خالص من الشرك والشك فأما الذنوب فليس يسلم منها أحد، هذا قول أكثر المفسرين. قال سعيد بن المسيب: القلب السليم هو الصحيح، وهو قلب المؤمن لأن قلب الكافر والمنافق مريض. قال الله تعالى: {في قلوبهم مرض} [البقرة- 10]، قال ابن عثمان النيسابوري: هو القلب الخالي من البدعة المطمئن على السنة. {وَأُزْلِفَتِ} قربت {الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ} {وَبُرِّزَتِ} أظهرت، {الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ} للكافرين. {وَقِيلَ لَهُمْ} يوم القيامة، {أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ} {مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ} يمنعونكم من العذاب، {أَوْ يَنْتَصِرُونَ} لأنفسهم. {فَكُبْكِبُوا فِيهَا} قال ابن عباس: جمعوا. وقال مجاهد: دُهْوِرُوا. وقال مقاتل: قذفوا. وقال الزجاج: طرح بعضهم على بعض. وقال القتيبي: ألقوا على رءوسهم. {هُمْ وَالْغَاوُونَ} يعني: الشياطين، قال قتادة، ومقاتل. وقال الكلبي: كفرة الجن. {وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ} وهم أتباعه ومن أطاعه من الجن والإنس. ويقال: ذريته. {قَالُوا} أي: قال الغاوون للشياطين والمعبودين، {وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ} مع المعبودين ويجادل بعضهم بعضًا.

.تفسير الآيات (97- 105):

{تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) وَمَا أَضَلَّنَا إِلا الْمُجْرِمُونَ (99) فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104) كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105)}
{تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ}. {إِذْ نُسَوِّيكُمْ} نعدلكم، {بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} فنعبدكم. {وَمَا أَضَلَّنَا} أي: ما دعانا إلى الضلال، {إِلا الْمُجْرِمُونَ} قال مقاتل: يعني الشياطين. وقال الكلبي: إلا أوَّلونا الذين اقتدينا بهم. وقال أبو العالية وعكرمة: يعني: إبليس، وابن آدم الأول، وهو قابيل، لأنه أول من سن القتل، وأنواع المعاصي. {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ} أي: من يشفع لنا من الملائكة والنبيين والمؤمنين. {وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} أي: قريب يشفع لنا، يقوله الكفار حين تشفع الملائكة والنبيون والمؤمنون، والصديق هو الصادق في المودة بشرط الدين. أخبرنا أبو سعيد الشريحي، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي، أخبرني الحسين بن محمد بن فنجويه، حدثنا محمد بن الحسين اليقطيني، أخبرنا أحمد بن عبد الله يزيد العقيلي، حدثنا صفوان بن صالح، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا من سمع أبا الزبير يقول: أشهد لسمعت جابر بن عبد الله يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الرجل ليقول في الجنة ما فعل صديقي فلان، وصديقه في الجحيم، فيقول الله تعالى: أخرجوا له صديقه إلى الجنة، فيقول من بقي: فما لنا من شافعين ولا صديقٍ حميم» قال الحسن: استكثروا من الأصدقاء المؤمنين فإن لهم شفاعة يوم القيامة. {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً}أي: رجعة إلى الدنيا، {فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} العزيز الذي لا يغالب، فالله عزيز، وهو في وصف عزته رحيم. قوله عز وجل: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} قيل للحسن البصري: يا أبا سعيد أرأيت قوله: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} و{كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} و{كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ} وإنما أرسل إليهم رسول واحد؟ قال: إن الآخر جاء بما جاء الأول، فإذا كذبوا واحدًا فقد كذبوا الرسل أجمعين.