فصل: تفسير الآيات (22- 23):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآيات (22- 23):

{فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23)}
{فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ} قرأ عاصم ويعقوب: {فَمَكَثَ} بفتح الكاف، وقرأ الآخرون بضمها وهما لغتان، {غَيْرَ بَعِيدٍ} أي: غير طويل، {فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} والإحاطة: العلم بالشيء من جميع جهاته، يقول: علمتُ ما لم تعلم، وبلغتُ ما لم تبلغه أنت ولا جنودك، {وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ} قرأ أبو عمرو، والبزي عن ابن كثير من سبأ ولسبأ في سورة سبأ، مفتوحة الهمزة، وقرأ القواص عن ابن كثير ساكنة بلا همزة، وقرأ الآخرون بالإجراء، فمن لم يجره جعله اسم البلد، ومن أجراه جعله اسم رجل، فقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن سبأ فقال: «كان رجلا له عشرة من البنين تَيَامَنَ منهم ستة وتشاءم أربعة». {بِنَبَإٍ} بخبر، {يَقِينٍ} فقال سليمان: وما ذاك؟ قال: {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ} {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ} وكان اسمها بلقيس بنت شراحيل، من نسل يعرب بن قحطان، وكان أبوها ملكًا عظيم الشأن، قد ولد له أربعون ملكًا هو آخرهم، وكان يملك أرض اليمن كلها، وكان يقول لملوك الأطراف: ليس أحد منكم كفؤًا لي، وأبى أن يتزوج فيهم، فزوجوه امرأة من الجن يقال لها ريحانة بنت السكن، فولدت له بلقيس، ولم يكن له ولد غيرها، وجاء في الحديث: إن إحدى أبوي بلقيس كان جنيًا. فلما مات أبو بلقيس طمعت في الملك فطلبت من قومها أن يبايعوها فأطاعها قوم وعصاها قوم آخرون، فملَّكوا عليهم رجلا وافترقوا فرقتين، كل فرقة استولت على طرف من أرض اليمن، ثم إن الرجل الذي ملكوه أساء السيرة في أهل مملكته حتى كان يمد يده إلى حرم رعيته ويفجر بهن، فأراد قومه خلعه فلم يقدروا عليه، فلما رأت ذلك بلقيس أدركتها الغيرة فأرسلت إليه تعرض نفسها عليه، فأجابها الملك، وقال: ما منعني أن أبتدئك بالخطبة إلا اليأس منك، فقالت لا أرغب عنك، كفؤ كريم، فاجمع رجال قومي واخطبني إليهم، فجمعهم وخطبها إليهم، فقالوا: لا نراها تفعل هذا، فقال لهم: إنها ابتدأتني فأنا أحب أن تسمعوا قولها فجاؤوها، فذكروا لها، فقالت: نعم أحببت الولد. فزوجوها منه، فلما زفت إليه خرجت في أناس كثير من حشمها، فلما جاءته سقته الخمر حتى سكر، ثم جزت رأسه وانصرفت من الليل إلى منزلها، فلما أصبح الناس رأوا الملك قتيلا ورأسه منصوب على باب دارها، فعلموا أن تلك المناكحة كانت مكرًا وخديعة منها، فاجتمعوا إليها وقالوا: أنت بهذا الملك أحق من غيرك، فملكوها.
أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، أخبرنا محمد بن إسماعيل، أخبرنا عثمان بن الهيثم، أخبرنا عوف، عن الحسن، عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهل فارس ملكوا عليهم بنت كسرى قال: «لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة». قوله تعالى: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} يحتاج إليه الملوك من الآلة والعدة، {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} سرير ضخم كان مضروبًا من الذهب مكللا بالدر والياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر، وقوائمه من الياقوت والزمرد، وعليه سبعة أبيات على كل بيت باب مغلق. قال ابن عباس: كان عرش بلقيس ثلاثين ذراعًا في ثلاثين ذراعًا: وطوله في السماء ثلاثون ذراعًا. وقال مقاتل: كان طوله ثمانين ذراعًا وطوله في السماء ثمانين ذراعًا. وقيل: كان طوله ثمانين ذراعًا وعرضه أربعين ذراعا وارتفاعه ثلاثين ذراعًا.

.تفسير الآيات (24- 27):

{وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (24) أَلا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26) قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27)}
{أَلا يَسْجُدُوا} قرأ أبو جعفر والكسائي: {أَلا يسجدوا} بالتخفيف، وإذا وقفوا يقفون {ألا يا}: ألا يا ثم يبتدئون: {اسجدوا}، على معنى: ألا يا هؤلاء اسجدوا، وجعلوه أمرًا من عند الله مستأنفًا، وحذفوا هؤلاء اكتفاء بدلالة يا عليها، وذكر بعضهم سماعًا من العرب: أَلا يا ارحمونا، يريدون ألا يا قوم، وقال الأخطل:
أَلا يا اسْلَمِي يا هِنْدُ هِنْدَ بَنِي بَكْرِ ** وإنْ كانَ حَيَّانَا عِدًا آخِرَ الدَّهْرِ

يريد: ألا يا اسلمي يا هند، وعلى هذا يكون قوله: {أَلا} كلامًا معترضًا من غير القصة، إما من الهدهد، وإما من سليمان. قال أبو عبيدة: هذا أمر من الله مستأنف يعني: يا أيها الناس اسجدوا. وقرأ الآخرون: {ألا يسجدوا} بالتشديد، بمعنى: وزين لهم الشيطان أعمالهم لئلا يسجدوا، {لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ} أي: الخفي المخبَّأ، {فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ} أي: ما خبأت. قال أكثر المفسرين: خبء السماء: المطر، وخبء الأرض: النبات. وفي قراءة عبد الله: {يخرج الخبء من السموات والأرض}، ومن وفي يتعاقبان، تقول العرب: لأستخرجن العلم فيكم، يريد: منكم. وقيل: معنى {الخبء} الغيب، يريد: يعلم غيب السموات والأرض. {وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} قرأ الكسائي، وحفص، عن عاصم: بالتاء فيهما، لأن أول الآية خطاب على قراءة الكسائي بتخفيف ألا وقرأ الآخرون بالياء. {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} أي: هو المستحقُّ للعبادة والسجود لا غيره. وعرش ملكة سبأ وإن كان عظيمًا فهو صغير حقير في جنب عرشه عز وجل، تم هاهنا كلام الهدهد، فلما فرغ الهدهد من كلامه. {قَالَ} سليمان للهدهد: {سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ} فيما أخبرت، {أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ}؟ فدلَّهم الهدهد على الماء، فاحتفروا الركايا وروي الناس والدواب، ثم كتب سليمان كتابًا: من عبد الله سليمان بن داود إلى بلقيس ملكة سبأ: بسم الله الرحمن الرحيم، السلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فلا تعلوا علي واتوني مسلمين. قال ابن جريج لم يزد سليمان على ما قص الله في كتابه. وقال قتادة: وكذلك الأنبياء كانت تكتب جُمَلا لا يطيلون ولا يكثرون. فلما كتب الكتاب طبعه بالمسك وختمه بخاتمه. فقال للهدهد {اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ}.

.تفسير الآيات (28- 29):

{اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلأ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29)}
{اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ} قرأ أبو عمرو، وعاصم، وحمزة: ساكنة الهاء، ويختلسها أبو جعفر، ويعقوب وقالون كسرًا، والآخرون بالإشباع كسرًا، {ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ} تَنحَ عنهم فكنْ قريبًا منهم، {فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ} يردُّون من الجواب. وقال ابن زيد: في الآية تقديم وتأخير مجازها: اذهبْ بكتابي هذا فألقه إليهم فانظر ماذا يرجعون، ثم تول عنهم، أي: انصرف إليَّ، فأخذ الهدهد الكتاب فأتى به إلى بلقيس، وكانت بأرض يقال لها مأرب من صنعاء على ثلاثة أيام، فوافاها في قصرها وقد غلّقت الأبواب، وكانت إذا رقدت غلّقت الأبواب وأخذت المفاتيح فوضعتها تحت رأسها، فأتاها الهدهد وهي نائمة مستلقية على قفاها، فألقى الكتاب على نحرها، هذا قول قتادة. وقال مقاتل: حمل الهدهد الكتاب بمنقاره حتى وقف على رأس المرأة وحولها القادة والجنود فرفرف ساعة والناس ينظرون إليه، حتى رفعت المرأة رأسها فألقى الكتاب في حِجْرها.
وقال ابن منبه، وابن زيد: كانت لها كوة مستقبلة الشمس تقع الشمس فيها حين تطلع، فإذا نظرت إليها سجدت لها، فجاء الهدهد الكوة فسدها بجناحيه فارتفعت الشمس ولم تعلم، فلما استبطأت الشمس قامت تنظر، فرمى بالصحيفة إليها، فأخذت بلقيس الكتاب، وكانت قارئة، فلما رأت الخاتم أُرعدت وخضعت لأن ملك سليمان كان في خاتمه، وعرفت أن الذي أرسل الكتاب إليها أعظم مُلْكًا منها، فقرأت الكتاب، وتأخر الهدهد غير بعيد، فجاءت حتى قعدت على سرير مملكتها وجمعت الملأ من قومها، وهم اثنا عشر ألف قائد مع كل قائد مائة ألف مقاتل. وعن ابن عباس قال: كان مع بلقيس مائة ألف قَيْل، مع كل قيل مائة ألف والقَيْل الملك دون الملك الأعظم، وقال قتادة ومقاتل: كان أهل مشورتها ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا كل رجل منهم على عشرة آلاف، قال: فجاءوا وأخذوا مجالسهم. {قَالَتْ} هم بلقيس: {يَا أَيُّهَا الْمَلأ} وهم أشراف الناس وكبراؤهم {إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ}.
قال عطاء والضحاك: سمته كريمًا لأنه كان مختومًا. وروى ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كرامة الكتاب ختمه» وقال قتادة ومقاتل: {كتاب كريم} أي: حسنٌ، وهو اختيار الزجاج، وقال: حسن ما فيه، وروي عن ابن عباس: {كريم}، أي: شريف لشرف صاحبه، وقيل: سمته كريمًا لأنه كان مصدرًا ببسم الله الرحمن الرحيم ثم بينت ممن الكتاب فقالت: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ}.

.تفسير الآيات (30- 34):

{إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلأ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33) قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34)}
{إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ} وبينت المكتوب فقالت: {وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} {أَلا تَعْلُوا عَلَيَّ} قال ابن عباس: أي: لا تتكبروا علي. وقيل: لا تتعظموا ولا تترفعوا علي. معناه: لا تمتنعوا من الإجابة، فإن ترك الإجابة من العلو والتكبر، {وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} مؤمنين طائعين. قيل: هو من الإسلام، وقيل: هو من الاستسلام. {قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلأ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي} أشيروا علي فيما عرض لي، وأجيبوني فيما أشاوركم فيه، {مَا كُنْتُ قَاطِعَةً} قاضية وفاصلة، {أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ} أي: تحضرون. {قَالُوا} مجيبين لها: {نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ} في القتال، {وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ} عند الحرب، قال مقاتل: أرادوا بالقوة كثرة العدد، وبالبأس الشديد الشجاعة، وهذا تعريض منهم بالقتال إن أمرتهم بذلك، ثم قالوا: {وَالأمْرُ إِلَيْكِ} أيتها الملكة في القتال وتركه، {فَانْظُرِي} من الرأي، {مَاذَا تَأْمُرِينَ} تجدينا لأمرك مطيعين. {قَالَتْ} بلقيس مجيبة لهم عن التعريض للقتال: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً} عنوة، {أَفْسَدُوهَا} خربوها، {وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً} أي: أهانوا أشرافها وكبراءها، كي يستقيم لهم الأمر، تحذِّرهم مسير سليمان إليهم ودخوله بلادهم، وتناهى الخبر عنها هاهنا، فصدق الله قولها فقال: {وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} أي: كما قالت هي يفعلون.

.تفسير الآية رقم (35):

{وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35)}
ثم قالت: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ} والهدية هي: العطية على طريق الملاطفة. وذلك أن بلقيس كانت امرأة لبيبة قد سيست وساست، فقالت للملأ من قومها: إني مرسلة إليهم، أي: إلى سليمان وقومه، بهدية أُصانِعُه بها عن ملكي وأختبره بها أَمِلكٌ هو أم نبي؟ فإن يكن ملكًا قبل الهدية وانصرف، وإن كان نبيًا لم يقبل الهدية ولم يُرْضِه منّا إلا أن نتبعه على دينه، فذلك قوله تعالى: {فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} فأهدت إليه وصفاء ووصائف، قال ابن عباس ألبستهم لباسًا واحدًا كي لا يُعْرف ذكر من أنثى. وقال مجاهد: ألبس الغلمان لباس الجواري وألبس الجواري لباس الغلمان. واختلفوا في عددهم، فقال ابن عباس: مائة وصيف ومائة وصيفة وقال مجاهد: ومقاتل مائتا غلام ومائتا جارية.
وقال قتادة، وسعيد بن جبير: أرسلت إليه بلبنة من ذهب في حرير وديباج. وقال ثابت البناني: أهدت إليه صفائح من الذهب في أوعية الديباج. وقيل: كانت أربع لبنات من ذهب. وقال وهب وغيره: عمدت بلقيس إلى خمسمائة غلام وخمسمائة جارية، فألبست الغلمان لباس الجواري، وجعلت في سواعدهم أساور من ذهب، وفي أعناقهم أطواقا من ذهب وفي آذانهم أقراطا وشنوفا مرصعات بأنواع الجواهر، وألبست الجواري لباس الغلمان؛ الأقبية والمناطق، وحملت الجواري على خمسمائة رمكة والغلمان على خمسمائة برذون، على كل فرس لجام من ذهب مرصع بالجواهر وغواشيها من الديباج الملون، وبعثت إليه خمسمائة لبنة من ذهب وخمسمائة لبنة من فضة، وتاجا مكللا بالدر والياقوت المرتفع، وأرسلت إليه المسك والعنبر والعود الألنجوج، وعمدت إلى حقه فجعلت فيها درة ثمينة غير مثقوبة وخرزة جزعية مثقوبة معوجة الثقب، ودعت رجلا من أشراف قومها يقال له المنذر بن عمرو، وضمت إليه، رجالا من قومها أصحاب رأي وعقل، وكتبت معه كتابًا بنسْخة الهدية، وقالت فيه: إن كنتَ نبيًا فميِّزْ بين الوصائف والوصفاء، وأخبر بما في الحقة قبل أن تفتحها، واثقب الدر ثقبًا مستويًا، وأدخل خيطًا في الخرزة المثقوبة من غير علاج إنس ولا جنّ. وأمرت بلقيس الغلمان، فقالت: إذا كلمكم سليمان فكلموه بكلام تأنيث وتخنيث يشبه كلام النساء، وأمرت الجواري أن يكلمنه بكلام فيه غلظة يشبه كلام الرجال.
ثم قالت للرسول: انظر إلى الرجل إذا دخلت عليه فإن نظر إليك نظر غضب فاعلم أنه ملك ولا يهولنك منظره، فإنّا أعزّ منه، وإن رأيت الرجل بشاشًا لطيفًا فاعلم أنه نبي مرسل فتفهَّم قوله، ورد الجواب. فانطلق الرسول بالهدايا، وأقبل الهدهد مسرعًا إلى سليمان فأخبره الخبر كله، فأمر سليمان الجنَّ أن يضربوا لبنات الذهب ولبنات الفضة ففعلوا، ثم أمرهم أن يبسطوا من موضعه الذي هو فيه إلى تسعة فراسخ ميدانًا واحدًا بلبنات الذهب والفضة، وأن يجعلوا حول الميدان حائطًا، شُرفها من الذهب والفضة، ثم قال: أي الدوابِّ أحسن مما رأيتم في البر والبحر؟ قالوا: يا نبي الله إنا رأينا دوابًا في بحر كذا وكذا منطقة مختلفة ألوانها لها أجنحة وأعراف ونواصٍ، فقال: عليّ بها الساعة، فأتوا بها، فقال: شدُّوها عن يمين الميدان وعن يساره على لبنات الذهب والفضة، وألقُوا لها علوفَتها فيها، ثم قال للجن: عليّ بأولادكم، فاجتمع خلق كثير، فأقامهم على يمين الميدان ويساره، ثم قعد سليمان في مجلسه على سريره، ووضع له أربعة آلاف كرسي عن يمينه ومثلها عن يساره، وأمر الشياطين أن يصطفوا صفوفًا فراسخ، وأمر الإنس فاصطفوا فراسخ وأمر الوحوش والسباع والهوام والطير، فاصطفوا فراسخ عن يمينه وعن يساره. فلما دنا القوم من الميدان ونظروا إلى ملك سليمان ورأوا الدواب التي لم تر أعينهم مثلها تروث على لِبَنِ الذهب والفضة، تقاصرت أنفسهم ورموا بما معهم من الهدايا، وفي بعض الروايات أن سليمان لما أمر بفرش الميدان بلبنات الذهب والفضة أمرهم أن يتركوا على طريقهم موضعًا على قدر موضع اللبنات التي معهم، فلما رأى الرسل موضع اللبنات خاليًا وكل الأرض مفروشة خافوا أن يتهموا بذلك فطرحوا ما معهم في ذلك المكان، فلما رأوا الشياطين نظروا إلى منظر عجيب، ففزعوا، فقالت لهم الشياطين: جُوزوا فلا بأس عليكم، فكانوا يمرون على كردوس كردوس من الجن والإنس والطير والهوام والسباع والوحوش، حتى وقفوا بين يدي سليمان، فنظر إليهم سليمان نظرًا حسنًا بوجه طلق، وقال: ما وراءكم؟ فأخبره رئيس القوم بما جاؤوا له، وأعطاه كتاب الملكة، فنظر فيه، ثم قال: أين الحقة؟ فأتى بها فحركها، وجاء جبريل فأخبره بما في الحقة، فقال: إن فيها درة ثمينة غير مثقوبة، وجزعة مثقوبة معوجة الثقب، فقال الرسول: صدقت، فاثقب الدرة، وأدخل الخيط في الخرزة، فقال سليمان: من لي بثقبها فسأل سليمان الإنس ثم الجن، فلم يكن عندهم علم ذلك، ثم سأل الشياطين، فقالوا: نرسل إلى الأرضة فجاءت الأرضة فأخذت شعرة في فيها فدخلت فيها حتى خرجت من الجانب الآخر، فقال لها سليمان: ما حاجتك؟ فقالت: تصيّر رزقي في الشجرة، فقال لك ذلك.
وروي أنه جاءت دودة تكون في الصفصاف فقالت: أنا أدخل الخيط في الثقب على أن يكون رزقي في الصفصاف، فجعل لها ذلك، فأخذت الخيط بفيها ودخلت الثقب وخرجت من الجانب الآخر. ثم قال: من لهذه الخرزة فيسلكها في الخيط؟ فقالت دودة بيضاء أنا لها يا رسول الله فأخذت الدودة الخيط في فيها ودخلت الثقب حتى خرجت من الجانب الآخر، فقال سليمان: ما حاجتك؟ فقالت: تجعل رزقي في الفواكه، قال: لك ذلك، ثم ميز بين الجواري والغلمان، بأن أمرهم أن يغسلوا وجوههم وأيديهم، فجعلت الجارية تأخذ الماء من الآنية بإحدى يديها ثم تجعله على اليد الأخرى ثم تضرب به الوجه، والغلام كما يأخذه من الآنية يضرب به وجهه، وكانت الجارية تصب الماء على بطن ساعدها، والغلام على ظهر الساعد، وكانت الجارية تصب الماء صبا وكان الغلام يحدر الماء على يديه حدرًا، فميّز بينهم بذلك، ثم ردّ سليمان الهدية، كما قال الله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِي بِمَالٍ}.