فصل: تفسير الآية رقم (36):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآية رقم (36):

{فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِي بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36)}
{فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِي بِمَالٍ} قرأ حمزة، ويعقوب: {أتمدوني} بنون واحدة مشددة وإثبات الياء، وقرأ الآخرون: بنونين خفيفين، ويثبت الياء أهل الحجاز والبصرة، والآخرون يحذفونها، {فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ} أعطاني الله من النبوة والدين والحكمة والملك، {خَيْرٌ} أفضل، {مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} لأنكم أهل مفاخرة في الدنيا ومكاثرة بها، تفرحون بإهداء بعضكم لبعض، فأما أنا فلا أفرح بها، وليست الدنيا من حاجتي، لأن الله تعالى قد مكنني فيها وأعطاني منها ما لم يعط أحدا، ومع ذلك أكرمني بالدين والنبوة، ثم قال للمنذر بن عمرو وأمير الوفد: {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ}.

.تفسير الآيات (37- 38):

{ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37) قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلأ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38)}
{ارْجِعْ إِلَيْهِمْ} بالهدية، {فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ} لا طاقة لهم، {بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا} أي: من أرضهم وبلادهم وهي سبأ، {أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ} ذليلون إن لم يأتوني مسلمين. قال وهب وغيره من أهل الكتب: فلما رجعت رسل بلقيس إليها من عند سليمان، قالت: قد عرفت- والله- ما هذا بملك وما لنا به طاقة، فبعثت إلى سليمان إني قادمة عليك بملوك قومي حتى أنظر ما أمرك وما تدعو إليه من دينك، ثم أمرت بعرشها فجعل في آخر سبعة أبيات بعضها في بعض في آخر قصر من سبعة قصور لها، ثم أغلقت دونه الأبواب، ووكلت به حراسًا يحفظونه، ثم قالت لمن خلفت على سلطانها: احتفظ بما قِبَلِك وسرير ملكي، لا يخلص إليه أحد ولا يرينَّه حتى آتيك، ثم أمرت مناديا ينادي في أهل مملكتها يؤذنهم بالرحيل، وشخصت إلى سليمان في اثني عشر ألف قيل من ملوك اليمن، تحت يدي كل قيل ألوف كثيرة. قال ابن عباس: وكان سليمان رجلا مهيبا لا يبتدأ بشيء حتى يكون هو الذي يسأل عنه، فخرج يوما فجلس على سرير ملكه، فرأى رهجا قريبا منه، فقال: ما هذا؟ قالوا: بلقيس وقد نزلت منا بهذا المكان، وكان على مسيرة فرسخ من سليمان، قال ابن عباس: وكان بين الكوفة والحيرة قدر فرسخ، فأقبل سليمان حينئذ على جنوده. {قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلأ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} أي: مؤمنين، وقال ابن عباس: طائعين. واختلفوا في السبب الذي لأجله أمر سليمان بإحضار عرشها، فقال أكثرهم: لأن سليمان علم أنها إن أسلمت يحرم عليه مالها، فأراد أن يأخذ سريرها قبل أن يحرم عليه أخذه بإسلامها. وقيل: ليريها قدرة الله عز وجل وعظم سلطانه في معجزة يأتي بها في عرشها.
وقال قتادة: لأنه أعجبته صفته لما وصفه الهدهد، فأحب أن يراه. قال ابن زيد: أراد أن يأمر بتنكيره وتغييره ليختبر بذلك عقلها.

.تفسير الآيات (39- 40):

{قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)}
{قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ} وهو المارد القوي، قال وهب: اسمه كوذى وقيل: ذكوان، قال ابن عباس: العفريت الداهية. وقال الضحاك: هو الخبيث. وقال الربيع: الغليظ، قال الفراء: القوي الشديد، وقيل: هو صخرة الجني، وكان بمنزلة جبل يضع قدمه عند منتهى طرفه، {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ} أي: من مجلسك الذي تقضي فيه، قال ابن عباس: وكان له كل غداة مجلس يقضي فيه إلى منتهى النهار، {وَإِنِّي عَلَيْهِ} أي: على حمله، {لَقَوِيٌّ أَمِينٌ} على ما فيه من الجواهر، فقال سليمان: أريد أسرع من هذا. فـ {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ} واختلفوا فيه فقال بعضهم هو جبريل. وقيل: هو ملك من الملائكة أيد الله به نبيه سليمان عليه السلام. وقال أكثر المفسرين: هو آصف بن برخيا، وكان صديقا يعلم اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى. وروى جويبر، ومقاتل، عن الضحاك عن ابن عباس قال: إن آصف قال لسليمان حين صلى: مد عينيك حتى ينتهي طرفك، فمد سليمان عينيه، فنظر نحو اليمين، ودعا آصف فبعث الله الملائكة فحملوا السرير من تحت الأرض يخدون به خدا حتى انخرقت الأرض بالسرير بين يدي سليمان.
وقال الكلبي: خر آصف ساجدا ودعا باسم الله الأعظم فغاب عرشها تحت الأرض حتى نبع عند كرسي سليمان. وقيل: كانت المسافة مقدار شهرين. واختلفوا في الدعاء الذي دعا به آصف، فقال مجاهد، ومقاتل: يا ذا الجلال والإكرام. وقال الكلبي: يا حي يا قيوم. وروي ذلك عن عائشة. وروي عن الزهري قال: دعاء الذي عنده علم من الكتاب: يا إلهنا وإله كل شيء إلها واحدا لا إله إلا أنت ائتني بعرشها. وقال محمد بن المنكدر: إنما هو سليمان، قال له عالم من بني إسرائيل آتاه الله علما وفهما: {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} قال سليمان: هات، قال: أنت النبي ابن النبي، وليس أحد أوجه عند الله منك، فإن دعوت الله وطلبت إليه كان عندك، فقال: صدقت، ففعل ذلك، فجيء بالعرش في الوقت.
وقوله تعالى: {قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} قال سعيد بن جبير: يعني: من قبل أن يرجع إليك أقصى من ترى، وهو أن يصل إليك من كان منك على مد بصرك. قال قتادة: قبل أن يأتيك الشخص من مد البصر. وقال مجاهد: يعني إدامة النظر حتى يرتد الطرف خاسئا. وقال وهب: تمد عينيك فلا ينتهي طرفك إلى مداه، حتى أمثله بين يديك، {فَلَمَّا رَآهُ} يعني: رأى سليمان العرش، {مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ} محمولا إليه من مأرب إلى الشام في قدر ارتداد الطرف، {قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ} نعمته، {أَمْ أَكْفُرُ} فلا أشكرها {وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} أي: يعود نفع شكره إليه، وهو أن يستوجب به تمام النعمة ودوامها، لأن الشكر قيد النعمة الموجودة وصيد النعمة المفقودة، {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ} عن شكره، {كَرِيمٌ} بإفضال على من يكفر نعمه.

.تفسير الآية رقم (41):

{قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (41)}
قوله تعالى: {قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا} يقول: غيروا سريرها إلى حال تنكره إذا رأته، قال قتادة ومقاتل: هو أن يزاد فيه وينقص، وروى أنه جعل أسفله أعلاه وأعلاه أسفله، وجعل مكان الجوهر الأحمر أخضر ومكان الأخضر أحمر، {نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي} إلى عرشها فتعرفه، {أَمْ تَكُونُ مِنَ} الجاهلين، {الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ} إليه، وإنما حمل سليمان على ذلك كما ذكره وهب ومحمد بن كعب وغيرهما: أن الشياطين خافت أن يتزوجها سليمان فتفشى إليه أسرار الجن وذلك أن أمها كانت جنية، وإذا ولدت له ولدا لا ينفكون من تسخير سليمان وذريته من بعده، فأساؤا الثناء عليها ليزهدوه فيها، وقالوا: إن في عقلها شيئا وإن رجلها كحافر الحمار وأنها شعراء الساقين فأراد سليمان أن يختبر عقلها بتنكير عرشها وينظر إلى قدميها ببناء الصرح.

.تفسير الآيات (42- 43):

{فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (43)}
{فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ} قال مقاتل: عرفته لكنها شبهت عليهم كما شبهوا عليها. وقال عكرمة: كانت حكيمة لم تقل: نعم، خوفا من أن تكذب، ولم تقل: لا خوفا من التكذيب، قالت: كأنه هو، فعرف سليمان كمال عقلها حيث لم تقر ولم تنكر. وقيل اشتبه عليها أمر العرش، لأنها تركته في بيت خلف سبعة أبواب مغلقة والمفاتيح معها، وقيل لها: فإنه عرشك فما أغنى عنك إغلاق الأبواب، فقال: {وَأُوتِينَا الْعِلْمَ} بصحة نبوة سليمان بالآيات المتقدمة من أمر الهدية والرسل، {مِنْ قَبْلِهَا} من قبل الآية في العرش {وَكُنَّا مُسْلِمِينَ} منقادين طائعين لأمر سليمان. وقيل قوله: {وأوتينا العلم من قبلها} قاله سليمان، يقول: وأوتينا العلم بالله وبقدرته على ما يشاء من قبل هذه المرأة، وكنا مسلمين، هذا قول مجاهد. وقيل: معناه وأوتينا العلم بإسلامها ومجيئها طائعة من قبل مجيئها وكنا مسلمين طائعين لله عز وجل. قوله عز وجل: {وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي: منعها ما كانت تعبد من دون الله، وهو الشمس، أن تعبد الله، أي: صدها عبادة الشمس عن التوحيد وعبادة الله، فعلى هذا التأويل يكون {ما} في محل الرفع.
وقيل: معناه صدها عن عبادة الله لا نقصان عقلها كما قالت الجن: إن في عقلها شيئا، بل كانت تعبد من دون الله. وقيل: معناه وصدها سليمان ما كانت تعبد من دون الله، أي: منعها ذلك وحال بينها وبينه، فيكون محل {ما} نصبا. {إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ} هذا استئناف، أخبر الله تعالى أنها كانت من قوم يعبدون الشمس، فنشأت بينهم ولم تعرف إلا عبادة الشمس.

.تفسير الآية رقم (44):

{قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44)}
قوله عز وجل: {قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ} الآية، وذلك أن سليمان أراد أن ينظر إلى قدميها وساقيها من غير أن يسألها كشفها، لما قالت الشياطين: إن رجليها كحافر الحمار، وهي شعراء الساقين، أمر الشياطين فبنوا له صرحا أي: قصرا من زجاج، وقيل بيتا من زجاج كأنه الماء بياضا، وقيل: الصرح صحن الدار، وأجرى تحته الماء، وألقى فيه كل شيء من دواب البحر السمك والضفادع وغيرهما، ثم وضع سريره في صدره وجلس عليه وعكفت عليه الطير والجن والإنس. وقيل: اتخذ صحنا من قوارير وجعل تحتها تماثيل من الحيتان والضفادع، فكان الواحد إذا رآه ظنه ماء. وقيل: إنما بنى الصرح ليختبر فهمها كما فعلت هي بالوصفاء والوصائف فلما جلس على السرير دعا بلقيس، فلما جاءت قيل لها ادخلي الصرح.
والحق أن سليمان- عليه الصلاة والسلام- أراد ببنائه الصرح: أن يريها عظمة ملكه وسلطانه، وأن الله- سبحانه وتعالى- أعطاه من الملك، ومن أسباب العمران والحضارة ما لم يعطها، فضلا عن النبوة التي هي فوق الملك، والتي دونها أية نعمة، وحاشا لسليمان- عليه السلام- وهو الذي سأل الله أن يعطيه حكما يوافق حكمه- أي الله، فأوتيه- أن يتحايل هذا التحايل، حتى ينظر إلى ما حرم الله عليه، وهما ساقاها، وهو أجل من ذلك وأسمى.
ولولا أنها رأت من سليمان ما كان عليه من الدين المتين، والخلق الرفيع، لما أذعنت إليه لما دعاها إلى الله الواحد الحق، ولما ندمت على ما فرط منها من عبادة الكواكب والشمس، وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين. انظر: الإسرائيليات والموضوعات للشيخ محمد أبو شهبة ص: 249- 250.
{فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً} وهي معظم الماء، {وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا} لتخوضه إلى سليمان، فنظر سليمان فإذا هي أحسن الناس قدما وساقا إلا أنها كانت شعراء الساقين، فلما رأى سليمان ذلك صرف بصره عنه وناداها {قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ} مملس مستو، {مِنْ قَوَارِيرَ} وليس بماء، ثم إن سليمان دعاها إلى الإسلام، وكانت قد رأت حال العرش والصرح فأجابت، و{قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} بالكفر. وقال مقاتل: لما رأت السرير والصرح علمت أن ملك سليمان من الله فقالت: رب إني ظلمت نفسي بعبادة غيرك، {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي: أخلصت له التوحيد. وقيل: إنها لما بلغت الصرح وظنته لجة، قالت في نفسها: إن سليمان يريد أن يغرقني، وكان القتل علي أهون من هذا، فقولها: {ظلمت نفسي} تعني بذلك الظن.
واختلفوا في أمرها بعد إسلامها، قال عون بن عبد الله: سأل رجل عبد الله بن عتبة: هل تزوجها سليمان؟ قال: انتهى أمرها إلى قولها: أسلمت مع سليمان لله رب العالمين، يعني: لا علم لنا وراء ذلك. وقال بعضهم: تزوجها، ولما أراد أن يتزوجها كره ما رأى من كثرة شعر ساقيها، فسأل الإنس: ما يذهب هذا؟ قالوا: الموسى، فقالت المرأة: لم تمسني حديدة قط، فكره سليمان الموسى، وقال: إنها تقطع ساقيها، فسأل الجن فقالوا: لا ندري، ثم سأل الشياطين فقالوا: إنا نحتال لك حيلة حتى تكون كالفضة البيضاء، فاتخذوا النورة والحمام، فكانت النورة والحمامات من يومئذ فلما تزوجها سليمان أحبها حبا شديدا، وأقرها على ملكها، وأمر الجن فابتنوا لها بأرض اليمن ثلاثة حصون لم ير الناس مثلها ارتفاعا وحسنا، وهي: سلحين، وبينون، وعمدان. ثم كان سليمان يزورها في كل شهر مرة بعد أن ردها إلى ملكها ويقيم عندها ثلاثة أيام، يبتكر من الشام إلى اليمن، ومن اليمن إلى الشام، وولدت له فيما ذكر وروي عن وهب قال: زعموا أن بلقيس لما أسلمت قال لها سليمان: اختاري رجلا من قومك أزوجكه، قالت: ومثلي يا نبي الله تنكح الرجال وقد كان لي في قومي من الملك والسلطان ما كان؟ قال: نعم، إنه لا يكون في الإسلام إلا ذلك، ولا ينبغي لك أن تحرمي ما أحل الله لك، فقالت: زوجني إن كان لابد من ذلك ذا تبع ملك همذان فزوجه إياها، ثم ردها إلى اليمن، وسلط زوجها ذا تبع على اليمن، ودعا زوبعة أمير جن اليمن، فقال: اعمل لذي تبع ما استعملك فيه، فلم يزل بها ملكا يعمل له فيها ما أراد حتى مات سليمان، فلما أن حال الحول، وتبينت الجن موت سليمان أقبل رجل منهم فسلك تهامة حتى إذا كان في جوف اليمن صرخ بأعلى صوته: يا معشر الجن إن الملك سليمان قد مات، فارفعوا أيديكم فرفعوا أيديهم وتفرقوا، وانقضى ملك ذي تبع، وملك بلقيس مع ملك سليمان. وقيل: إن الملك وصل إلى سليمان وهو ابن ثلاث عشرة سنة ومات وهو ابن ثلاث وخمسين سنة.

.تفسير الآيات (45- 47):

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47)}
قوله عز وجل: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ} أي: أن {اعْبُدُوا اللَّهَ} وحده، {فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ} مؤمن وكافر {يَخْتَصِمُونَ} في الدين، قال مقاتل: واختصامهم ما ذكر في سورة الأعراف: {قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم}، إلى قوله: {يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين} [الأعراف- 75- 77]. فـ {قَالَ} لهم صالح، {يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ} بالبلاء والعقوبة، {قَبْلَ الْحَسَنَةِ} العافية والرحمة، {لَوْلا} هلا {تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ} بالتوبة من كفركم، {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} {قَالُوا اطَّيَّرْنَا} أي: تشاءمنا، وأصله: تطيرنا، {بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ} قيل: إنما قالوا ذلك لتفرق كلمتهم. وقيل: لأنه أمسك عنهم المطر في ذلك الوقت وقحطوا، فقالوا: أصابنا هذا الضر والشدة من شؤمك وشؤم أصحابك. {قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ} أي: ما يصيبكم من الخير والشر عند الله بأمره، وهو مكتوب عليكم، سمي طائرا لسرعة نزوله بالإنسان، فإنه لا شيء أسرع من قضاء محتوم. قال ابن عباس: الشؤم أتاكم من عند الله لكفركم. وقيل: طائركم أي: عملكم عند الله، سمي طائرا لسرعة صعوده إلى السماء. {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} قال ابن عباس: تختبرون بالخير والشر، نظيره قوله تعالى: {ونبلوكم بالشر والخير فتنة} [الأنبياء- 35]، وقال محمد بن كعب القرظي: تعذبون.