فصل: تفسير الآيات (48- 51):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآيات (48- 51):

{وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (48) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51)}
قوله تعالى: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ} يعني: مدينة ثمود، وهي الحجر، {تِسْعَةُ رَهْطٍ} من أبناء أشرافهم، {يُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ} وهم الذين اتفقوا على عقر الناقة، وهم غواة قوم صالح، ورأسهم قدار بن سالف، وهو الذي تولى عقرها، كانوا يعملون بالمعاصي. قالوا {تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ} تحالفوا، يقول بعضهم لبعض: أي: احلفوا بالله أيها القوم. وموضع {تقاسموا} جزم على الأمر، وقال قوم: محله نصب على الفعل الماضي، يعني: أنهم تحالفوا وتواثقوا، تقديره: قالوا متقاسمين بالله، {لَنُبَيِّتَنَّهُ} أي: لنقتلنه بياتا أي: ليلا {وَأَهْلَهُ} أي: وقومه الذين أسلموا معه، وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي {لتبيتنه} و{لتقولن} بالتاء فيهما وضم لام الفعل على الخطاب، وقرأ الآخرون بالنون فيهما وفتح لام الفعل، {ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ} أي: لولي دمه، {مَا شَهِدْنَا} ما حضرنا، {مَهْلِكَ أَهْلِهِ} أي: إهلاكهم، ولا ندري من قتله، ومن فتح الميم فمعناه هلاك أهله، {وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} في قولنا ما شهدنا ذلك. {وَمَكَرُوا مَكْرًا} غدروا غدرا حين قصدوا تبييت صالح والفتك به، {وَمَكَرْنَا مَكْرًا} جزيناهم على مكرهم بتعجيل عقوبتهم، {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا} قرأ أهل الكوفة {أنا} بفتح الألف ردا على العاقبة، أي: كانت العاقبة أنا دمرناهم، وقرأ الآخرون: {إنا} بالكسر على الاسئناف، {دَمَّرْنَاهُمْ} أي: أهلكناهم التسعة. واختلفوا في كيفية هلاكهم، قال ابن عباس رضي الله عنهما: أرسل الله الملائكة تلك الليلة إلى دار صالح يحرسونه، فأتى التسعة دار صالح شاهرين سيوفهم، فرمتهم الملائكة بالحجارة من حيث يرون الحجارة ولا يرون الملائكة، فقتلهم. قال مقاتل: نزلوا في سفح جبل ينظر بعضهم بعضا ليأتوا دار صالح، فجثم عليهم الجبل فأهلكهم. {وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ} أهلكهم الله بالصيحة.

.تفسير الآيات (52- 59):

{فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (53) وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55) فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58) قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمْ مَا يُشْرِكُونَ (59)}
{فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً} نصب على الحال أي: خالية، {بِمَا ظَلَمُوا} أي: بظلمهم وكفرهم، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً} لعبرة، {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} قدرتنا. {وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} يقال: كان الناجون منهم أربعة آلاف. قوله تعالى: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} وهي الفعلة القبيحة، {وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} أي: تعلمون أنها فاحشة. وقيل: معناه يرى بعضكم بعضا وكانوا لا يستترون عُتُوًّا منهم. {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} من أدبار الرجال. {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا} قضينا عليها وجعلناها بتقديرنا، {مِنَ الْغَابِرِينَ} أي: الباقين في العذاب. {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا} وهو الحجارة، {فَسَاءَ} فبئس، {مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ} قوله تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} هذا خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن يحمد الله على هلاك كفار الأمم الخالية. وقيل: على جميع نعمه. {وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} قال مقاتل: هم الأنبياء والمرسلون دليله قوله عز وجل: {وسلام على المرسلين}.
وقال ابن عباس في رواية أبي مالك هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. وقال الكلبي: هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: هم كل المؤمنين من السابقين واللاحقين {آللَّهُ خَيْرٌ أَمْ مَا يُشْرِكُونَ} قرأ أهل البصرة وعاصم: {يُشْرِكُونَ} بالياء، وقرأ الآخرون بالتاء، يخاطب أهل مكة، وفيه إلزام الحجة على المشركين بعد هلاك الكفار، يقول: آلله خير لمن عبده، أم الأصنام لمن عبدها؟ والمعنى: أن الله نجّى مَنْ عَبَدَهَ مِنَ الهلاك، والأصنام لم تُغْنِ شيئًا عن عابديها عند نزول العذاب.

.تفسير الآيات (60- 61):

{أَمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ وَأَنزلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمْ مَنْ جَعَلَ الأرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (61)}
{أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ} معناه آلهتكم خير أم الذي خلق السموات والأرض، {وَأَنزلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} يعني المطر، {فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ}؟ بساتين جمع حديقة، قال الفراء: الحديقة البستان المحاط عليه، فإن لم يكن عليه حائط فليس بحديقة، {ذَاتَ بَهْجَةٍ} أي: منظر حسن، والبهجة: الحُسن يبتهج به من يراه، {مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا} أي: ما ينبغي لكم، لأنكم لا تقدرون عليها. {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} استفهام على طريق الإنكار، أي: هل معه معبود سواه أعانه على صنعه؟ بل ليس معه إله. {بَلْ هُمْ قَوْمٌ} يعني كفار مكة، {يَعْدِلُونَ} يشركون. {أَمَّنْ جَعَلَ الأرْضَ قَرَارًا} لا تميد بأهلها، {وَجَعَلَ خِلالَهَا} وسطها {أَنْهَارًا} تطرد بالمياه، {وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ} جبالا ثوابت، {وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ} العذب والمالح، {حَاجِزًا} مانعا لئلا يختلط أحدهما بالآخر، {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} توحيد ربه وسلطانه.

.تفسير الآيات (62- 65):

{أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ (62) أَمْ مَنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64) قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65)}
{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ} المكروب المجهود، {إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} الضر {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأرْضِ} سكانها يهلك قرنا وينشئ آخر. وقيل: يجعل أولادكم خلفاءكم وقيل: جعلكم خلفاء الجن في الأرض. {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ} قرأ أبو عمرو بالياء والآخرون بالتاء. {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} إذا سافرتم، {وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} أي: قدام المطر، {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} {أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} بعد الموت، {وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ} أي: من السماء المطر ومن الأرض النبات. {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} حجتكم على قولكم أن مع الله إلها آخر. {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ} نزلت في المشركين حيث سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن وقت قيام الساعة {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ}.

.تفسير الآيات (66- 68):

{بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (66) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ (68)}
{بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ} قرأ أبو جعفر، وابن كثير، وأبو عمرو: {أدرك} على وزن أفعل أي: بلغ ولحق، كما يقال: أدركه علمي إذا لحقه وبلغه، يريد: ما جهلوا في الدنيا وسقط علمه عنهم علموه في الآخرة. قال مجاهد: يدرك علمهم، {فِي الآخِرَةِ} ويعلمونها إذا عاينوها حين لا ينفعهم علمهم. قال مقاتل: بل علموا في الآخرة حين عاينوها ما شكوا وعموا عنه في الدنيا وهو قوله: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا} يعني: هم اليوم في شك من الساعة، وقرأ الآخرون: {بل أدراك} موصولا مشددا مع ألف بعد الدال المشددة، أي: تدارك وتتابع علمهم في الآخرة وتلاحق. وقيل: معناه اجتمع علمهم في الآخرة أنها كائنة، وهم في شك في وقتهم، فيكون بمعنى الأول. وقيل: هو على طريق الاستفهام، معناه: هل تدارك وتتابع علمهم بذلك في الآخرة؟ أي: لم يتتابع وضل وغاب علمهم به فلم يبلغوه ولم يدركوه، لأن في الاستفهام ضربا من الجحد يدل عليه. قراءة ابن عباس {بلى} بإثبات الياء، {أدارك} بفتح الألف على الاستفهام، أي: لم يدرك، وفي حرف أُبَي {أم تدرك علمهم}، والعرب تضع بل موضع أم وأمموضع بل وجملة القول فيه: أن الله أخبر أنهم إذا بعثوا يوم القيامة يستوي علمهم في الآخرة وما وعدوا فيها من الثواب والعقاب، وإن كانت علومهم مختلفة في الدنيا. وذكر علي بن عيسى أن معنى بل هاهنا: لو ومعناه: لو أدركوا في الدنيا ما أدركوا في الآخرة لم يشكوا.
قوله عز وجل: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا} بل هم اليوم في الدنيا في شك من الساعة. {بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} جمع عم، وهو الأعمى القلب. قال الكلبي: يقول هم جهلة بها. {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} يعني مشركي مكة، {أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ} من قبورنا أحياء، قرأ أهل المدينة: {إذا} غير مستفهم، {أئنا} بالاستفهام، وقرأ ابن عامر، والكسائي: {أإذا} بهمزتين، {أإننا} بنونين، وقرأ الآخرون باستفهامها. {لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا} أي: هذا البعث، {نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ} أي: من قبل محمد، وليس ذلك بشيء {إِنَّ هَذَا} ما هذا، {إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ} أحاديثهم وأكاذيبهم التي كتبوها.

.تفسير الآيات (69- 76):

{قُلْ سِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (71) قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (73) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (74) وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالأرْضِ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (75) إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76)}
{قُلْ سِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} على تكذيبهم إياك وإعراضهم عنك، {وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} نزلت في المستهزئين الذين اقتسموا عقاب مكة. {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} {قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ} أي: دنا وقرب، {لَكُمْ} وقيل: تَبِعَكم، والمعنى: ردفكم، أدخل اللام كما أدخل في قوله: {لربهم يرهبون} [الأعراف- 154]، قال الفراء: اللام صلة زائدة، كما تقول: نقدته مائة، ونقدت له {بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ} من العذاب، فحل بهم ذلك يوم بدر. {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} قال مقاتل: على أهل مكة حيث لم يعجل عليهم العذاب، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ} ذلك. {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ} ما تخفي {صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} {وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ} أي: جملة غائبة من مكتوم سر، وخفي أمر، وشيء غائب، {فِي السَّمَاءِ وَالأرْضِ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} أي: في اللوح المحفوظ. {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} أي: يبين لهم، {أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} من أمر الدين، قال الكلبي: إن أهل الكتاب اختلفوا فيما بينهم فصاروا أحزابا يطعن بعضهم على بعض، فنزل القرآن ببيان ما اختلفوا فيه.

.تفسير الآيات (77- 81):

{وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81)}
{وَإِنَّهُ} يعني القرآن، {لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي} يفصل {بَيْنَهُمْ} أي: بين المختلفين في الدين يوم القيامة، {بِحُكْمِهِ} الحق، {وَهُوَ الْعَزِيزُ} المنيع فلا يرد له أمر، {الْعَلِيمُ} بأحوالهم فلا يخفى عليه شيء. {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} البين. {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} يعني الكفار، {وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ} قرأ ابن كثير: {لا يَسْمَع} بالياء وفتحها وفتح الميم {الصُّمُّ} رفع، وكذلك في سورة الروم، وقرأ الباقون بالتاء وضمها وكسر الميم، {الصُّمَّ} نصب. {إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} معرضين. فإن قيل ما معنى قوله: {وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} وإذا كانوا صما لا يسمعون سواء ولوا أو لم يولوا؟. قيل ذكره: عل سبيل التأكيد والمبالغة. وقيل: الأصم إذا كان حاضرا فقد يسمع برفع الصوت ويفهم بالإشارة، فإذا ولى لم يسمع ولم يفهم. قال قتادة: الأصم إذا ولى مدبرا ثم ناديته لم يسمع، كذلك الكافر لا يسمع ما يدعى إليه من الإيمان. ومعنى الآية: أنهم لفرط إعراضهم عما يدعون إليه كالميت الذي لا سبيل إلى إسماعه، والأصم الذي لا يسمع. {وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ} قرأ الأعمش، وحمزة: {تهدي} بالتاء وفتحها على الفعل {العمي} بنصب الياء هاهنا وفي الروم. وقرأ الآخرون بهادي بالباء على الاسم، {العمي} بكسر الياء، {عَنْ ضَلالَتِهِمْ} أي: ما أنت بمرشد من أعماه الله عن الهدى وأعمى قلب عن الإيمان، {إِنْ تُسْمِعُ} ما تسمع، {إِلا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا} إلا من يصدق بالقرآن أنه من الله، {فَهُمْ مُسْلِمُونَ} مخلصون.

.تفسير الآية رقم (82):

{وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ (82)}
قوله تعالى: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ} وجب العذاب عليهم، وقال قتادة: إذا غضب الله عليهم، {أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأرْضِ تُكَلِّمُهُمْ} واختلفوا في كلامها، فقال السدي: تكلمهم ببطلان الأديان سوى دين الإسلام. وقال بعضهم: كلامها أن تقول لواحد: هذا مؤمن، وتقول لآخر: هذا كافر. وقيل كلامها ما قال الله تعالى: {أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ} قال مقاتل تكلمهم بالعربية، فتقول: إن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون، تخبر الناس أن أهل مكة لم يؤمنوا بالقرآن والبعث.
قرأ أهل الكوفة: {أن الناس} بفتح الألف، أي: بأن الناس، وقرأ الباقون بالكسر على الاستئناف، أي: إن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون قبل خروجها. قال ابن عمر: وذلك حين لا يؤمر بمعروف ولا ينهى عن منكر. وقرأ سعيد بن جبير، وعاصم الجحدري، وأبو رجاء العطاردي: {تكلمهم} بفتح التاء وتخفيف اللام من الكلم وهو الجرح. قال أبو الجوزاء: سألت ابن عباس رضي الله عنهما عن هذه الآية: {تُكَلِّمُهم} أو {تَكْلِمُهم}؟ قال: كل ذلك تفعل، تُكَلِّم المؤمن، وتَكْلِمُ الكافر. أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي، أخبرنا أبو الحسن الطيسفوني، أخبرنا عبد الله بن عمر الجوهري، أخبرنا أحمد بن علي الكشميهني، أخبرنا علي بن حجر، أخبرنا إسماعيل بن جعفر، أخبرنا العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بادروا بالأعمال ستًا: طلوع الشمس من مغربها، والدخان، والدجال، ودابة الأرض، وخاصة أحدكم، وأمر العامة». أخبرنا إسماعيل بن عبد الله، أخبرنا عبد الغافر بن محمد الفارسي، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي، أخبرنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، أخبرنا مسلم بن الحجاج، أخبرنا أبو بكر بن أبي شيبة، أخبرنا محمد بن بشر، عن أبي حيان، عن أبي زرعة، عن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أول الآيات خروجا طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة على الناس ضحى وأيهما كانت قبل صاحبتها فالأخرى على أثرها قريبا».
وأخبرنا أبو سعيد الشريحي، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي، أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن فنجويه، أخبرنا أبو بكر بن خرجة، أخبرنا محمد بن عبد الله بن سليمان الحضرمي، أخبرنا هشيم بن حماد، أخبرنا عمرو بن محمد العبقري، عن طلحة عن عمرو، عن عبد الله بن عمير الليثي، عن أبي سريحة الأنصاري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يكون للدابة ثلاث خرجات من الدهر، فتخرج خروجا بأقصى اليمن فيفشو ذكرها بالبادية ولا يدخل ذكرها القرية»، يعني مكة، «ثم تمكث زمانا طويلا ثم تخرج خرجة أخرى قريبا من مكة، فيفشو ذكرها بالبادية، ويدخل ذكرها القرية- يعني مكة- فبينما الناس يوما في أعظم المساجد على الله حرمة وأكرمها على الله عز وجل- يعني المسجد الحرام- لم يرعهم إلا وهي في ناحية المسجد تدنو وتدنو» كذا قال ابن عمر، وما بين الركن الأسود إلى باب بني مخزوم عن يمين الخارج في وسط من ذلك فارفض الناس عنها وثبتت لها عصابة عرفوا أنهم لم يعجزوا الله، فخرجت عليهم تنفض رأسها من التراب فمرت بهم فجلت عن وجوههم حتى تركتها كأنها الكوكب الدرية، ثم ولت في الأرض لا يدركها طالب ولا يعجزها هارب، حتى أن الرجل ليقوم فيتعوذ منها بالصلاة فتأتيه من خلفه فتقول: يا فلان الآن تصلي؟ فيقبل عليها بوجهه فتسمه في وجهه، فيتجاور الناس في ديارهم، ويصطحبون في أسفارهم، ويشتركون في الأموال، يعرف الكافر من المؤمن، فيقال للمؤمن: يا مؤمن، ويقال للكافر: يا كافر.
أخبرنا أبو سعيد الشريحي، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي، أخبرني الحسن بن محمد، أخبرنا أبو بكر بن مالك القطيعي، أخبرنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، أخبرنا أبي، حدثنا بهز، حدثنا حماد، هو بن أبي سلمة، أخبرنا علي بن زيد، عن أوس بن خالد، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تخرج الدابة ومعها عصا موسى وخاتم سليمان، فتجلو وجه المؤمن بالعصا وتحطم أنف الكافر بالخاتم، حتى أن أهل الخوان ليجتمعون فيقول هذا يا مؤمن ويقول هذا يا كافر». وروي عن علي قال: ليست بدابة لها ذنب، ولكن لها لحية، كأنه يشير إلى أنه رجل والأكثرون على أنها دابة. وروى ابن جريج عن أبي الزبير أنه وصف الدابة فقال: رأسها رأس الثور وعينها عين الخنزير، وأذنها أذن فيل، وقرنها قرن أيل، وصدرها صدر أسد، ولونها لون نمر، وخاصرتها خاصرة هر وذنبها ذنب كبش، وقوائمها قوائم بعير، بين كل مفصلين اثنا عشر ذراعا، ومعها عصا موسى، وخاتم سليمان، فلا يبقى مؤمن إلا نكتته في مسجده بعصا موسى نكتة بيضاء يضيء بها وجهه، ولا يبقى كافر إلا نكتت وجهه بخاتم سليمان فيسود بها وجهه، حتى إن الناس يتبايعون في الأسواق: بكم يا مؤمن؟ بكم يا كافر؟ ثم تقول لهم الدابة: يا فلان أنت من أهل الجنة، ويا فلان أنت من أهل النار، فذلك قوله عز وجل: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأرْضِ} الآية.
أخبرنا أبو سعيد الشريحي، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي، أخبرني عقيل بن محمد الجرجاني الفقيه، أخبرنا أبو الفرج المعافى بن زكريا البغدادي، أخبرنا أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، أخبرنا أبو كريب، أخبرنا الأشجعي، عن فضيل بن مرزوق، عن عطية، عن ابن عمر قال: تخرج الدابة من صدع في الصفا كجري الفرس ثلاثة أيام وما خرج ثلثها. وبه عن محمد بن جرير الطبري قال: حدثني عصام بن داود بن الجراح، حدثنا أبي، حدثنا سفيان بن سعيد، أخبرنا منصور بن المعتمر عن ربعي بن حراش عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدابة، قلت: يا رسول الله من أين تخرج؟ قال: «من أعظم المساجد حرمة على الله، بينما عيسى يطوف بالبيت ومعه المسلمون إذ تضرب الأرض تحتهم، وتنشق الصفا مما يلي المشعر، وتخرج الدابة من الصفا أول ما يبدر منها رأسها ملمعة ذات وبر وريش، لن يدركها طالب ولن يفوتها هارب، تسمي الناس مؤمنا وكافرا، أما المؤمن فتترك وجهه كأنه كوكب دري وتكتب بين عينيه مؤمن، وأما الكافر فتنكت بين عينيه نكتة سوداء، وتكتب بين عينيه كافرا». وروي عن ابن عباس: أنه قرع الصفا بعصاه وهو محرم، وقال: إن الدابة لتسمع قرع عصاي هذه. وعن عبد الله بن عمر، قال: تخرج الدابة من شعب فيمس رأسها في السحاب ورجلاها في الأرض ما خرجتا، فتمر بالإنسان يصلي فتقول: ما الصلاة من حاجتك، فتخطمه.
وعن ابن عمر قال: تخرج الدابة ليلة جمع، والناس يسيرون إلى منى. وعن سهيل بن صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بئس الشعب شعب أجياد»، مرتين أو ثلاثا، قيل: ولم ذلك يا رسول الله؟ قال: «تخرج منه الدابة فتصرخ ثلاث صرخات يسمعها من بين الخافقين» وقال وهب: وجهها وجه رجل وسائر خلقها كخلق الطير، فتخبر من رآها أن أهل مكة كانوا بمحمد والقرآن لا يوقنون.