فصل: تفسير الآيات (83- 84):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآيات (83- 84):

{وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمْ مَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84)}
قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا} أي: من كل قرن جماعة، {مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا} وليس {من} هاهنا للتبعيض، لأن جميع المكذبين يحشرون، {فَهُمْ يُوزَعُونَ} يحبس أولهم على آخرهم حتى يجتمعوا ثم يساقون إلى النار. {حَتَّى إِذَا جَاءُوا} يوم القيامة، {قَالَ} الله لهم: {أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا} ولم تعرفوها حق معرفتها، {أَمْ مَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} حين لم تفكروا فيها. ومعنى الآية: أكذبتم بآياتي غير عالمين بها، ولم تفكروا في صحتها بل كذبتم بها جاهلين؟

.تفسير الآيات (85- 87):

{وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ (85) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86) وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87)}
{وَوَقَعَ الْقَوْلُ} وجب العذاب، {عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا} بما أشركوا، {فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ} قال قتادة: كيف ينطقون ولا حجة لهم، نظيره قوله تعالى: {هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون} [المرسلات- 36]، وقيل: لا ينطقون لأن أفواههم مختومة. قوله عز وجل: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا} خلقنا {اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} مضيا يبصر فيه، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} يصدقون فيعتبرون. قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ} والصور قرن ينفخ فيه إسرافيل، وقال الحسن: الصور هي القرن، وأول بعضهم كلامه أن الأرواح تجمع في القرن ثم ينفخ فيه فتذهب الأرواح إلى الأجساد فتحيا الأجساد. وقوله: {فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ} أي: فصعق، كما قال في آية أخرى: {فصعق من في السماوات ومن في الأرض} [الزمر- 68]، أي: ماتوا، والمعنى أنهم يلقى عليهم الفزع إلى أن يموتوا. وقيل: ينفخ إسرافيل في الصور. ثلاث نفخات: نفخة الفزع، ونفخة الصعق، ونفخة القيام لرب العالمين. قوله: {إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} اختلفوا في هذا الاستثناء، روي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل جبريل عن قوله: {إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} قال: هم الشهداء متقلدون أسيافهم حول العرش.
وروى سعيد بن جبير، وعطاء عن ابن عباس: هم الشهداء لأنهم أحياء عند ربهم لا يصل الفزع إليهم. وفي بعض الآثار: «الشهداء ثنية الله عزَّ وجلّ» أي: الذين استثناهم الله تعالى. وقال الكلبي، ومقاتل: يعني جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وملك الموت، فلا يبقى بعد النفخة إلا هؤلاء الأربعة، ثم يقبض الله روح ميكائيل، ثم روح إسرافيل، ثم روح ملك الموت، ثم روح جبريل فيكون آخرهم موتَا جبريل عليه السلام.
ويُروى أن الله تعالى يقول لملك الموت: خذ نفس إسرافيل، ثم يقول: من بقي يا ملك الموت؟ فيقول: سبحانك ربي تباركتَ وتعاليتَ يا ذا الجلال والإكرام، بقي جبريل وميكائيل وملك الموت، فيقول: خذ نفس ميكائيل، فيأخذ نفسه، فيقع كالطود العظيم، فيقول: من بقي؟ فيقول: سبحانك ربي تباركتَ وتعاليتَ، بقي جبريل وملك الموت، فيقول: مت يا ملك الموت، فيموت، فيقول: يا جبريل من بقي؟ فيقول: تباركت وتعاليت يا ذا الجلال والإكرام وجهك الباقي الدائم وجبريل الميت الفاني، قال: فيقول يا جبريل لابد من موتك، فيقع ساجدًا يخفق بجناحيه فيروى أن فضلِ خلقه على فضل ميكائيل كالطود العظيم على ظرب من الظراب. ويروى أنه يبقى مع هؤلاء الأربعة حملة العرش فيقبض روح جبريل وميكائيل، ثم أرواح حملة العرش، ثم روح إسرافيل، ثم روح ملك الموت.
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي، أخبرنا أبو الحسن علي بن عبد الله الطيسفوني، أخبرنا عبد الله بن علي الجوهري، أخبرنا أحمد بن علي الكشميهني، أخبرنا علي بن حجر، أخبرنا إسماعيل بن جعفر، أخبرنا محمد بن عمرو بن علقمة، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ينفخ في الصور فيصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله، ثم ينفخ فيه أخرى فأكون أول من يرفع رأسه، فإذا موسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أكان من استثنى الله عز وجل أم رفع رأسه قبلي؟ ومن قال أنا خير من يونس بن مَتّى فقد كذب».
قال الضحاك: هم رضوان، والحور، ومالك، والزبانية. وقيل: عقارب النار وحياتها. قوله عز وجل: {وَكُلٌّ} أي: الذين أحيوا بعد الموت، {أَتَوْهُ} قرأ الأعمش، وحمزة، وحفص: {أتوه} مقصورًا بفتح التاء على الفعل، أي: جاءوه، وقرأ الآخرون بالمد وضم التاء كقوله تعالى: {وكلهم آتيه يوم القيامة فردًا} [مريم- 95]، {دَاخِرِينَ} صاغرين.

.تفسير الآيات (88- 89):

{وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89)}
قوله عز وجل: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً} قائمة واقفة، {وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} أي: تسير سير السحاب حتى تقع على الأرض. فتستوي بها وذلك أن كل شيء عظيم وكل جمع كثير يقصر عنه البصر لكثرته وبعد ما بين أطرافه فهو في حسبان الناظر واقف وهو سائر، كذلك سير الجبال لا يرى يوم القيامة لعظمتها، كما أن سير السحاب لا يرى لعظمه وهو سائر، {صُنْعَ اللَّهِ} نصب على المصدر، {الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} أي: أحكم، {إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} قرأ ابن كثير، وأهل البصرة: بالياء والباقون بالتاء. {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ} بكلمة الإخلاص، وهي شهادة أن لا إله إلا الله، قال أبو معشر: كان إبراهيم يحلف ولا يستثني: أن الحسنة لا إله إلا الله. وقال قتادة: بالإخلاص. وقيل: هل كل طاعة {فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} قال ابن عباس: فمنها يصل الخير إليه، يعني: له من تلك الحسنة خير يوم القيامة، وهو الثواب والأمن من العذاب، أما أن يكون له شيء خير من الإيمان فلا لأنه ليس شيء خيرًا من قوله لا إله إلا الله. وقيل: فله خير منها يعني: رضوان الله، قال تعالى: {ورضوان من الله أكبر} [التوبة- 72]، وقال محمد بن كعب، وعبد الرحمن بن زيد: {فله خير منها} يعني: الأضعاف، أعطاه الله تعالى بالواحدة عشرًا فصاعدًا وهذا حسن لأن للأضعاف خصائص، منها: أن العبد يسأل عن عمله ولا يسأل عن الأضعاف، ومنها: أن للشيطان سبيلا إلى عمله وليس له سبيل إلى الأضعاف، ولا مطمع للخصوم في الأضعاف، ولأن الحسنة على استحقاق العبد والتضعيف كما يليق بكرم الرب تبارك وتعالى. {وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} قرأ أهل الكوفة: {من فزعٍ} بالتنوين {يومَئذٍ} بفتح الميم، وقرأ الآخرون بالإضافة لأنه أعم فإنه يقتضي الأمن من جميع فزع ذلك اليوم، وبالتنوين كأنه فزع دون فزع، ويفتح أهل المدينة الميم من يومئذ.

.تفسير الآيات (90- 93):

{وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90) إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)}
{وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ} يعني الشرك، {فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ} يعني ألقوا على وجوههم، يقال: كَبَبْتُّ الرّجلَ: إذا ألقيتُه على وجهه، فانكبَّ وأكبَّ، وتقول لهم خزنة جهنم: {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} في الدنيا من الشرك. قوله تعالى: {إِنَّمَا أُمِرْتُ} يقول الله لرسوله صلى الله عليه وسلم قل إنما أمرت، {أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ} يعني: مكة، {الَّذِي حَرَّمَهَا} جعلها الله حرمًا آمنًا، لا يسفك فيها دم، ولا يظلم فيها أحد، ولا يصاد صيدها، ولا يختلى خلاها، {وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ} خَلْقًا وملكًا، {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} لله. {وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ} يعني: وأمرت أن أتلو القرآن، {فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ} أي: نفع اهتدائه يرجع إليه، {وَمَنْ ضَلَّ} عن الإيمان وأخطأ عن طريق الهدى، {فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ} من المخوفين فليس علي إلا البلاغ. نسختها آية القتال. {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} على نعمه، {سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ} يعني: يوم بدر، من القتل والسبي وضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم، نظيره قوله عز وجل: {سأريكم آياتي فلا تستعجلون} [الأنبياء- 37]، وقال مجاهد سيريكم آياته في السماء والأرض وفي أنفسكم، كما قال: {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم} [فصلت- 53]، {فَتَعْرِفُونَهَا} يعني: تعرفون الآيات والدلالات، {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} وعدهم بالجزاء على أعمالهم.

.سورة القصص:

مكية إلا قوله عزَّ وجلَّ: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} إلى قوله: {لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} وفيهالا آية نزلت بين مكة والمدينة، وهي قوله عزَّ وجلَّ: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ}.

.تفسير الآيات (1-4):

{طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4)}
{طسم تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ} بالصدقُ {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} يصدقون بالقرآن.
{إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا} استكبر وتجَّبر وتعظَّم {فِي الأرْضِ} أرض مصرُ {وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا} فِرَِقًا وأصنافًا في الخدمة والتسخيرُ {يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ} أراد بالطائفة: بني إسرائيلُ ثم فسّر الاستضعاف فقال: {يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ} سّمى هذا استضعافًا لأنهم عجزوا وضعفوا عن دفعه عن أنفسهمُ {إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}.

.تفسير الآيات (6- 7):

{وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6) وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7)}
{وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأرْضِ} يعني: بني إسرائيل، {وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً} قادة في الخير يقتدى بهم. وقال قتادة: ولاة وملوكًا، دليله: قوله عز وجل: {وجعلكم ملوكًا} [المائدة- 20]، وقال مجاهد: دعاة إلى الخير. {وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} يعني: أملاك فرعون وقومه يخلفونهم في مساكنهم.
{وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأرْضِ} نوطِّن لهم في أرض مصر والشام، ونجعلها لهم مكانًا يستقرون فيه، {وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا} قرأ الأعمش، وحمزة، والكسائي: {ويرى} بالياء وفتحها، {فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا} مرفوعات على أن الفعل لهم، وقرأ الآخرون بالنون وضمها، وكسر الراء، ونصب الياء ونصب ما بعده، بوقوع الفعل عليه، {مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} والحذر هو التوقي من الضرر، وذلك أنهم أخبروا أن هلاكهم على يد رجل من بني إسرائيل فكانوا على وَجَلٍ منه، فأراهم الله ما كانوا يحذرون.
{وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى} وحي إلهام لا وحي نبوة، قال قتادة: قذفنا في قلبها، وأم موسى يوخابذ بنت لاوى بن يعقوب، {أَنْ أَرْضِعِيهِ} واختلفوا في مدة الرضاع، قيل: ثمانية أشهر. وقيل: أربعة أشهر. وقيل: ثلاثة أشهر كانت ترضعه في حجرها، وهو لا يبكي ولا يتحرك، {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ} يعني: من الذبح، {فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ} واليم: البحر، وأراد هاهنا النيل، {وَلا تَخَافِي} قيل: لا تخافي عليه من الغرق، وقيل: من الضيعة، {وَلا تَحْزَنِي} على فراقه، {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} روى عطاء عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن بني إسرائيل لما كثروا بمصر، استطالوا على الناس، وعملوا بالمعاصي، ولم يأمروا بالمعروف ولم ينهو عن المنكر، فسلط الله عليهم القبط فاستضعفوهم إلى أن أنجاهم على يد نبيه. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: إن أم موسى لما تقاربت ولادتها، وكانت قابلةٌ من القوابل التي وكلهن فرعون بحُبَالى بني إسرائيل مصافية لأم موسى، فلما ضرب بها الطلق أرسلت إليها فقالت: قد نزل بي ما نزل، فلينفعني حبك إيّاي اليوم، قالت: فعالجت قبالتها، فلما أن وقع موسى بالأرض هالها نورٌ بين عيني موسى، فارتعش كل مفصل منها، ودخل حب موسى قلبها. ثم قالت لها: يا هذا ما جئت إليك حين دعوتني إلا ومن رأيي قتل مولودك، ولكن وجدت لابنك هذا حبًا ما وجدت حب شيء مثل حبه، فاحفظي ابنك فإني أراه هو عدونا، فلما خرجت القابلة من عندها أبصرها بعض العيون، فجاءوا إلى بابها ليدخلوا على أم موسى، فقالت أخته يا أماه هذا الحرس بالباب، فلفَّتْ موسى في خرقة، فوضعته في التنور وهو مسجور، وطاش عقلها، فلم تعقل ما تصنع.
قال: فدخلوا فإذا التنور مسجور، ورأوا أم موسى لم يتغير لها لون ولم يظهر لها لبن، فقالوا لها: ما أدخل عليك القابلة؟ قالت: هي مصافية لي فدخلت علي زائرة، فخرجوا من عندها، فرجع إليها عقلها فقالت لأخت موسى: فأين الصبي؟ قالت لا أدري، فسمعت بكاء الصبي من التنور فانطلقت إليه وقد جعل الله سبحانه وتعالى النار عليه بردًا وسلامًا، فاحتملته قال: ثم إن أم موسى لما رأت إلحاح فرعون في طلب الولدان خافت على ابنها، فقذف الله في نفسها أن تتخذ له تابوتًا ثم تقذف التابوت في اليمِّ وهو النيل، فانطلقت إلى رجل نجار من قوم فرعون فاشترت منه تابوتًا صغيرًا، فقال لها النجار: ما تصنعين بهذا التابوت؟ قالت: ابن لي أخبئه في التابوت، وكرهت الكذب، قال ولم تقل: أخشى عليه كيد فرعون، فلما اشترت التابوت وحملته وانطلقت به انطلق النجار إلى الذباحين ليخبرهم بأمر أم موسى، فلما همَّ بالكلام أمسك الله لسانه فلم يطق الكلام، وجعل يشير بيده فلم يدر الأمناء ما يقول، فلما أعياهم أمره قال كبيرهم: اضربوه فضربوه وأخرجوه، فلما انتهى النجار إلى موضعه رد الله عليه لسانه فتكلم، فانطلق أيضًا يريد الأمناء فأتاهم ليخبرهم فأخذ الله لسانه وبصره فلم يطق الكلام ولم يبصر شيئًا، فضربوه وأخرجوه، فوقع في واد يهوى فيه حيران، فجعل الله عليه إن رد لسانه وبصره أن لا يدل عليه وأن يكون معه يحفظه حيث ما كان، فعرف الله منه الصدق فردّ عليه لسانه وبصره فخر لله ساجدًا، فقال: يا رب دلَّني على هذا العبد الصالح، فدلَّه الله عليه، فخرج من الوادي فآمن به وصدقه، وعلم أن ذلك من الله عز وجل. وقال وهب بن منبه: لما حملت أم موسى بموسى كتمت أمرها جميع الناس، فلم يطلع على حبلها أحد من خلق الله، وذلك شيء ستره الله لما أراد أن يمن به على بني إسرائيل، فلما كانت السنة التي يولد فيها بعث فرعون القوابل وتقدم إليهن ففتشن النساء تفتيشا لم يفتشن قبل ذلك مثله، وحملت أم موسى بموسى فلم ينتأ بطنها، ولم يتغير لونها، ولم يظهر لبنها، وكانت القوابل لا تتعرض لها، فلما كانت الليلة التي ولد فيها ولدته ولا رقيب عليها ولا قابلة، ولم يطلع عليها أحد إلا أخته مريم، فأوحى الله إليها {أن أرضعيه فإذا خفت عليه} الآية، فكتمته أمه ثلاثة أشهر ترضعه في حجرها، لا يبكي ولا يتحرك، فلما خافت عليه عملت تابوتا له مطبقا ثم ألقته في البحر ليلا.
قال ابن عباس وغيره: وكان لفرعون يومئذ بنت لم يكن له ولد غيرها، وكانت من أكرم الناس عليه، وكان لها كل يوم ثلاث حاجات ترفعها إلى فرعون، وكان بها برص شديد، وكان فرعون قد جمع لها أطباء مصر والسحرة فنظروا في أمرها، فقالوا له: أيها الملك لا تبرأ إلا من قبل البحر، يوجد فيه شبه الإنسان فيؤخذ من ريقه فيلطخ به برصها فتبرأ من ذلك، وذلك في يوم كذا وساعة كذا حين تشرق الشمس، فلما كان يوم الاثنين غدا فرعون إلى مجلس كان على شفير النيل ومعه امرأته آسية بنت مزاحم، وأقبلت ابنة فرعون في جواريها حتى جلست على شاطئ النيل مع جواريها تلاعبهن وتنضح الماء على وجوههن، إذ أقبل النيل بالتابوت تضربه الأمواج، فقال فرعون: إن هذا لشيء في البحر قد تعلق بالشجرة ايتوني به، فابتدروه بالسفن من كل جانب حتى وضعوه بين يديه، فعالجوا فتح الباب فلم يقدروا عليه وعالجوا كسره فلم يقدروا عليه، فدنت آسية فرأت في جوف التابوت نورا لم يره غيرها فعالجته ففتحت الباب فإذا هي بصبي صغير في مهده، وإذا نور بين عينيه، وقد جعل الله رزقه في إبهامه يمصه لبنا، فألقى الله لموسى المحبة في قلب آسية، وأحبه فرعون وعطف عليه، وأقبلت بنت فرعون، فلما أخرجوا الصبي من التابوت عمدت بنت فرعون إلى ما كان يسيل من ريقه فلطخت به برصها فبرأت، فقبلته وضمته إلى صدرها، فقال الغواة من قوم فرعون: أيها الملك إنا نظن أن ذلك المولود الذي تحذر منه بني إسرائيل هو هذا، رمي به في البحر فرقا منك فاقتله، فهم فرعون بقتله، قالت آسية: قرة عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا، وكانت لا تلد، فاستوهبت موسى من فرعون فوهبه لها، وقال فرعون أما أنا فلا حاجة لي فيه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو قال فرعون يومئذ هو قرة عين لي كما هو لك لهداه الله كما هداها»، فقيل لآسية سميه فقالت: سميته موسى لأنا وجدناه في الماء والشجر فمو هو الماء، وسى هو الشجر، فذلك قوله عز وجل: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ}.