فصل: تفسير الآيات (39- 42):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآيات (39- 42):

{وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42)}
{وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ} قرأ نافع، وحمزة، والكسائي ويعقوب: {يَرْجِعون} بفتح الياء وكسر الجيم، والباقون بضم الياء وفتح الجيم.
{فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ} فألقيناهم، {فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ}.
{وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً} قادة ورؤساء، {يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ} لا يمنعون من العذاب.
{وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً} خزيًا وعذابًا، {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} المبعدين الملعونين، وقال أبو عبيدة: من المهلكين. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: من المشوهين بسواد الوجوه وزرقة العيون، يقال: قَبَحه اللهُ وقَبَّحه: إذا جعله قبيحًا، ويقال: قبحه قبحًا، وقبوحًا، إذا أبعده من كل خير.

.تفسير الآيات (43- 45):

{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45)}
قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأولَى} يعني: قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم كانوا قبل موسى، {بَصَائِرَ لِلنَّاسِ} أي: ليبصروا بذلك الكتاب ويهتدوا به، {وَهُدًى} الضلالة لمن عمل به، {وَرَحْمَةٌ} لمن آمن به، {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} بما فيه من المواعظ والبصائر.
{وَمَا كُنْتَ} يا محمد، {بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ} يعني: بجانب الجبل الغربي، قاله قتادة والسدي، وقال الكلبي: بجانب الوادي الغربي. قال ابن عباس رضي الله عنهما: يريد حيث ناجى موسى ربه، {إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأمْرَ} يعني عهدنا إليه وأحكمنا الأمر معه بالرسالة إلى فرعون وقومه، {وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ} الحاضرين ذلك المقام فتذكره من ذات نفسك.
{وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا} خلقنا أمما بعد موسى عليه السلام، {فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ} أي: طالت عليهم المهلة فنسوا عهد الله وتركوا أمره، وذلك أن الله تعالى قد عهد إلى موسى وقومه عهودا في محمد صلى الله عليه وسلم والإيمان به، فلما طال عليهم العمر وخلفت القرون بعد القرون نسوا تلك العهود وتركوا الوفاء بها. {وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا} مقيما، {فِي أَهْلِ مَدْيَنَ} كمقام موسى وشعيب فيهم، {تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} تذكرهم بالوعد والوعيد، قال مقاتل: يقول لم تشهد أهل مدين فتقرأ على أهل مكة خبرهم، {وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} أي: أرسلناك رسولا وأنزلنا عليك كتابا فيه هذه الأخبار، فتتلوها عليهم ولولا ذلك لما علمتها ولم تخبرهم بها.

.تفسير الآيات (46- 47):

{وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47)}
{وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ} بناحية الجبل الذي كلم الله عليه موسى، {إِذْ نَادَيْنَا} قيل: إذ نادَيْنَا موسى: خذ الكتابَ بقوّة. وقال وهب: قال موسى: يا رب أرني محمدا، قال: إنك لن تصل إلى ذلك، وإن شئت ناديت أمته وأسمعتك صوتهم، قال: بلى يا رب، قال الله تعالى: يا أمة محمد فأجابوه من أصلاب آبائهم وقال أبو زرعة بن عمرو بن جرير: ونادى يا أمة محمد قد أجبتكم قبل أن تدعوني وأعطيتكم قبل أن تسألوني.
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما- ورفعه بعضهم-، قال الله: يا أمة محمد، فأجابوه من أصلاب الآباء وأرحام الأمهات: لبيك اللهم لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك. قال الله تعالى: يا أمة محمد إن رحمتي سبقت غضبي وعفوي سبق عقابي، قد أعطيتكم من قبل أن تسألوني وقد أجبتكم من قبل أن تدعوني، وقد غفرت لكم من قبل أن تعصوني، من جاءني يوم القيامة بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبدي ورسولي دخل الجنة، وإن كانت ذنوبه أكثر من زبد البحر. قوله تعالى: {وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} أي: ولكن رحمناك رحمة بإرسالك والوحي إليك وإطلاعك على الأخبار الغائبة عنك، {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ} يعني: أهل مكة، {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} {وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ} عقوبة ونقمة، {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} الكفر والمعصية، {فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا} هلا {أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} وجواب {لولا} محذوف، أي: لعاجلناهم بالعقوبة، يعني: لولا أنهم يحتجون بترك الإرسال إليهم لعاجلناهم بالعقوبة بكفرهم. وقيل: معناه لما بعثناك إليهم رسولا ولكن بعثناك إليهم لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل.

.تفسير الآيات (48- 50):

{فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)}
{فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا} يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم، {قَالُوا} يعني: كفار مكة، {لَوْلا} هلا {أُوتِيَ} محمد، {مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى} من الآيات كاليد البيضاء والعصاُ وقيل: مثل ما أوتي موسى كتابًا جملة واحدة. قال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ} أي: فقد كفروا بآيات موسى كما كفروا بآيات محمدُ {قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا} قرأ أهل الكوفة: {سحران}، أي: التوراة والقرآن: {تظاهرا} يعني: كل سحر يقوي الآخر، نسب التظاهر إلى السحرين على الاتساع، قال الكلبي: كانت مقالتهم تلك حين بعثوا إلى رءوس اليهود بالمدينة، فسألوهم عن محمد فأخبروهم أن نعته في كتابهم التوراة، فرجعوا فأخبروهم بقول اليهود، فقالوا: سِحْرَانِ تظاهرا. وقرأ الآخرون: {ساحران} يعنون محمدًا وموسى عليه السلام، لأن معنى التظاهر بالناس وأفعالهم أشبه منه بالكتب، {وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ}.
{قُلْ} يا محمد، {فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا} يعني: من التوراة والقرآن، {أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ} أي: لم يأتوا بما طلبت، {فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}.

.تفسير الآيات (51- 52):

{وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52)}
{وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ} قال ابن عباس رضي الله عنهما: بينا. قال الفراء: أنزلنا آيات القرآن يتبع بعضها بعضًا. قال قتادة: وصل لهم القول في هذا القرآن، يعني كيف صنع بمن مضى. قال مقاتل: بيّنا لكفار مكة بما في القرآن من أخبار الأمم الخالية كيف عذبوا بتكذيبهم. وقال ابن زيد: وصلنا لهم خبر الدنيا بخبر الآخرة حتى كأنهم عاينوا الآخرة في الدنيا، {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}.
{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ} من قبل محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم. وقيل: من قبل القرآن، {هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ} نزلت في مؤمني أهل الكتاب؛ عبد الله بن سلام وأصحابه. وقال مقاتل: بل هم أهل الإنجيل الذين قدموا من الحبشة وآمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم. وقال سعيد بن جبير: هم أربعون رجلا قدموا مع جعفر من الحبشة على النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رأوا ما بالمسلمين من الخصاصة قالوا: يا نبي الله إن لنا أموالا فإن أذنت لنا انصرفنا وجئنا بأموالنا فواسينا المسلمين بها فأذن لهم، فانصرفوا فأتوا بأموالهم، فواسوا بها المسلمين، فنزل فيهم: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} إلى قوله تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: نزلت في ثمانين من أهل الكتاب، أربعون من نجران، واثنان وثلاثون من الحبشة، وثمانية من الشام. ثم وصفهم الله فقال: {وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ}.

.تفسير الآيات (53- 55):

{وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55)}
{وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ} يعني القرآن، {قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا} وذلك أن ذكر النبي صلى الله عليه وسلم كان مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل، {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} أي: من قبل القرآن مسلمين مخلصين لله بالتوحيد مؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم أنه نبي حق.
{أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ} لإيمانهم بالكتاب الأول وبالكتاب الآخر، {بِمَا صَبَرُوا} على دينهم. قال مجاهد: نزلت في قوم من أهل الكتاب أسلموا فأوذوا أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي، أخبرنا أبو علي زاهر بن أحمد، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن حفص الجويني، أخبرنا أحمد بن سعيد الدارمي، أخبرنا عثمان، أخبرنا شعبة، عن صالح، عن الشعبي، عن أبي بردة، عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: رجل كانت له جارية فأدبها فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوجها، ورجل من أهل الكتاب آمن بكتابه وآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، وعبد أحسن عبادة الله ونصح سيده». قوله عز وجل: {وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} قال ابن عباس رضي الله عنهما: يدفعون بشهادة أن لا إله إلا الله الشرك، قال مقاتل: يدفعون ما سمعوا من الأذى والشتم من المشركين بالصفح والعفو، {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} في الطاعة.
{وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ} القبيح من القول، {أَعْرَضُوا عَنْهُ} وذلك أن المشركين كانوا يسبون مؤمني أهل الكتاب ويقولون: تبا لكم تركتم دينكم، فيعرضون عنهم ولا يردون عليهم، {وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} لنا ديننا ولكم دينكم، {سَلامٌ عَلَيْكُمْ} ليس المراد منه سلام التحية، ولكنه سلام المتاركة، معناه: سلمتُم منّا لا نعارضكم بالشتم والقبيح من القول، {لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} أي: دين الجاهلين، يعني: لا نحب دينكم الذي أنتم عليه. وقيل: لا نريد أن نكون من أهل الجهل والسفه، وهذا قبل أن يؤمر المسلمون بالقتال.

.تفسير الآيات (56- 57):

{إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (57)}
قوله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} أي: أحببت هدايته. وقيل: أحببته لقرابته، {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} قال مجاهد، ومقاتل: لمن قُدّر له الهدى، نزلت في أبي طالب قال له النبي صلى الله عليه وسلم: قل لا إله إلا الله، أشهد لك بها يوم القيامة، قال: لولا أن تعيرني قريش، يقولون: إنما حمله على ذلك الجزع، لأقررت بها عينك، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
{وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} مكة، نزلت في الحرث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف، وذلك أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا لنعلم أن الذي تقول حق، ولكنا إن اتبعناك على دينك خفنا أن تُخرجنا العرب من أرضنا مكة. وهو معنى قوله: {نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا}، والاختطاف: الانتزاع بسرعة. قال الله تعالى: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا} وذلك أن العرب في الجاهلية كانت تغير بعضهم على بعض، ويقتل بعضهم بعضًا، وأهل مكة آمنون حيث كانوا، لحرمة الحرم، ومن المعروف أنه كان يأمن فيه الظباء من الذئاب والحمام من الحدأة، {يُجْبَى} قرأ أهل المدينة ويعقوب: {تجبى} بالتاء لأجل الثمرات، والآخرون بالياء للحائل بين الاسم المؤنث والفعل، أي: يجلب ويجمع، {إِلَيْهِ} يقال: جبيت الماء في الحوض أي: جمعته، قال مقاتل: يحمل إلى الحرم، {ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} أن ما يقوله حق.

.تفسير الآيات (58- 61):

{وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلا قَلِيلا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58) وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59) وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ (60) أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)}
قوله عز وجل: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ} أي من أهل قرية، {بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} أي: في معيشتها، أي: أشرت وطغت، قال عطاء: عاشوا في البطر فأكلوا رزق الله وعبدوا الأصنام، {فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلا قَلِيلا} قال ابن عباس رضي الله عنهما: لم يسكنها إلا المسافرون ومارُّ الطريق يومًا أو ساعة، معناه: لم تسكن من بعدهم إلا سكونًا قليلا. وقيل: معناه: لم يعمر منها إلا أقلها وأكثرها خراب، {وَكُنَّا نَحْن الْوَارِثِينَ} {إنا نحن نرث الأرض ومن عليها} [مريم- 40].
{وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى} أي: القرى الكافر أهلها، {حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولا} يعني: في أكبرها وأعظمها رسولا ينذرهم، وخص الأعظم ببعثة الرسول فيها، لأن الرسول يبعث إلى الأشراف، والأشراف يسكنون المدائن، والمواضع التي هي أم ما حولها، {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} قال مقاتل: يخبرهم الرسول أن العذاب نازل بهم إن لم يؤمنوا، {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} مشركون، يريد: أهلكتهم بظلمهم.
{وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا} تتمتعون بها أيام حياتكم ثم هي إلى فناء وانقضاء، {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ} أن الباقي خير من الفاني. قرأ عامة القراء: {تعقلون} بالتاء وأبو عمرو بالخيار بين التاء والياء.
{أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا} أي الجنةُ {فَهُوَ لاقِيهِ} مصيبه ومدركه وصائر إليهُ {كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} ويزول عن قريب {ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} النار، قال قتادة: يعني المؤمن والكافر، قال مجاهد: نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم وأبي جهل. وقال محمد بن كعب: نزلت في حمزة وعلي، وأبي جهل. وقال السدي: نزلت في عمار والوليد بن المغيرة.