فصل: تفسير الآيات (29- 33):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآيات (29- 33):

{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ (30) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33)}
{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} يعني القيامة. {قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ} أي: لا تتقدمون عليه يعني يوم القيامة، وقال الضحاك: يوم الموت لا تتأخرون عنه ولا تتقدمون بأن يزاد في أجلكم أو ينقص منه. {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} يعني: التوراة والإنجيل، {وَلَوْ تَرَى} يا محمد، {إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ} محبوسون، {عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ} يرد بعضهم إلى بعض القول في الجدال، {يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا} استحقروا وهم الأتباع، {لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا} وهم القادة والأشراف، {لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} أي: أنتم منعتمونا عن الإيمان بالله ورسوله. {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا} أجابهم المتبوعون في الكفر، {لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ} بترك الإيمان. {وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} أي: مكركم بنا في الليل والنهار، والعرب تضيف الفعل إلى الليل والنهار على توسع الكلام؟ كما قال الشاعر:
وَنِمْتُ وَمَا لَيْلُ المَطِيِّ بِنَائِمِ

وقيل: مكر الليل والنهار هو طول السلامة وطول الأمل فيهما، كقوله تعالى: {فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم} [الحديد- 16].
{إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا} أظهروا {النَّدَامَةَ} وقيل: أخفوا، وهو من الأضداد، {لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا} في النار الأتباع والمتبوعين جميعا. {هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} من الكفر والمعاصي في الدنيا.

.تفسير الآيات (34- 36):

{وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (36)}
{وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا} رؤساؤها وأغنياؤها، {إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} {وَقَالُوا} يعني: قال المترفون للفقراء الذين آمنوا: {نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالا وَأَوْلادًا} ولو لم يكن الله راضيًا بما نحن عليه من الدين والعمل لم يخولنا الأموال والأولاد، {وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} أي: إن الله أحسن إلينا في الدنيا بالمال والولد فلا يعذبنا. {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} يعني: أن الله يبسط الرزق ويقدر ابتلاء وامتحانًا لا يدل البسط على رضا الله عنه ولا التضييق على سخطه، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} أنها كذلك.

.تفسير الآيات (37- 39):

{وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (38) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39)}
{وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى} أي: قربى، قال الأخفش: قربى اسم مصدر كأنه قال بالتي تقربكم عندنا تقريبًا، {إِلا مَنْ آمَنَ} يعني: لكن من آمن، {وَعَمِلَ صَالِحًا} قال ابن عباس: يريد إيمانه وعمله يقربه مني، {فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا} أي: يضعف الله لهم حسناتهم فيجزي بالحسنة الواحدة عشر إلى سبعمائة قرأ يعقوب: {جزاء} منصوبا منونا {الضعف} رفع، تقديره: فأولئك لهم الضعف جزاء، وقرأ العامة بالإضافة، {وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} قرأ حمزة: {في الغرفة} على واحدة، وقرأ الآخرون بالجمع لقوله: {لنبوأنهم من الجنة غرفا} [العنكبوت- 58]. {وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ} يعملون، {فِي آيَاتِنَا} في إبطال حجتنا، {مُعَاجِزِينَ} معاندين يحسبون أنهم يعجزوننا ويفوتوننا، {أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} أي: يعطي خلفه، قال سعيد بن جبير: ما كان في غير إسراف ولا تقتير فهو يخلفه.
وقال الكلبي: ما تصدقتم من صدقة وأنفقتم في الخير من نفقة فهو يخلفه على المنفق، إما أن يعجله في الدنيا وإما أن يدخره له في الآخرة.
{وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} خير من يعطي ويرزق.
وروينا عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى قال: أنفق أنفق عليك».
أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، أخبرنا محمد بن إسماعيل، حدثنا إسماعيل، حدثنا أبي، عن سليمان هو ابن بلال، عن معاوية بن أبي مزرد، عن أبي الحبحاب، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما اللهم أعط منفقا خلفًا، ويقول الآخر اللهم أعط ممسكًا تلفا». أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان، أخبرنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني، أخبرنا حميد بن زنجويه، أخبرنا ابن أبي أويس، أخبرنا عبد العزيز بن محمد، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله». أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أبو منصور السمعاني، أخبرنا أبو جعفر الرياني، أخبرنا حميد ابن زنجويه، أخبرنا أبو الربيع، أخبرنا عبد الحميد بن الحسن الهلالي، أخبرنا محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل معروف صدقة وكل ما أنفق الرجل على نفسه وأهله كتب له صدقة، وما وقى الرجل به عرضه كتب له بها صدقة»، قلت: ما يعني وقى الرجل عرضه؟ قال: «ما أعطى الشاعر وذا اللسان للمتقى، وما أنفق المؤمن من نفقة فعلى الله خلفها ضامنا إلا ما كان من نفقة في بنيان أو في معصية الله عز وجل». قوله: «قلت ما يعني» يقول عبد الحميد لمحمد بن المنكدر.
قال مجاهد: إذا كان في يد أحدكم شيء فليقتصد، ولا يتأول هذه الآية: {وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه}، فإن الرزق مقسوم لعل رزقه قليل، وهو ينفق نفقة الموسع عليه. ومعنى الآية: وما كان من خلف فهو منه.

.تفسير الآيات (40- 44):

{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (42) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44)}
قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ} قرأ يعقوب وحفص: {يحشرهم}، وقرأ الآخرون بالنون، {جَمِيعًا} يعني: هؤلاء الكفار، {ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} في الدنيا، قال قتادة: هذا استفهام تقرير، كقوله تعالى لعيسى: {أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله} [مريم- 116]، فتتبرأ منهم الملائكة. {قَالُوا سُبْحَانَكَ} تنزيهًا لك، {أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ} أي: نحن نتولاك ولا نتولاهم، {بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ} يعني: الشياطين، فإن قيل لهم كانوا يعبدون الملائكة فكيف وجه قوله: {يَعْبُدُونَ الْجِنَّ} قيل: أراد الشياطين زينوا لهم عبادة الملائكة، فهم كانوا يطيعون الشياطين في عبادة الملائكة، فقوله: {يَعْبُدُونَ} أي: يطيعون الجن، {أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} يعني: مصدقون للشياطين. ثم يقول الله: {فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا} بالشفاعة، {وَلا ضَرًّا} بالعذاب، يريد أنهم عاجزون، لا نفع عندهم ولا ضر، {وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا} يعنون محمدًا صلى الله عليه وسلم، {إِلا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلا إِفْكٌ مُفْتَرًى} يعنون القرآن، {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ} أي: بين. {وَمَا آتَيْنَاهُمْ} يعني: هؤلاء المشركين، {مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا} يقرؤونها، {وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ} أي: لم يأت العرب قبلك نبي ولا نزل عليهم كتاب.

.تفسير الآيات (45- 48):

{وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45) قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46) قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلامُ الْغُيُوبِ (48)}
{وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} من الأمم رسلنا، وهم: عاد، وثمود، وقوم إبراهيم، وقوم لوط وغيرهم، {وَمَا بَلَغُوا} يعني: هؤلاء المشركين، {مِعْشَارَ} أي: عشر، {مَا آتَيْنَاهُمْ} أي: أعطينا الأمم الخالية من القوة والنعمة وطول العمر، {فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} أي: إنكاري وتغييري عليهم، يحذر كفار هذه الأمة عذاب الأمم الماضية. {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ} آمركم وأوصيكم بواحدة، أي: بخصلة واحدة، ثم بين تلك الخصلة فقال: {أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ} لأجل الله، {مَثْنَى} أي: اثنين اثنين، {وَفُرَادَى} أي: واحدًا واحدًا، {ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} جميعا أي: تجتمعون فتنظرون وتتحاورون وتنفردون، فتفكرون في حال محمد صلى الله عليه وسلم فتعلموا، {مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ} جنون، وليس المراد من القيام القيام الذي هو ضد الجلوس، وإنما هو قيام بالأمر الذي هو في طلب الحق، كقوله: {وأن تقوموا لليتامى بالقسط} [النساء – 127]. {إِنْ هُوَ} ما هو، {إِلا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} قال مقاتل: تم الكلام عند قوله: {ثم تتفكروا} أي: في خلق السموات والأرض فتعلموا أن خالقها واحد لا شريك له، ثم ابتدأ فقال: {ما بصاحبكم من جنة}. {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ} على تبليغ الرسالة، {مِنْ أَجْرٍ} جعل {فَهُوَ لَكُمْ} يقول: قل لا أسألكم على تبليغ الرسالة أجرا فتتهموني، ومعنى قوله: {فهو لكم} أي: لم أسألكم شيئا كقول القائل: ما لي من هذا فقد وهبته لك يريد ليس لي فيه شيء، {إِنْ أَجْرِيَ} ما ثوابي، {إِلا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ} والقذف الرمي بالسهم والحصى، والكلام، ومعناه: يأتي بالحق وبالوحي ينزله من السماء فيقذفه إلى الأنبياء، {عَلامُ الْغُيُوبِ} رفع بخبر أن، أي: وهو علام الغيوب.

.تفسير الآيات (49- 52):

{قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50) وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51) وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (52)}
{قُلْ جَاءَ الْحَقُّ} يعني: القرآن والإسلام، {وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} أي: ذهب الباطل وزهق فلم يبق منه بقية يبدئ شيئا أو يعيد، كما قال تعالى: {بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه} [الأنبياء- 48]، وقال قتادة: {الباطل} هو إبليس، وهو قول مقاتل والكلبي، وقيل: {الباطل}: الأصنام. {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي} وذلك أن كفار مكة كانوا يقولون له: إنك قد ضللت حين تركت دين آبائك، فقال الله تعالى: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي} أي: إثم ضلالتي على نفسي، {وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} من القرآن والحكمة، {إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ} {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا} قال قتادة عند البعث حين يخرجون من قبورهم، {فَلا فَوْتَ} أي: فلا يفوتونني كما قال: {ولات حين مناص} [ص- 3]، وقيل: إذ فزعوا فلا فوت ولا نجاة، {وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} قال الكلبي من تحت أقدامهم، وقيل: أخذوا من بطن الأرض إلى ظهرها، وحيثما كانوا فهم من الله قريب، لا يفوتونه. وقيل: من مكان قريب يعني عذاب الدنيا. وقال الضحاك: يوم بدر. وقال ابن أبزي: خسف بالبيداء، وفي الآية حذف تقديره: ولو ترى إذ فزعوا لرأيت امرًا تعتبر به. {وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ} حين عاينوا العذاب، قيل: عند اليأس. وقيل: عند البعث. {وَأَنَّى} من أين، {لَهُمُ التَّنَاوُشُ} قرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر: التناوش بالمد والهمزة، وقرأ الآخرون بواو صافية من غير مد ولا همز، ومعناه التناول، أي: كيف لهم تناول ما بعد عنهم، وهو الإيمان والتوبة، وقد كان قريبا في الدنيا فضيعوه، ومن همز قيل: معناه هذا أيضا.
وقيل التناوش بالهمزة من النبش وهو حركة في إبطاء، يقال: جاء نبشا أي: مبطئا متأخرا، والمعنى من أين لهم الحركة فيما لا حيلة لهم فيه، وعن ابن عباس قال: يسألون الرد إلى الدنيا فيقال وأنى لهم الرد إلى الدنيا. {مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} أي: من الآخرة إلى الدنيا.

.تفسير الآيات (53- 54):

{وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)}
{وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ} أي: بالقرآن، وقيل: بمحمد صلى الله عليه وسلم، من قبل أن يعاينوا العذاب وأهوال القيامة، {وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} قال مجاهد: يرمون محمدًا بالظن لا باليقين، وهو قولهم ساحر وشاعر وكاهن، ومعنى الغيب: هو الظن لأنه غاب علمه عنهم، والمكان البعيد: بعدهم عن علم ما يقولون، والمعنى يرمون محمدًا بما لا يعلمون من حيث لا يعلمون. وقال قتادة: يرجمون بالظن يقولون لا بعث ولا جنة ولا نار. {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ}، أي: الإيمان والتوبة والرجوع إلى الدنيا. وقيل: نعيم الدنيا وزهرتها، {كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ}، أي: بنظرائهم ومن كان على مثل حالهم من الكفار، {مِنْ قَبْلُ}، أي: لم يقبل منهم الإيمان والتوبة في وقت اليأس، {إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ}، من البعث ونزول العذاب بهم، {مُرِيبٍ}، موقع لهم الريبة والتهمة.