فصل: تفسير الآيات (27- 28):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآيات (27- 28):

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)}
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ} طرق وخطط، واحدتها جدة، مثل: مدة ومدد، {بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ} يعني: سود غرابيب على التقديم والتأخير، يقال: أسود غربيب، أي: شديد السواد تشبيها بلون الغراب، أي: طرائق سود. {وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ} ذكر الكناية لأجل {من} وقيل: رد الكناية إلى ما في الإضمار، مجازه: ومن الناس والدواب والأنعام ما هو مختلف ألوانه، {كَذَلِكَ} يعني كما اختلف ألوان الثمار والجبال، وتم الكلام هاهنا ثم ابتدأ فقال: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} قال ابن عباس: يريد إنما يخافني من خلقي من علم جبروتي وعزتي وسلطاني.
أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، أخبرنا محمد بن إسماعيل، أخبرنا عمر بن حفص، أخبرنا الأعمش، أخبرنا مسلم، عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها: صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا فرخص فيه، فتنزه عنه قوم، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فخطب فحمد الله ثم قال: «ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه فوالله إني لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية». وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرًا». وقال مسروق: كفى بخشية الله علمًا وكفى بالاغترار بالله جهلا. وقال رجل للشعبي: أفتني أيها العالم، فقال الشعبي: إنما العالم من خشي الله عز وجل.
{إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} أي: عزيز في ملكه غفور لذنوب عباده.

.تفسير الآيات (29- 32):

{إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32)}
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ} يعني: قرأوا القرآن، {وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} لن تفسد ولن تهلك، والمراد من التجارة ما وعد الله من الثواب.
قال الفراء: قوله: {يرجون} جواب لقوله: {إن الذين يتلون كتاب الله}. {لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ} جزاء أعمالهم بالثواب، {وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} قال ابن عباس: يعني سوى الثواب مما لم تر عين ولم تسمع أذن، {إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} قال ابن عباس: يغفر العظيم من ذنوبهم ويشكر اليسير من أعمالهم. {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ} يعني: القرآن، و{هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} من الكتب، {إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ} {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ} يعني: الكتاب الذي أنزلناه إليك الذي ذكر في الآية الأولى، وهو القرآن، جعلناه ينتهي إلى، {الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا}.
ويجوز أن يكون {ثم} بمعنى الواو، أي: وأورثنا، كقوله: {ثم كان من الذين آمنوا} [البلد- 17]، أي: وكان من الذين آمنوا، ومعنى {أورثنا} أعطينا، لأن الميراث عطاء، قاله مجاهد.
وقيل: {أورثنا} أي: أخرنا، ومنه الميراث لأنه أخر عن الميت، ومعناه: أخرنا القرآن عن الأمم السالفة وأعطيناكموه، وأهلناكم له.
{الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} قال ابن عباس: يريد أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ثم قسمهم ورتبهم فقال: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} روي عن أسامة بن زيد في قوله عز وجل: {فمنهم ظالم لنفسه} الآية، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كلهم من هذه الأمة». أخبرنا أبو سعيد الشريحي، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي، أخبرني الحسين بن محمد بن فنجويه، أخبرنا محمد بن علي بن الحسين القاضي، أخبرنا بكر بن محمد المروزي، أخبرنا أبو قلابة، حدثنا عمرو بن الحصين، عن الفضل بن عميرة، عن ميمون الكردي، عن أبي عثمان النهدي قال: سمعت عمر بن الخطاب قرأ على المنبر: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} الآية، فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سابقنا سابق، ومقتصدنا ناج، وظالمنا مغفور له»، قال أبو قلابة فحدثت به يحيى بن معين فجعل يتعجب منه.
واختلف المفسرون في معنى الظالم والمقتصد والسابق.
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي، أخبرنا أبو سعيد محمد بن عيسى الصيرفي، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الصفار، حدثنا أحمد بن محمد بن عيسى البرتي، حدثنا محمد بن كثير، أخبرنا سفيان، عن الأعمش، عن رجل، عن أبي ثابت أن رجلا دخل المسجد فقال: اللهم ارحم غربتي، وآنس وحشتي، وسق إلي جليسا صالحا، فقال أبو الدرداء: لئن كنت صادقا لأنا أسعد بك منك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية: {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات} فقال: «أما السابق بالخيرات فيدخل الجنة بغير حساب، وأما المقتصد فيحاسب حسابا يسيرا، وأما الظالم لنفسه فيحبس في المقام حتى يدخله الهم، ثم يدخل الجنة»، ثم قرأ هذه الآية: {وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور}.
وقال عقبة بن صهبان سألت عائشة عن قول الله عز وجل: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} الآية، فقالت: يا بني كلهم في الجنة، أما السابق بالخيرات فمن مضى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، وأما المقتصد فمن اتبع أثره من أصحابه حتى لحق به، وأما الظالم لنفسه فمثلي ومثلكم، فجعلت نفسها معنا. وقال مجاهد، والحسن، وقتادة: فمنهم ظالم لنفسه وهم أصحاب المشئمة، ومنهم مقتصد وهم أصحاب الميمنة، ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله هم السابقون المقربون من الناس كلهم. وعن ابن عباس قال: السابق: المؤمن المخلص، والمقتصد: المرائي، والظالم: الكافر نعمة الله غير الجاحد لها، لأنه حكم للثلاثة بدخول الجنة فقال: {جنات عدن يدخلونها}.
وقال بعضهم: يذكر ذلك عن الحسن، قال: السابق من رجحت حسناته على سيئاته، والمقتصد من استوت حسناته وسيئاته، والظالم من رجحت سيئاته على حسناته. وقيل: الظالم من كان ظاهره خيرًا من باطنه، والمقتصد الذي يستوي ظاهره وباطنه، والسابق الذي باطنه خير من ظاهره.
وقيل: الظالم من وحد الله بلسانه ولم يوافق فعله قوله، والمقتصد من وحد الله بلسانه وأطاعه بجوارحه، والسابق من وحد الله بلسانه وأطاعه بجوارحه وأخلص له عمله.
وقيل: الظالم التالي للقرآن، والمقتصد القارئ له العالم به، والسابق القارئ له العالم به العامل بما فيه.
وقيل: الظالم أصحاب الكبائر والمقتصد أصحاب الصغائر، والسابق الذي لم يرتكب كبيرة ولا صغيرة.
وقال سهل بن عبد الله: السابق العالم، والمقتصد المتعلم، والظالم الجاهل.
قال جعفر الصادق: بدأ بالظالمين إخبارا بأنه لا يتقرب إليه إلا بكرمه، وأن الظلم لا يؤثر في الاصطفاء، ثم ثنى بالمقتصدين لأنهم بين الخوف والرجاء، ثم ختم بالسابقين لئلا يأمن أحد مكره، وكلهم في الجنة.
وقال أبو بكر الوراق: رتبهم هذا الترتيب على مقامات الناس، لأن أحوال العبد ثلاثة: معصية وغفلة ثم توبة ثم قربة، فإذا عصى دخل في حيز الظالمين، وإذا تاب دخل في جملة المقتصدين، وإذا صحت التوبة وكثرت العبادة والمجاهدة دخل في عداد السابقين.
وقال بعضهم: المراد بالظالم الكافر ذكره الكلبي.
وقيل: المراد منه المنافق، فعلى هذا لا يدخل الظالم في قوله: {جنات عدن يدخلونها}. وحمل هذا القائل الاصطفاء على الاصطفاء في الخلقة وإرسال الرسول إليهم وإنزال الكتاب والأول هو المشهور أن المراد من جميعهم المؤمنون، وعليه عامة أهل العلم.
قوله: {وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} أي: سابق إلى الجنة، أو إلى رحمة الله بالخيرات، أي: بالأعمال الصالحات، {بِإِذْنِ اللَّهِ} أي: أمر الله وإرادته، {ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} يعني: إيراثهم الكتاب.

.تفسير الآيات (33- 34):

{جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34)}
ثم أخبر بثوابهم فقال: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} يعني: الأصناف الثلاثة، قرأ أبو عمرو {يدخلونها} بضم الياء وفتح الخاء، وقرأ الآخرون بفتح الياء وضم الخاء، {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} {وَقَالُوا} أي: ويقولون إذا دخلوا الجنة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} والحزن واحد كالبخل والبخل. قال ابن عباس: حزن النار. وقال قتادة: حزن الموت. وقال مقاتل: حزنوا لأنهم كانوا لا يدرون ما يصنع الله بهم. وقال عكرمة: حزن الذنوب والسيئات وخوف رد الطاعات. وقال القاسم: حزن زوال النعم وتقليب القلب، وخوف العاقبة، وقيل: حزن أهوال يوم القيامة. وقال الكلبي: ما كان يحزنهم في الدنيا من أمر يوم القيامة. وقال سعيد بن جبير: هم الخبز في الدنيا. وقيل: هم المعيشة. وقال الزجاج: أذهب الله عن أهل الجنة كل الأحزان ما كان منها لمعاش أو لمعاد.
أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد بن الضحاك الخطيب، حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الإسفرايني، أخبرنا أبو بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي، أخبرنا أبو العباس أحمد بن محمد الترابي، حدثنا يحيى بن عبد الحميد، حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة في قبورهم ولا في منشرهم، وكأني بأهل لا إله إلا الله ينفضون التراب عن رؤوسهم، ويقولون الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن». قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ}.

.تفسير الآيات (35- 37):

{الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35) وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37)}
{الَّذِي أَحَلَّنَا} أنزلنا، {دَارَ الْمُقَامَةِ} أي: الإقامة، {مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ} أي: لا يصيبنا فيها عناء ومشقة، {وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} إعياء من التعب. قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا} أي: لا يهلكون فيستريحوا كقوله عز وجل: {فوكزه موسى فقضى عليه} [الشعراء- 15]، أي: قتله. وقيل: لا يقضي عليهم الموت فيموتوا، كقوله: {ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك} [الزخرف- 77]، أي: ليقض علينا الموت فنستريح، {وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} من عذاب النار، {كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} كافر، قرأ أبو عمرو: {يجزي} بالياء وضمها وفتح الزاي، {كل} رفع على غير تسمية الفاعل، وقرأ الآخرون بالنون وفتحها وكسر الزاي، {كل} نصب. {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ} يستغيثون ويصيحون، {فِيهَا} وهو: يفتعلون، من الصراخ، وهو الصياح، يقولون: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا} منها من النار، {نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} في الدنيا من الشرك والسيئات، فيقول الله لهم توبيخا: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} قيل: هو البلوغ. وقال عطاء وقتادة والكلبي: ثمان عشرة سنة. وقال الحسن: أربعون سنة. وقال ابن عباس: ستون سنة، يروي ذلك عن علي، وهو العمر الذي أعذر الله تعالى إلى ابن آدم.
أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، أخبرنا محمد بن إسماعيل، أخبرنا عبد السلام بن مطهر، حدثنا عمر بن علي، عن معن بن محمد الغفاري، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أعذر الله تعالى إلى امرئ أخر أجله حتى بلغه ستين سنة». أخبرنا أبو سعيد الشريحي، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي، أخبرنا الحسين بن محمد بن فنجويه، حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان، حدثنا إبراهيم بن سهاويه، حدثنا الحسن بن عرفة، أخبرنا المحاربي عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين، وأقلهم من يجوز ذلك». {وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} يعني: محمدا صلى الله عليه وسلم، هذا قول أكثر المفسرين. وقيل: القرآن. وقال عكرمة، وسفيان بن عيينة، ووكيع: هو الشيب. معناه أو لم نعمركم حتى شبتم. ويقال: الشيب نذير الموت. وفي الأثر: ما من شعرة تبيض إلا قالت لأختها: استعدي فقد قرب الموت.
{فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ}.

.تفسير الآيات (38- 39):

{إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (38) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الأرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلا مَقْتًا وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلا خَسَارًا (39)}
{إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} {هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الأرْضِ} أي: يخلف بعضكم بعضا، وقيل: جعلكم أمة خلفت من قبلها. ورأت فيمن قبلها، ما ينبغي أن تعتبر به. {فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} أي: عليه وبال كفره {وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلا مَقْتًا} غضبا {وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلا خَسَارًا}.

.تفسير الآيات (40- 42):

{قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلا غُرُورًا (40) إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلا نُفُورًا (42)}
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي: جعلتموهم شركائي بزعمكم يعني: الأصنام، {أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا} قال مقاتل: هل أعطينا كفار مكة كتابا، {فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ} قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، وحفص: {بينة} على التوحيد، وقرأ الآخرون: {بينات} على الجمع، يعني دلائل واضحة منه مما في ذلك الكتاب من ضروب البيان.
{بَلْ إِنْ يَعِدُ} أي: ما يعد، {الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلا غُرُورًا} والغرور ما يغر الإنسان مما لا أصل له، قال مقاتل: يعني ما يعد الشيطان كفار بني آدم من شفاعة الآلهة لهم في الآخرة غرور وباطل. قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ أَنْ تَزُولا} أي: كيلا تزولا {وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} أي: ما يمسكهما أحد من بعده، أي: أحد سواه، {إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} فإن قيل: فما معنى ذكر الحلم هاهنا؟ قيل: لأن السموات والأرض همت بما همت به من عقوبة الكفار فأمسكهما الله تعالى عن الزوال بحلمه وغفرانه أن يعالجهم بالعقوبة. {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} يعني: كفار مكة لما بلغهم أن أهل الكتاب كذبوا رسلهم قالوا: لعن الله اليهود والنصارى أتتهم الرسل فكذبوهم، وأقسموا بالله وقالوا لو أتانا رسول لنكونن أهدى دينا منهم، وذلك قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، فلما بعث محمد كذبوه، فأنزل الله عز وجل: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ} رسول، {لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأمَمِ}.
يعني: من اليهود والنصارى، {فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ} محمد صلى الله عليه وسلم، {مَا زَادَهُمْ إِلا نُفُورًا} أي: ما زادهم مجيئه إلا تباعدا عن الهدى.
{اسْتِكْبَارًا فِي الأرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا سُنَّةَ الأوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلا (43) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (44)}.