فصل: تفسير الآيات (21- 24):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآيات (21- 24):

{اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24)}
{اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} قال قتادة: كان حبيب في غار يعبد ربه فلما بلغه خبر الرسل أتاهم فأظهر دينه، فلما انتهى حبيب إلى الرسل قال لهم: تسألون على هذا أجرًا؟ قالوا: لا فأقبل على قومه فقال: {يا قوم اتبعوا المرسلين اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون}، فلما قال ذلك قالوا له: وأنت مخالف لديننا ومتابع دين هؤلاء الرسل ومؤمن بإلههم؟ فقال: {وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} قرأ حمزة ويعقوب: {ما لي} بإسكان الياء، والآخرون بفتحها. قيل: أضاف الفطرة إلى نفسه والرجوع إليهم، لأن الفطرة أثر النعمة، وكانت عليه أظهر، وفي الرجوع معنى الزجر وكان بهم أليق.
وقيل: إنه لما قال: اتبعوا المرسلين، أخذوه فرفعوه إلى الملك، فقال له الملك: أفأنت تتبعهم؟ فقال: {ومالي لا أعبد الذي فطرني} وأي شيء لي إذا لم أعبد الخالق {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} تردون عند البعث فيجزيكم بأعمالكم.
{أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} استفهام بمعنى الإنكار، أي: لا أتخذ من دونه آلهة، {إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ} بسوء ومكروه، {لا تُغْنِ عَنِّي} لا تدفع عني، {شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا} أي: لا شفاعة لها أصلا فتغني {وَلا يُنْقِذُونِ} من ذلك المكروه وقيل: لا ينقذون من العذاب لو عذبني الله إن فعلت ذلك. {إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} خطأ ظاهر.

.تفسير الآيات (25- 29):

{إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27) وَمَا أَنزلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزلِينَ (28) إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29)}
{إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} يعني: فاسمعوا مني، فلما قال ذلك وثب القوم عليه وثبة رجل واحد فقتلوه.
قال ابن مسعود: وطئوه بأرجلهم حتى خرج قصبه من دبره.
قال السدي: كانوا يرمونه بالحجارة وهو يقول: اللهم اهد قومي، حتى قطعوه وقتلوه.
وقال الحسن: خرقوا خرقا في حلقة فعلقوه بسور من سور المدينة، وقبره بأنطاكية فأدخله الله الجنة، وهو حي فيها يرزق، فذلك قوله عز وجل: {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ}، فلما أفضى إلى الجنة {قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي} يعني: بغفران ربي لي، {وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} تمنى أن يعلم قومه أن الله غفر له وأكرمه، ليرغبوا في دين الرسل.
فلما قتل حبيب غضب الله له وعجل لهم النقمة، فأمر جبريل عليه السلام فصاح بهم صيحة واحدة، فماتوا عن آخرهم، فذلك قوله عز وجل: {وَمَا أَنزلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ} يعني: الملائكة، {وَمَا كُنَّا مُنزلِينَ} وما كنا نفعل هذا، بل الأمر في إهلاكهم كان أيسر مما يظنون.
وقيل: معناه {وما أنزلنا على قومه من بعده} أي: على قوم حبيب النجار من بعد قتله من جند، وما كنا ننزلهم على الأمم إذا أهلكناهم، كالطوفان والصاعقة والريح. ثم بين عقوبتهم فقال تعالى: {إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً}، وقرأ أبو جعفر: صيحة واحدة بالرفع، جعل الكون بمعنى الوقوع.
قال المفسرون: أخذ جبريل بعضادتي باب المدينة، ثم صاح بهم صيحة واحدة {فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ} ميتون.

.تفسير الآيات (30- 33):

{يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32) وَآيَةٌ لَهُمُ الأرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33)}
{يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} قال عكرمة: يعني يا حسرتهم على أنفسهم، والحسرة: شدة الندامة، وفيه قولان: أحدهما: يقول الله تعالى: يا حسرة وندامة وكآبة على العباد يوم القيامة حين لم يؤمنوا بالرسل.
والآخر: أنه من قول الهالكين. قال أبو العالية: لما عاينوا العذاب قالوا: يا حسرة أي: ندامة على العباد، يعني: على الرسل الثلاثة حيث لم يؤمنوا بهم، فتمنوا الإيمان حين لم ينفعهم.
قال الأزهري: الحسرة لا تدعى، ودعاؤها تنبيه المخاطبين. وقيل العرب تقول: يا حسرتي! ويا عجبًا! على طريق المبالغة، والنداء عندهم بمعنى التنبيه، فكأنه يقول: أيها العجب هذا وقتك؟ وأيتها الحسرة هذا أوانك؟
حقيقة المعنى: أن هذا زمان الحسرة والتعجب. ثم بين سبب الحسرة والندامة، فقال: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}.
{أَلَمْ يَرَوْا} ألم يخبروا، يعني: أهل مكة {كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ} والقرن: أهل كل عصر، سموا بذلك لاقترانهم في الوجود {أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ} أي: لا يعودون إلى الدنيا فلا يعتبرون بهم.
{وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ} قرأ عاصم وحمزة: {لما} بالتشديد هاهنا وفي الزخرف والطارق، ووافق ابن عامر إلا في الزخرف، ووافق أبو جعفر في الطارق، وقرأ الآخرون بالتخفيف. فمن شدد جعل {إن} بمعنى الجحد، و{لما} بمعنى إلا تقديره: وما كل إلا جميع، ومن خفف جعل {إن} للتحقيق و{ما} صلة مجازه: وكل جميع {لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ}.
{وَآيَةٌ لَهُمُ الأرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا} بالمطر {وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا} يعني الحنطة والشعير وما أشبههما {فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ} أي: من الحب.

.تفسير الآيات (34- 38):

{وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (36) وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38)}
{وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ} بساتين، {مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا} في الأرض، {مِنَ الْعُيُونِ}.
{لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ} أي: من الثمر الحاصل بالماء {وَمَا عَمِلَتْه} قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر: {عملت} بغير هاء، وقرأ الآخرون {عملته} بالهاء أي: يأكلون من الذي عملته {أَيْدِيهِم} الزرع والغرس فالهاء عائدة إلى {ما} التي بمعنى الذي. وقيل: {ما} للنفي في قوله: {ما عملته} أي: وجدوها معمولة ولم تعملها أيديهم ولا صنع لهم فيها وهذا معنى قول الضحاك ومقاتل.
وقيل: أراد العيون والأنهار التي لم تعملها يد خلق مثل دجلة والفرات والنيل ونحوها.
{أَفَلا يَشْكُرُونَ} نعمة الله.
{سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأزْوَاجَ كُلَّهَا} أي: الأصناف {مِمَّا تُنْبِتُ الأرْضُ} الثمار والحبوب {وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ} يعني: الذكور والإناث {وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ} مما خلق من الأشياء من دواب البر والبحر.
{وَآيَةٌ لَهُمُ} تدل على قدرتنا، {اللَّيْلُ نَسْلَخُ} ننزع ونكشط {مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} داخلون في الظلمة، ومعناه: نذهب النهار ونجيء بالليل، وذلك أن الأصل هي الظلمة والنهار داخل عليها ُ فإذا غربت الشمس سلخ النهار من الليلُ فتظهر الظلمة.
{وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} أي: إلى مستقر لها، أي: إلى انتهاء سيرها عند انقضاء الدنيا وقيام الساعة.
وقيل: إنها تسير حتى تنتهي إلى أبعد مغاربها، ثم ترجع فذلك مستقرها لأنها لا تجاوزه.
وقيل: مستقرها نهاية ارتفاعها في السماء في الصيف ونهاية هبوطها في الشتاء، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مستقرها تحت العرش».
أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، أخبرنا محمد بن إسماعيل، حدثتا الحميدي، حدثنا وكيع، حدثنا الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه، عن أبي ذر قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله عز وجل: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} قال: «مستقرها تحت العرش».
أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، أخبرنا محمد بن إسماعيل، أخبرنا الحميدي، أخبرنا وكيع، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن أبيه، عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر حين غربت الشمس: «أتدري أين تذهب»؟ قلت: الله ورسوله أعلم قال: «فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها وتستأذن فلا يؤذن لها فيقال لها: ارجعي من حيث جئت فتطلع من مغربها فذلك قوله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}».
وروى عمرو بن دينار عن ابن عباس: {والشمس تجري لا مستقر لها} وهي قراءة ابن مسعود أي: لا قرار لها ولا وقوف فهي جارية أبدا {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}.

.تفسير الآيات (39- 40):

{وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)}
{وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} أي: قدرنا له منازل قرأ ابن كثير ونافع، وأهل البصرة: {القمر} برفع الراء لقوله: {وآية لهم الليل نسلخ منه النهار} وقرأ الآخرون بالنصب لقوله: {قدرناه} أي: قدرنا القمر {مَنَازِل} وقد ذكرنا أسامي المنازل في سورة يونس فإذا صار القمر إلى آخر المنازل دق فذلك قوله: {حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} والعرجون: عود العذق الذي عليه الشماريخ، فإذا قدم وعتق يبس وتقوس واصفر فشبه القمر في دقته وصفرته في آخر المنازل به. {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ} أي: لا يدخل النهار على الليل قبل انقضائه، ولا يدخل الليل على النهار قبل انقضائه، وهو قوله تعالى: {وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} أي: هما يتعاقبان بحساب معلوم لا يجيء أحدهما قبل وقته.
وقيل: لا يدخل أحدهما في سلطان الآخر، لا تطلع الشمس بالليل ولا يطلع القمر بالنهار وله ضوء، فإذا اجتمعا وأدرك كل واحد منهما صاحبه قامت القيامة.
وقيل: {لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر} أي: لا تجتمع معه في فلك واحد، {ولا الليل سابق النهار} أي: لا يتصل ليل بليل لا يكون بينهما نهار فاصل.
{وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} يجرون.

.تفسير الآيات (41- 45):

{وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (44) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45)}
{وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ} قرأ أهل المدينة والشام، ويعقوب: {ذرياتهم} جمع وقرأ الآخرون: {ذريتهم} على التوحيد، فمن جمع كسر التاء، ومن لم يجمع نصبها، والمراد بالذرية: الآباء والأجداد، واسم الذرية يقع على الآباء كما يقع على الأولاد {فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} أي: المملوء، وأراد سفينة نوح عليه السلام، وهؤلاء من نسل من حمل مع نوح، وكانوا في أصلابهم. {وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} قيل: أراد به السفن الصغار التي عملت بعد سفينة نوح على هيئتها.
وقيل: أراد به السفن التي تجري في الأنهار فهي في الأنهار كالفلك الكبار في البحار، وهذا قول قتادة، والضحاك وغيرهما.
وروي عن ابن عباس أنه قال: {وخلقنا لهم من مثله ما يركبون} يعني: الإبل، فالإبل في البر كالسفن في البحر. {وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ} أي: لا مغيث {لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ} ينجون من الغرق. وقال ابن عباس: ولا أحد ينقذهم من عذابي. {إِلا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} إلى انقضاء آجالهم يعني إلا أن يرحمهم ويمتعهم إلى آجالهم.
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ} قال ابن عباس: {ما بين أيديكم} يعني الآخرة، فاعملوا لها، {وما خلفكم} يعني الدنيا، فاحذروها، ولا تغتروا بها.
وقيل: {ما بين أيديكم} وقائع الله فيمن كان قبلكم من الأمم، {وما خلفكم} عذاب الآخرة، وهو قول قتادة ومقاتل.
{لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} والجواب محذوف تقديره: إذا قيل لهم هذا أعرضوا عنه دليله ما بعده:

.تفسير الآيات (46- 49):

{وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (46) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (47) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) مَا يَنْظُرُونَ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49)}
{وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ} أي: دلالة على صدق محمد صلى الله عليه وسلم {إِلا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ}.
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} أعطاكم الله {قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ} أنرزق {مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} وذلك أن المؤمنين قالوا لكفار مكة: أنفقوا على المساكين مما زعمتم من أموالكم أنه لله، وهو ما جعلوا لله من حروثهم وأنعامهم، قالوا: أنطعم أنرزق من لو يشاء الله رزقه، ثم لم يرزقه مع قدرته عليه، فنحن نوافق مشيئة الله فلا نطعم من لم يطعمه الله، وهذا مما يتمسك به البخلاء، يقولون: لا نعطي من حرمه الله. وهذا الذي يزعمون باطل؛ لأن الله أغنى بعض الخلق وأفقر بعضهم ابتلاء، فمنع الدنيا من الفقير لا بخلا وأمر الغني بالإنفاق لا حاجة إلى ماله، ولكن ليبلو الغني بالفقير فيما فرض له في مال الغني، ولا اعتراض لأحد على مشيئة الله وحكمه في خلقه {إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} يقول الكفار للمؤمنين: ما أنتم إلا في خطأ بين في اتباعكم محمدا صلى الله عليه وسلم وترك ما نحن عليه.
{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} أي: القيامة والبعث {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}.
قال الله تعالى: {مَا يَنْظُرُونَ} أي: ما ينتظرون {إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً} قال ابن عباس: يريد النفخة الأولى {تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ} يعني: يختصمون في أمر الدنيا من البيع والشراء، ويتكلمون في المجالس والأسواق.
قرأ حمزة: {يخصمون} بسكون الخاء وتخفيف الصاد، أي: يغلب بعضهم بعضا بالخصام، وقرأ الآخرون بتشديد الصاد، أي: يختصمون. أدغمت التاء في الصاد، ثم ابن كثير ويعقوب وورش يفتحون الخاء بنقل حركة التاء المدغمة إليها، ويجزمها أبو جعفر وقالون ويروم فتحة الخاء أبو عمرو، وقرأ الباقون بكسر الخاء.
وروينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه ولتقومن الساعة وقد رفع الرجل أكلته إلى فيه فلا يطعمها».