فصل: تفسير الآيات (32- 36):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآيات (32- 36):

{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32) وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35) أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36)}
قوله عز وجل: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ} فزعم أن له ولدًا وشريكًا، {وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ} بالقرآن، {إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى} منزل ومقام، {لِلْكَافِرِينَ} استفهام بمعنى التقرير.
{وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} قال ابن عباس: {والذي جاء بالصدق} يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء بلا إله إلا الله {وصدق به} الرسول أيضًا بلغه إلى الخلق. وقال السدي: {والذي جاء بالصدق} جبريل جاء بالقرآن، {وصدق به} محمد صلى الله عليه وسلم تلقاه بالقبول. وقال الكلبي وأبو العالية: {والذي جاء بالصدق} رسول الله صلى الله عليه وسلم {وصدق به} أبو بكر رضي الله عنه. وقال قتادة ومقاتل: {والذي جاء بالصدق} رسول الله صلى الله عليه وسلم {وصدق به} هم المؤمنون، لقوله عز وجل: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} وقال عطاء: {والذي جاء بالصدق} الأنبياء {وصدق به} الأتباع، وحينئذ يكون الذي بمعنى: الذين، كقوله تعالى: {مثلهم كمثل الذي استوقد نارا} [البقرة- 17] ثم قال: {ذهب الله بنورهم} [البقرة- 17] وقال الحسن: هم المؤمنون صدقوا به في الدنيا وجاءوا به في الآخرة. وفي قراءة عبد الله بن مسعود: والذين جاءوا بالصدق وصدقوا به. {أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}.
{لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا} يسترها عليهم بالمغفرة، {وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} قال مقاتل: يجزيهم بالمحاسن من أعمالهم ولا يجزيهم بالمساوئ.
قوله عز وجل: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ}؟ يعني: محمدًا صلى الله عليه وسلم، وقرأ أبو جعفر وحمزة والكسائي: {عباده} بالجمع يعني: الأنبياء عليهم السلام، قصدهم قومهم بالسوء كما قال: {وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه} [غافر- 5] فكفاهم الله شر من عاداهم، {وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} وذلك أنهم خوفوا النبي صلى الله عليه وسلم معرة الأوثان. وقالوا: لتكفن عن شتم آلهتنا أو ليصيبنك منهم خبل أو جنون {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}.

.تفسير الآيات (37- 42):

{وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ (37) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (40) إِنَّا أَنزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41) اللَّهُ يَتَوَفَّى الأنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42)}
{وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ} منيع في ملكه، منتقم من أعدائه. {ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر} بشدة وبلاء، {هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ} بنعمة وبركة، {هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ} قرأ أهل البصرة: {كاشفات} و{ممسكات} بالتنوين، {ضره} {ورحمته} بنصب الراء والتاء، وقرأ الآخرون بلا تنوين وجر الراء والتاء على الإضافة، قال مقاتل: فسألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فسكتوا، فقال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: {قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ}، ثقتي به واعتمادي عليه، {عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} يثق به الواثقون.
{قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} أي: ينزل عليه عذاب دائم.
{إِنَّا أَنزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} وبال ضلالته عليه، {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} بحفيظ ورقيب لم توكل بهم ولا تؤاخذ بهم.
قوله عز وجل: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأنْفُسَ} أي: الأرواح، {حِينَ مَوْتِهَا} فيقبضها عند فناء أكلها وانقضاء أجلها، وقوله: {حِينَ مَوْتِهَا} يريد موت أجسادها. {وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ} يريد يتوفى الأنفس التي لم تمت، {فِي مَنَامِهَا} والتي تتوفى عند النوم هي النفس التي يكون بها العقل والتمييز، ولكل إنسان نفسان: إحداهما نفس الحياة وهي التي تفارقه عند الموت فتزول بزوالها النفس، والأخرى نفس التمييز وهي التي تفارقه إذا نام، وهو بعد النوم يتنفس {فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ} فلا يردها إلى الجسد.
قرأ حمزة والكسائي: {قضى} بضم القاف وكسر الضاد وفتح الياء، {الموت} رفع على ما لم يسم فاعله، وقرأ الآخرون بفتح القاف والضاد، {الموت} نصب لقوله عز وجل: {الله يتوفى الأنفس} {وَيُرْسِلُ الأخْرَى} ويرد الأخرى وهي التي لم يقض عليها الموت إلى الجسد، {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} إلى أن يأتي وقت موته.
ويقال: للإنسان نفس وروح، فعند النوم تخرج النفس وتبقي الروح. وعن عليّ قال: تخرج الروح عند النوم ويبقى شعاعه في الجسد، فبذلك يرى الرؤيا، فإذا انتبه من النوم عاد الروح إلى جسده بأسرع من لحظة. ويقال: إن أرواح الأحياء والأموات تلتقي في المنام فتتعارف ما شاء الله، فإذا أرادت الرجوع إلى أجسادها أمسك الله أرواح الأموات عنده، وأرسل أرواح الأحياء حتى ترجع إلى أجسادها إلى انقضاء مدة حياتها.
أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا زهير حدثنا عبد الله بن عمر حدثني سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أوى أحدكم إلى فراشه فلينفض فراشه بداخلة إزاره فإنه لا يدري ما خلفه عليه، ثم يقول: باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين» {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} لدلالات على قدرته حيث لم يغلط في إمساك ما يمسك من الأرواح، وإرسال ما يرسل منها.
قال مقاتل: لعلامات لقوم يتفكرون في أمر البعث، يعني: إن توفي نفس النائم وإرسالها بعد التوفي دليل على البعث.

.تفسير الآيات (43- 46):

{أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45) قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46)}
{أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ} يا محمد، {أَوَلَوْ كَانُوا} وإن كانوا يعني الآلهة، {لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا} من الشفاعة، {وَلا يَعْقِلُونَ} أنكم تعبدونهم. وجواب هذا محذوف تقديره: وإن كانوا بهذه الصفة تتخذونهم.
{قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} قال مجاهد: لا يشفع أحد إلا بإذنه، {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}. {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ} نفرت، وقال ابن عباس ومجاهد ومقاتل: انقبضت عن التوحيد. وقال قتادة: استكبرت. وأصل الاشمئزاز النفور والاستكبار، {قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ}.
{وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} يعني: الأصنام {إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} يفرحون، قال مجاهد ومقاتل: وذلك حين قرأ النبي صلى الله عليه وسلم سورة والنجم فألقى الشيطان في أمنيته: تلك الغرانيق العلى، ففرح به الكفار.
{قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}، أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي، أخبرنا أبو نعيم الإسفراييني، أخبرنا أبو عوانة، حدثنا السلمي، حدثنا النضر بن محمد، حدثنا عكرمة بن عمار، أخبرنا يحيى بن أبي كثير، حدثنا أبو سلمة قال: سألت عائشة رضي الله عنها بم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتتح الصلاة من الليل؟ قالت: كان يقول: «اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم».

.تفسير الآيات (47- 50):

{وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (48) فَإِذَا مَسَّ الإنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50)}
قوله عز وجل: {وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} قال مقاتل: ظهر لهم حين بعثوا ما لم يحتسبوا في الدنيا أنه نازل بهم في الآخرة. قال السدي: ظنوا أنها حسنات فبدت لهم سيئات، والمعنى: أنهم كانوا يتقربون إلى الله بعبادة الأصنام، فلما عوقبوا عليها بدا لهم من الله ما لم يحتسبوا. وروي أن محمد بن المنكدر جزع عند الموت، فقيل له في ذلك فقال: أخشى أن يبدو لي ما لم أحتسب.
{وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا} أي: مساوئ أعمالهم من الشرك والظلم بأولياء الله. {وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}.
{فَإِذَا مَسَّ الإنْسَانَ ضُرٌّ} شدة، {دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ} أعطيناه {نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ} أي: على علم من الله أني له أهل. وقال مقاتل: على خير علمه الله عندي، وذكر الكناية لأن المراد من النعمة الإنعام، {بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ} يعني: تلك النعمة فتنة استدراج من الله تعالى وامتحان وبلية. وقيل: بل كلمته التي قالها فتنة. {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} أنه استدراج وامتحان.
{قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} قال مقاتل: يعني قارون فإنه قال: {إنما أوتيته على علم عندي} [القصص- 78] {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} فما أغنى عنهم الكفر من العذاب شيئًا.

.تفسير الآيات (51- 53):

{فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)}
{فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا} أي: جزاؤها يعني العذاب. ثم أوعد كفار مكة فقال: {وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ} بفائتين لأن مرجعهم إلى الله عز وجل.
{أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ} أي: يوسع الرزق لمن يشاء، {وَيَقْدِرُ} أي: يقتر على من يشاء، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}.
قوله عز وجل: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ}.
روى سعيد بن جبير عن ابن عباس: أن ناسًا من أهل الشرك كانوا قتلوا وأكثروا، وزنوا وأكثروا، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: إن الذي تدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة، فنزلت هذه الآية.
وقال عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس رضي الله عنهما: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وحشي يدعوه إلى الإسلام، فأرسل إليه: كيف تدعوني إلى دينك وأنت تزعم أن من قتل أو أشرك أو زنى يلق آثامًا، يضاعف له العذاب، وأنا قد فعلت ذلك كله، فأنزل الله عز وجل: {إلا من تاب وآمن وعمل صالحا} [مريم- 60] فقال وحشي: هذا شرط شديد لعلي لا أقدر عليه فهل غير ذلك؟ فأنزل الله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء: 48، 116] فقال وحشي: أراني بعد في شبهة، فلا أدري يغفر لي أم لا؟ فأنزل الله تعالى: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله}، فقال وحشي: نعم هذا، فجاء وأسلم، فقال المسلمون: هذا له خاصة أم للمسلمين عامة؟ فقال: بل للمسلمين عامة.
وروي عن ابن عمر قال: نزلت هذه الآيات في عياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد ونفر من المسلمين كانوا قد أسلموا ثم فتنوا وعذبوا، فافتتنوا فكنا نقول: لا يقبل الله من هؤلاء صرفًا ولا عدلا أبدًا، قوم أسلموا ثم تركوا دينهم لعذاب عذبوا فيه، فأنزل الله تعالى هذه الآيات، فكتبها عمر بن الخطاب بيده ثم بعث بها إلى عياش بن ربيعة والوليد بن الوليد وإلى أولئك النفر فأسلموا وهاجروا.
وروى مقاتل بن حيان عن نافع عن ابن عمر قال: كنا معاشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نرى أو نقول: ليس بشيء من حسناتنا إلا وهي مقبولة حتى نزلت: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم} [محمد- 33] فلما نزلت هذه الآية قلنا: ما هذا الذي يبطل أعمالنا؟ فقلنا: الكبائر والفواحش، قال: فكنا إذا رأينا من أصاب شيئًا منها قلنا قد هلك، فنزلت هذه الآية، فكففنا عن القول في ذلك، فكنا إذا رأينا أحدًا أصاب منها شيئًا خفنا عليه، وإن لم يصب منها شيئًا رجونا له، وأراد بالإسراف ارتكاب الكبائر.
وروي عن ابن مسعود أنه دخل المسجد فإذا قاص يقص وهو يذكر النار والأغلال، فقام على رأسه فقال: يا مذكر لم تقنط الناس؟ ثم قرأ: {يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله}.
أخبرنا أبو بكر بن أبي الهيثم الترابي، أخبرنا أبو محمد عبد الله بن أحمد الحموي أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن خزيم الشاشي، حدثنا عبد الله بن حميد، حدثنا حيان بن هلال وسليمان بن حرب وحجاج بن منهال قالوا: حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت، عن شهر بن حوشب، عن أسماء بنت يزيد قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «{يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعًا} ولا يبالي».
أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد ابن أبي عدي عن شعبة عن قتادة عن أبي الصديق الناجي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كان في بني إسرائيل رجل قتل تسعة وتسعين إنسانًا، ثم خرج يسأل فأتى راهبًا فسأله، فقال: هل لي من توبة؟ فقال: لا فقتله فكمل به المائة، فقال له رجل: ائت قرية كذا وكذا، فأدركه الموت فنأى بصدره نحوها، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فأوحى الله تعالى إلى هذه أن تقربي وأوحى إلى هذه أن تباعدي، وقال: قيسوا ما بينهما فوجد إلى هذه أقرب بشبر فغفر له».
ورواه مسلم بن الحجاج عن محمد بن المثنى العنبري عن معاذ بن هشام عن أبيه عن قتادة بهذا الإسناد، وقال: «فدل على راهب فأتاه فقال إنه قتل تسعة وتسعين نفسًا فهل له من توبة؟ فقال له: لا فقتله وكمل به مائة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدل على رجل عالم، فقال له: قتلت مائة نفس فهل لي من توبة؟ فقال: نعم، ومن يحول بينه وبين التوبة؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناسًا يعبدون الله فاعبد الله معهم ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء، فانطلق حتى إذا كان نصف الطريق أتاه الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فأتاهم ملك من صورة آدمي فجعلوه بينهم فقال: قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيتهما كان أدنى فهو له، فقاسوا فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد، فقبضته ملائكة الرحمة».
أخبرنا أبو الحسن السرخسي، أخبرنا زاهر بن أحمد، أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي، أخبرنا أبو مصعب، عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قال رجل- لم يعمل خيرًا قط- لأهله إذا مات فحرقوه، ثم اذروا نصفه في البر ونصفه في البحر فوالله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذابًا لا يعذبه أحدا من العالمين، قال: فلما مات فعلوا ما أمرهم، فأمر الله البحر فجمع ما فيه وأمر البر فجمع ما فيه، ثم قال له: لم فعلت هذا؟ قال: من خشيتك يا رب وأنت أعلم، فغفر له».
أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة، أخبرنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن الحارث، أخبرنا أبو الحسين محمد بن يعقوب الكسائي، أخبرنا عبد الله بن محمود، أخبرنا إبراهيم بن عبد الله الخلال، حدثنا عبد الله بن المبارك عن عكرمة بن عمار، حدثنا ضمضم بن جوس قال: دخلت مسجد المدينة فناداني شيخ، فقال: يا يماني تعال، وما أعرفه، فقال: لا تقولن لرجل: والله لا يغفر الله لك أبدًا، ولا يدخلك الله الجنة، قلت: ومن أنت يرحمك الله؟ قال: أبو هريرة، قال فقلت: إن هذه الكلمة يقولها أحدنا لبعض أهله إذا غضب أو لزوجته أو لخادمه، قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن رجلين كانا في بني إسرائيل متحابين أحدهما مجتهد في العبادة والآخر يقول كأنه مذنب، فجعل يقول: أقصر أقصر عما أنت فيه، قال فيقول: خلني وربي، قال: حتى وجده يومًا على ذنب استعظمه، فقال: أقصر، فقال: خلني وربي أبعثت علي رقيبًا؟ فقال: والله لا يغفر الله لك أبدًا، ولا يدخلك الجنة أبدًا. قال: فبعث الله إليهما ملكًا فقبض أرواحهما فاجتمعا عنده، فقال للمذنب: ادخل الجنة برحمتي، وقال للآخر: أتستطيع أن تحظر على عبدي رحمتي؟ فقال: لا يا رب، فقال اذهبوا به إلى النار» قال أبو هريرة: والذي نفسي بيده لتكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته.
قوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}.
أخبرنا عبد الرحمن بن أبي بكر القفال، أخبرنا أبو مسعود محمد بن أحمد بن يونس الخطيب، حدثنا محمد بن يعقوب الأصم، حدثنا أبو قلابة، حدثنا أبو عاصم، حدثنا زكريا بن إسحاق عن عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس في قوله تعالى: {إلا اللمم} [النجم- 32] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إن تغفر اللهم تغفر جما ** وأي عبد لك لا ألما