فصل: تفسير الآيات (19- 21):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآيات (19- 21):

{وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19) وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21)}
{وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} قرأ أهل الكوفة، وأبو عمرو: {عباد الرحمن} بالباء والألف بعدها ورفع الدال كقوله تعالى: {بل عباد مكرمون} [الأنبياء- 26]، وقرأ الآخرون: {عند الرحمن} بالنون ونصب الدال على الظرف، وتصديقه قوله عز وجل: {إن الذين عند ربك} [الأعراف- 206] الآية، {أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ} قرأ أهل المدينة على ما لم يسم فاعله، ولين الهمزة الثانية بعد همزة الاستفهام، أي: أحضروا خلقهم، وقرأ الآخرون بفتح الشين أي أحضروا خلقهم حين خلقوا، وهذا كقوله: {أم خلقنا الملائكة إناثًا وهم شاهدون} [الصافات- 150]، {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ} على الملائكة أنهم بنات الله، {وَيُسْأَلُونَ} عنها.
قال الكلبي ومقاتل: لما قالوا هذا القول سألهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «ما يدريكم أنهم إناث؟» قالوا: سمعنا من آبائنا ونحن نشهد أنهم لم يكذبوا، فقال الله تعالى: {ستكتب شهادتهم ويسئلون}، عنها في الآخرة.
{وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} يعني الملائكة، قاله قتادة ومقاتل والكلبي، قال مجاهد: يعني الأوثان، وإنما لم يعجل عقوبتنا على عبادتنا إياها لرضاه منا بعبادتها. قال الله تعالى: {مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ} فيما يقولون {إِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ} ما هم إلا كاذبون في قولهم: إن الله تعالى رضي منا بعبادتها، وقيل: إن هم إلا يخرصون، في قولهم: إن الملائكة إناث وإنهم بنات الله.
{أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ} أي من قبل القرآن بأن يعبدوا غير الله، {فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ}.

.تفسير الآيات (22- 28):

{بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28)}
{بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} على دين وملة، قال مجاهد: على إمام {وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} جعلوا أنفسهم باتباع آبائهم مهتدين.
{وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا} أغنياؤها ورؤساؤها، {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} بهم.
{قُلْ} قرأ ابن عامر وحفص: {قال} على الخبر، وقرأ الآخرون {قل} على الأمر، {أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ} قرأ أبو جعفر: {جئناكم} على الجمع، والآخرون {جئتكم} على الواحد، {بِأَهْدَى} بدين أصوب، {مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ} قال الزجاج: قل لهم يا محمد: أتتبعون ما وجدتم عليه آباءكم وإن جئتكم بأهدى منه؟ فأبوا أن يقبلوا، و{قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ}.
{فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}.
قوله عز وجل: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ} أي بريء، ولا يثنى البراء ولا يجمع ولا يؤنث لأنه مصدر وضع موضع النعت. {مِمَّا تَعْبُدُونَ}. {إِلا الَّذِي فَطَرَنِي} خلقني {فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} يرشدني لدينه.
{وَجَعَلَهَا} يعني هذه الكلمة، {كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} قال مجاهد وقتادة: يعني كلمة التوحيد، وهي لا إله إلا الله كلمة باقية في عقبه في ذريته. قال قتادة: لا يزال في ذريته من يعبد الله ويوحده. وقال القرظي: يعني: وجعل وصية إبراهيم التي أوصى بها بنيه باقية في نسله وذريته، وهو قوله عز وجل: {ووصى بها إبراهيم بنيه} [البقرة- 132].
وقال ابن زيد: يعني قوله: {أسلمت لرب العالمين} [البقرة- 131]، وقرأ: {هو سماكم المسلمين} [الحج- 78].
{لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} لعل أهل مكة يتبعون هذا الدين ويرجعون عما هم عليه إلى دين إبراهيم. وقال السدي: لعلهم يتوبون ويرجعون إلى طاعة الله عز وجل.

.تفسير الآيات (29- 35):

{بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30) وَقَالُوا لَوْلا نزلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)}
{بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ} يعني: المشركين في الدنيا، ولم أعاجلهم بالعقوبة على الكفر، {حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ} يعني القرآن، وقال الضحاك: الإسلام. {وَرَسُولٌ مُبِينٌ} يبين لهم الأحكام وهو محمد صلى الله عليه وسلم، وكان من حق هذ الإنعام أن يطيعوه، فلم يفعلوا، وعصوا.
وهو قوله عز وجل: {وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ} يعني القرآن، {قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ}. {وَقَالُوا لَوْلا نزلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} يعنون الوليد بن المغيرة من مكة، وعروة بن مسعود الثقفي بالطائف، قاله قتادة.
وقال مجاهد: عتبة بن ربيعة من مكة، وابن عبد ياليل الثقفي من الطائف.
وقيل: الوليد بن المغيرة من مكة، ومن الطائف: حبيب بن عمرو بن عمير الثقفي. ويروى هذا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. قال الله تعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ} يعني النبوة، قال مقاتل يقول: بأيديهم مفاتيح الرسالة فيضعونها حيث شاؤوا؟ ثم قال: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} فجعلنا هذا غنيًا وهذا فقيرًا وهذا ملكًا وهذا مملوكًا، فكما فضلنا بعضهم على بعض في الرزق كما شئنا، كذلك اصطفينا بالرسالة من شئنا.
{وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} بالغنى والمال، {لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} ليستخدم بعضهم بعضًا فيسخر الأغنياء بأموالهم الأجراء الفقراء بالعمل، فيكون بعضهم لبعض سبب المعاش، هذا بماله، وهذا بأعماله، فيلتئم قوام أمر العالم. وقال قتادة والضحاك: يملك بعضهم بمالهم بعضًا بالعبودية والملك. {وَرَحْمَةُ رَبِّكَ} يعني الجنة، {خَيْرٌ} للمؤمنين، {مِمَّا يَجْمَعُونَ} مما يجمع الكفار من الأموال.
{وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} أي: لولا أن يصيروا كلهم كفارًا فيجتمعون على الكفر، {لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ} قرأ ابن كثير، وأبو جعفر، وأبو عمرو: {سقفا} بفتح السين وسكون القاف على الواحد، ومعناه الجمع، كقوله تعالى: {فخر عليهم السقف من فوقهم} [النحل- 26]، وقرأ الباقون بضم السين والقاف على الجمع، وهي جمع سقف مثل: رهن ورهن، قال أبو عبيدة: ولا ثالث لهما. وقيل: هو جمع سقيف. وقيل: جمع سقوف جمع الجمع. {وَمَعَارِجَ} مصاعد ودرجًا من فضة، {عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} يعلون ويرتقون، يقال: ظهرت على السطح إذا علوته.
{وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا} من فضة، {وَسُرُرًا} أي: وجعلنا لهم سررًا من فضة، {عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ}.
{وَزُخْرُفًا} أي وجعلنا مع ذلك لهم زخرفًا وهو الذهب، نظيره: {أو يكون لك بيت من زخرف} [الإسراء- 93]، {وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} قرأ حمزة وعاصم: {لما} بالتشديد على معنى: وما كل ذلك إلا متاع الحياة الدنيا فكان: {لما} بمعنى إلا وخففه الآخرون على معنى: وكل ذلك متاع الحياة الدنيا، فيكون: {إن} للابتداء، و{ما} صلة، يريد: إن هذا كله متاع الحياة الدنيا يزول ويذهب، {وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} خاصة يعني الجنة.
أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي، أخبرنا أبو العباس عبد الله بن محمد بن هارون الطيسفوني، أخبرنا أبو الحسن محمد بن أحمد الترابي، أخبرنا أبو بكر أحمد بن محمد بن عمر بن بسطام، أخبرنا أحمد بن سيار القرشي، حدثنا عبد الرحمن بن يونس أبو مسلم، حدثنا أبو بكر بن منظور، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرًا منها قطرة ماء».
أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة، أخبرنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن الحارث، أخبرنا محمد بن يعقوب الكسائي، أخبرنا عبد الله، أخبرنا محمد بن إبراهيم بن عبد الله الخلال، أخبرنا عبد الله بن المبارك، عن مجالد بن سعيد، عن قيس بن أبي حازم، عن المستورد ابن شداد أخي بني فهر قال: كنت في الركب الذين وقفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على السخلة الميتة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أترون هذه هانت على أهلها حين ألقوها»؟ قالوا: من هوانها ألقوها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فالدنيا أهون على الله من هذه على أهلها».

.تفسير الآيات (36- 37):

{وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37)}
قوله عز وجل: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ} أي يعرض عن ذكر الرحمن فلم يخف عقابه، ولم يرج ثوابه، يقال: عشوت إلى النار أعشو عشوًا، إذا قصدتها مهتديًا بها، وعشوت عنها: أعرضت عنها، كما يقول: عدلت إلى فلان، وعدلت عنه، وملت إليه، وملت عنه. قال القرظي: يولي ظهره عن ذكر الرحمن وهو القرآن. قال أبو عبيدة والأخفش: يظلم بصرف بصره عنه. قال الخليل بن أحمد: أصل العشو النظر ببصر ضعيف. وقرأ ابن عباس: {ومن يعش} بفتح الشين أي يعم، يقال عشى يعشى عشًا إذا عمي فهو أعشى، وامرأة عشواء. {نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا} قرأ يعقوب: {يقيض} بالياء، والباقون بالنون، نسبب له شيطانًا ونضمه إليه ونسلطه عليه. {فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} لا يفارقه، يزين له العمى ويخيل إليه أنه على الهدى.
{وَإِنَّهُمْ} يعني الشياطين، {لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ} أي ليمنعونهم عن الهدى وجمع الكناية لأن قوله: {ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانًا} في مذهبٍ جمعٌ وإن كان اللفظ على الواحد، {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} ويحسب كفار بني آدم أنهم على الهدى.

.تفسير الآيات (38- 41):

{حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (40) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41)}
{حَتَّى إِذَا جَاءَنَا} قرأ أهل العراق غير أبي بكر: {جاءنا} على الواحد يعنون الكافر، وقرأ الآخرون: جاءانا، على التثنية يعنون الكافر وقرينه، جعلا في سلسلة واحدة. {قَالَ} الكافر لقرينه الشيطان: {يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ} أي بعد ما بين المشرق والمغرب فغلب اسم أحدهما على الآخر كما يقال للشمس والقمر: القمران، ولأبي بكر وعمر: العمران. وقيل: أراد بالمشرقين مشرق الصيف ومشرق الشتاء، والأول أصح، {فَبِئْسَ الْقَرِينُ} قال أبو سعيد الخدري: إذا بعث الكافر زوج بقرينه من الشياطين فلا يفارقه حتى يصير إلى النار.
{وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ} في الآخرة، {إِذْ ظَلَمْتُمْ} أشركتم في الدنيا، {أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} يعني لا ينفعكم الاشتراك في العذاب ولا يخفف الاشتراك عنكم شيئًا من العذاب، لأن لكل واحد من الكفار والشياطين الحظ الأوفر من العذاب. وقال مقاتل: لن ينفعكم الاعتذار والندم اليوم فأنتم وقرناؤكم اليوم مشتركون في العذاب كما كنتم مشتركين في الدنيا في الكفر.
{أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} يعني الكافرين الذين حقت عليهم كلمة العذاب لا يؤمنون.
{فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ} بأن نميتك قبل أن نعذبهم، {فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ} بالقتل بعدك.
{أَوْ نُرِيَنَّكَ} في حياتك، {الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ} من العذاب، {فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ} قادرون، متى شئنا عذبناهم، وأراد به مشركي مكة انتقم منهم يوم بدر، هذا قول أكثر المفسرين، وقال الحسن وقتادة: عنى به أهل الإسلام من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وقد كان بعد النبي صلى الله عليه وسلم نقمة شديدة في أمته، فأكرم الله نبيه وذهب به ولم يره في أمته إلا الذي يقر عينه، وأبقى النقمة بعده. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم أري ما يصيب أمته بعده فما رئي ضاحكًا منبسطًا حتى قبضه الله.

.تفسير الآيات (42- 45):

{أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44) وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)}
{فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}.
{وَإِنَّهُ} يعني القرآن، {لَذِكْرٌ لَكَ} لشرف لك، {وَلِقَوْمِكَ} من قريش، نظيره: {لقد أنزلنا إليكم كتابًا فيه ذكركم} [الأنبياء- 10]، أي شرفكم، {وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} عن حقه وأداء شكره، روى الضحاك عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سئل لمن هذا الأمر بعدك؟ لم يخبر بشيء حتى نزلت هذه الآية، فكان بعد ذلك إذا سئل لمن هذا؟ قال: لقريش.
أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا عبد الرحمن بن شريح، أخبرنا أبو القاسم البغوي، حدثنا علي بن الجعد، أخبرنا عاصم بن محمد بن زيد، عن أبيه، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي اثنان».
أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب عن الزهري قال: كان محمد بن جبير بن مطعم يحدث عن معاوية قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلا كبه الله على وجهه ما أقاموا الدين».
وقال مجاهد: القوم هم العرب، فالقرآن لهم شرف إذ نزل بلغتهم، ثم يختص بذلك الشرف الأخص فالأخص من العرب، حتى يكون الأكثر لقريش ولبني هاشم.
وقيل: {لذكر لك}: شرف لك بما أعطاك من الحكمة، {ولقومك} المؤمنين بما هداهم الله به، {وسوف تسئلون} عن القرآن وعما يلزمكم من القيام بحقه.
قوله عز وجل: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} اختلفوا في هؤلاء المسئولين: قال عطاء عن ابن عباس: لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم بعث الله له آدم وولده من المرسلين، فَأَذَّنَ جبريل ثم أقام، وقال: يا محمد تقدم فصل بهم، فلما فرغ من الصلاة قال له جبريل: سل يا محمد {من أرسلنا قبلك من رسلنا}، الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا أسأل فقد اكتفيت»، وهذا قول الزهري وسعيد بن جبير وابن زيد، قالوا: جمع الله له المرسلين ليلة أسري به وأمره أن يسئلهم فلم يشك ولم يسأل.
وقال أكثر المفسرين: سل مؤمني أهل الكتاب الذين أرسلت إليهم الأنبياء هل جاءتهم الرسل إلا بالتوحيد؟ وهو قول ابن عباس في سائر الروايات، ومجاهد وقتادة والضحاك والسدي والحسن والمقاتليين. يدل عليه قراءة عبد الله وأبيّ: {واسئل الذين أرسلنا إليهم قبلك رسلنا}، ومعنى الأمر بالسؤال التقرير لمشركي قريش أنه لم يأت رسول ولا كتاب بعبادة غير الله عز وجل.