فصل: تفسير الآيات (46- 49):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآيات (46- 49):

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ (47) وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49)}
قوله عز وجل: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ} استهزاء.
{وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا} قرينتها وصاحبتها التي كانت قبلها، {وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ} بالسنين والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والطمس، فكانت هذه دلالات لموسى، وعذابًا لهم، فكانت كل واحدة أكبر من التي قبلها، {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} عن كفرهم.
{وَقَالُوا} لموسى لما عاينوا العذاب، {يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ} يا أيها العالم الكامل الحاذق، وإنما قالوا هذا توقيرًا وتعظيمًا له، لأن السحر عندهم كان علمًا عظيمًا وصفة ممدوحة، وقيل: معناه يا أيها الذي غلبنا بسحره. وقال الزجاج: خاطبوه به لما تقدم له عندهم من التسمية بالساحر. {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ} أي بما أخبرتنا من عهده إليك إن آمنا كشف عنا العذاب فاسأله يكشف عنا العذاب، {إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ} مؤمنون، فدعا موسى فكشف عنهم فلم يؤمنوا، فذلك قوله عز وجل:

.تفسير الآيات (50- 54):

{فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (50) وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54)}
{فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ} ينقضون عهدهم ويصرون على كفرهم.
{وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأنْهَارُ} أنهار النيل، {تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} من تحت قصوري، وقال قتادة: تجري بين يدي في جناني وبساتيني. وقال الحسن: بأمري. {أَفَلا تُبْصِرُونَ} عظمتي وشدة ملكي.
{أَمْ أَنَا خَيْرٌ} بل أنا خير، {أم} بمعنى بل، وليس بحرف عطف على قول أكثر المفسرين، وقال الفراء: الوقف على قوله: {أم}، وفيه إضمار، مجازه: أفلا تبصرون أم تبصرون، ثم ابتدأ فقال: أنا خير، {مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ} ضعيف حقير يعني موسى، قوله: {وَلا يَكَادُ يُبِينُ} يفصح بكلامه للثغته التي في لسانه.
{فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ} إن كان صادقًا، {أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ} قرأ حفص ويعقوب {أسورة} جمع سوار، وقرأ الآخرون {أساورة} على جمع الأسورة، وهي جمع الجمع. قال مجاهد: كانوا إذا سودوا رجلا سوروه بسوار وطوقوه بطوق من ذهب يكون ذلك دلالة لسيادته، فقال فرعون: هلا ألقى رب موسى عليه أسورة من ذهب إن كان سيدًا تجب علينا طاعته. {أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ} متتابعين يقارن بعضهم بعضًا يشهدون له بصدقه ويعينونه على أمره.
قال الله تعالى: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ} أي استخف فرعون قومه القبط، أي وجدهم جهالا. وقيل: حملهم على الخفة والجهل. يقال: استخفه عن رأيه، إذا حمله على الجهل وأزاله عن الصواب، {فَأَطَاعُوهُ} على تكذيب موسى، {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ}.

.تفسير الآيات (55- 58):

{فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلا لِلآخِرِينَ (56) وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58)}
{فَلَمَّا آسَفُونَا} أغضبونا، {انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ}. {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا} قرأ حمزة والكسائي {سلفا} بضم السين واللام، قال الفراء: هو جمع سليف من سلف بضم اللام يسلف، أي تقدم، وقرأ الآخرون بفتح السين واللام على جمع السالف، مثل: حارس وحرس وخادم وخدم، وراصد ورصد، وهما جميعًا الماضون المتقدمون من الأمم، يقال: سلف يسلف، إذا تقدم والسلف من تقدم من الآباء، فجعلناهم متقدمين ليتعظ بهم الآخرون. {وَمَثَلا لِلآخِرِينَ} عبرة وعظة لمن بقي بعدهم. وقيل: سلفًا لكفار هذه الأمة إلى النار ومثلا لمن يجيء بعدهم.
{وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلا} قال ابن عباس وأكثر المفسرين: إن الآية نزلت في مجادلة عبد الله بن الزبعري مع النبي صلى الله عليه وسلم في شأن عيسى عليه السلام، لما نزل قوله عز وجل: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم} [الأنبياء- 98]، وقد ذكرناه في سورة الأنبياء عليهم السلام. {إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} قرأ أهل المدينة والشام والكسائي: {يصدون} بضم الصاد، أي يعرضون، نظيره قوله تعالى: {يصدون عنك صدودًا} [النساء- 61] وقرأ الآخرون بكسر الصاد.
واختلفوا في معناه، قال الكسائي: هما لغتان مثل يعرُشون ويعرِشون، وشد عليه يَشُدُّ ويَشِد، ونمَّ بالحديث يَنُمُّ وَينِمُّ.
وقال ابن عباس: معناه يضجون. وقال سعيد بن المسيب: يصيحون. وقال الضحاك: يعجون. وقال قتادة: يجزعون. وقال القرظي: يضجرون. ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون يقولون ما يريد محمد منا إلا أن نعبده ونتخذه إلهًا كما عبدت النصارى عيسى.
{وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ} قال قتادة: {أم هو} يعنون محمدًا، فنعبده ونطيعه ونترك آلهتنا.
وقال السدي وابن زيد: {أم هو} يعني عيسى، قالوا: يزعم محمد أن كل ما عبد من دون الله في النار فنحن نرضى أن تكون آلهتنا مع عيسى وعزير والملائكة في النار، وقال الله تعالى: {مَا ضَرَبُوهُ} يعني هذا المثل، {لَكَ إِلا جَدَلا} خصومة بالباطل وقد علموا أن المراد من قوله: {وما تعبدون من دون الله حصب جهنم} [الأنبياء- 98]، هؤلاء الأصنام. {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ}.
أخبرنا أبو سعيد الشريحي، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي، أخبرنا أبو بكر عبد الرحمن بن عبد الله الحمشاوي، أخبرنا أحمد بن جعفر بن حمدان القطيعي، حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثني أبي، حدثنا عبد الله بن نمير، حدثنا حجاج بن دينار الواسطي، عن أبي غالب عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما ضلَّ قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أُوتوا الجدل»، ثم قرأ: {ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون}.

.تفسير الآيات (59- 61):

{إِنْ هُوَ إِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59) وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)}
ثم ذكر عيسى فقال: {إِنْ هُوَ} ما هو، يعني عيسى عليه السلام، {إِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} بالنبوة، {وَجَعَلْنَاهُ مَثَلا} آية وعبرة، {لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} يعرفون به قدرة الله عز وجل على ما يشاء حيث خلقه من غير أب.
{وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً} أي ولو نشاء لأهلكناكم وجعلنا بدلا منكم ملائكة، {فِي الأرْضِ يَخْلُفُونَ} يكونون خلفًا منكم يعمرون الأرض ويعبدونني ويطيعونني. وقيل: يخلف بعضهم بعضًا.
{وَإِنَّهُ} يعني عيسى عليه السلام، {لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} يعني نزوله من أشراط الساعة يعلم به قربها، وقرأ ابن عباس وأبو هريرة وقتادة: {وإنه لعلم للساعة} بفتح اللام والعين أي أمارة وعلامة.
وروينا عن النبي صلى الله عليه وسلم: «ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكمًا عادلا يكسر الصليب، ويقتل الخنزير ويضع الجزية، وتهلك في زمانه الملل كلها إلا الإسلام».
ويروى: «أنه ينزل على ثنية بالأرض المقدسة، وعليه ممصرتان، وشعر رأسه دهين، وبيده حربة وهي التي يقتل بها الدجال، فيأتي بيت المقدس والناس في صلاة العصر، فيتأخر الإمام فيقدمه عيسى ويصلي خلفه على شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، ثم يقتل الخنازير ويكسر الصليب، ويخرب البيع والكنائس، ويقتل النصارى إلا من آمن به».
أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا ابن بكير، حدثنا الليث، عن يونس، عن ابن شهاب، عن نافع مولى أبي قتادة الأنصاري أن أبا هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم»؟ وقال الحسن وجماعة: {وإنه} يعني وإن القرآن لعلم للساعة يعلمكم قيامها، ويخبركم بأحوالها وأهوالها، {فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا} فلا تشكن فيها، قال ابن عباس: لا تكذبوا بها، {وَاتَّبِعُونِ} على التوحيد، {هَذَا} الذي أنا عليه، {صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ}.

.تفسير الآيات (62- 66):

{وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62) وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلأبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ الأحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (66)}
{وَلا يَصُدَّنَّكُمُ} لا يصرفنكم، {الشَّيْطَانُ} عن دين الله، {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}.
{وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ} بالنبوة، {وَلأبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ} من أحكام التوراة، قال قتادة: يعني اختلاف الفرق الذين تحزبوا على أمر عيسى. قال الزجاج: الذي جاء به عيسى في الإنجيل إنما هو بعض الذي اختلفوا فيه، وَبَيَّن لهم في غير الإنجيل ما احتاجوا إليه. {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ}.
{إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ فَاخْتَلَفَ الأحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ} يعني أنها تأتيهم لا محالة فكأنهم ينتظرونها، {أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً} فجأة، {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}.

.تفسير الآيات (67- 71):

{الأخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ (67) يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنْفُسُ وَتَلَذُّ الأعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71)}
{الأخِلاءُ} على المعصية في الدنيا، {يَوْمَئِذٍ} يوم القيامة، {بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ} إلا المتحابين في الله عز وجل على طاعة الله عز وجل.
أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي، أخبرنا أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي، أخبرني عقيل بن محمد بن أحمد، أن أبا الفرج البغدادي القاضي أخبرهم عن محمد بن جرير، حدثنا ابن عبد الأعلى، عن قتادة، حدثنا أبو ثور عن معمر عن قتادة عن أبي إسحاق أن عليًا قال في هذه الآية: خليلان مؤمنان وخليلان كافران، فمات أحد المؤمنين فقال: يا رب إن فلانًا كان يأمرني بطاعتك وطاعة رسولك، ويأمرني بالخير وينهاني عن الشر، ويخبرني أني ملاقيك، يا رب فلا تضله بعدي واهده كما هديتني وأكرمه كما أكرمتني، فإذا مات خليله المؤمن جمع بينهما، فيقول: ليثن أحدكما على صاحبه، فيقول: نعم الأخ، ونعم الخليل، ونعم الصاحب، قال: ويموت أحد الكافرين، فيقول: يا رب إن فلانًا كان ينهاني عن طاعتك وطاعة رسولك، ويأمرني بالشر وينهاني عن الخير، ويخبرني أني غير ملاقيك، فيقول بئس الأخ، وبئس الخليل، وبئس الصاحب.
{يَا عِبَادِ} أي فيقال لهم: يا عبادي، {لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} وروي عن المعتمر بن سليمان عن أبيه قال: سمعت أن الناس حين يبعثون ليس منهم أحد إلا فزع، فينادي مناد: {يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون} فيرجوها الناس كلهم فيتبعها: {الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ} فييأس الناس منها غير المسلمين فيقال لهم: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ} تسرون وتنعمون.
{يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ} جمع صحفة وهي القصعة الواسعة، {مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ} جمع كوب وهو إناء مستدير مدور الرأس لا عرى لها، {وَفِيهَا} أي في الجنة، {مَا تَشْتَهِيهِ الأنْفُسُ} قرأ أهل المدينة والشام وحفص: {تشتهيه}، وكذلك في مصاحفهم، وقرأ الآخرون بحذف الهاء. {وَتَلَذُّ الأعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.
أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة، أخبرنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن الحارث، أخبرنا محمد بن يعقوب الكسائي، أخبرنا عبد الله بن محمود، أخبرنا إبراهيم بن عبد الله الخلال، حدثنا عبد الله بن المبارك، عن سفيان، عن علقمة بن مرثد، عن عبد الرحمن بن سابط قال: قال رجل: يا رسول الله أفي الجنة خيل؟ فإني أحب الخيل، فقال: «إن يدخلك الله الجنة لا تشاء أن تركب فرسًا من ياقوتة حمراء فتطير بك في أي الجنة شئت، إلا فعلت»، فقال أعرابي: يا رسول الله أفي الجنة إبل؟ فقال: «يا أعرابي إن يدخلك الله الجنة أصبت فيها ما اشتهت نفسك ولذت عينك».

.تفسير الآيات (72- 77):

{وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (73) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77)}
{وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ} وفي الحديث: «لا ينزع رجل من الجنة من ثمرة إلا نبت مكانها مثلاها».
{إِنَّ الْمُجْرِمِينَ} المشركين، {فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ وَنَادَوْا يَامَالِكُ}. يدعون خازن النار، {لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} ليمتنا ربك فنستريح فيجيبهم مالك بعد ألف سنة، {قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} مقيمون في العذاب.
أخبرنا محمد بن عبد الله بن أبي توبة، أخبرنا محمد بن أحمد بن الحارث، أخبرنا محمد بن يعقوب الكسائي، أخبرنا عبد الله بن محمود، أخبرنا إبراهيم بن عبد الله الخلال، حدثنا عبد الله بن المبارك، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة يذكره عن أبي أيوب، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن أهل النار يدعون مالكًا فلا يجيبهم أربعين عاما، ثم يرد عليهم إنكم ماكثون، قال: هانت- والله- دعوتهم على مالك وعلى رب مالك، ثم يدعون ربهم فيقولون: {ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قومًا ضالين ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون}، قال: فيسكت عنهم قدر الدنيا مرتين، ثم يرد عليهم: {اخسؤوا فيها ولا تكلمون}، قال: فوالله ما نبس القوم بعدها بكلمة، وما هو إلا الزفير والشهيق في نار جهنم»، فشبه أصواتهم بأصوات الحمير، أولها زفير وآخرها شهيق.