فصل: سورة الأحقاف:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.سورة الأحقاف:

مكية.

.تفسير الآيات (1- 5):

{حم (1) تَنزيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5)}
{حم (1) تَنزيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5)}.
{حم تَنزيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ مَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى}، يعني يوم القيامة، وهو الأجل الذي تنتهي إليه السموات والأرض، وهو إشارة إلى فنائهما، {وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا} خوفوا به في القرآن من البعث والحساب، {مُعْرِضُونَ}.
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا} أي بكتاب جاءكم من الله قبل القرآن فيه بيان ما تقولون، {أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} قال الكلبي: أي بقية من علم يؤثر عن الأولين، أي يسند إليهم. قال مجاهد وعكرمة ومقاتل: رواية عن الأنبياء. وقال قتادة: خاصة من علم. وأصل الكلمة من الأثر وهو الرواية، يقال: أثرت الحديث أثرًا وأثارة، ومنه قيل للخبر: أثر. {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}.
{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ} يعني الأصنام لا تجيب عابديها إلى شيء يسألونها، {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} أبدًا ما دامت الدنيا، {وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} لأنها جماد لا تسمع ولا تفهم.

.تفسير الآيات (6- 9):

{وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9)}
{وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} جاحدين، بيانه قوله: {تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون} [القصص- 63].
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} يسمون القرآن سحرًا.
{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} محمد من قبل نفسه، فقال الله عز وجل: {قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} لا تقدرون أن تردوا عني عذابه إن عذبني على افترائي، فكيف أفتري على الله من أجلكم، {هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ} تخوضون فيه من التكذيب بالقرآن والقول فيه إنه سحر. {كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} أن القرآن جاء من عنده، {وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} في تأخير العذاب عنكم، قال الزجاج: هذا دعاء لهم إلى التوبة، معناه: إن الله عز وجل غفور لمن تاب منكم رحيم به.
{قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} أي بديعًا، مثل: نصف ونصيف، وجمع البدع أبداع، لست بأول مرسل، قد بعث قبلي كثير من الأنبياء، فكيف تنكرون نبوتي. {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ} اختلف العلماء في معنى هذه الآية:
فقال بعضهم: معناه ما أدري ما يفعل بي ولا بكم يوم القيامة، فلما نزلت هذه الآية فرح المشركون، فقالوا: واللات والعزى ما أمرنا وأمر محمد عند الله إلا واحد، وما له علينا من مزية وفضل، ولولا أنه ابتدع ما يقوله من ذات نفسه لأخبره الذي بعثه بما يفعل به، فأنزل الله: {ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر} [الفتح- 2] فقالت الصحابة: هنيئًا لك يا نبي الله قد علمنا ما يفعل بك، فماذا يفعل بنا؟ فأنزل الله تعالى: {ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات} الآية، [الفتح- 5] وأنزل: {وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرًا} [الأحزاب- 47] فبين الله تعالى ما يفعل به وبهم. وهذا قول أنس وقتادة والحسن وعكرمة، قالوا: إنما قال هذا قبل أن يخبر بغفران ذنبه وإنما أخبر بغفران ذنبه عام الحديبية، فنسخ ذلك.
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي، أخبرنا أبو الحسين علي بن محمد بن عبد الله بن بشران، أخبرنا إسماعيل بن محمد الصفار، حدثنا أحمد بن منصور الرمادي، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن الزهري، عن خارجة بن زيد قال: كانت أم العلاء الأنصارية تقول: لما قدم المهاجرون المدينة اقترعت الأنصار على سكنتهم، قالت فطار لنا عثمان بن مظعون في السكنى، فمرض فمرضناه، ثم توفي فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل فقلت: رحمة الله عليك أبا السائب فشهادتي قد أكرمك الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «وما يدريك أن الله قد أكرمه؟» فقلت: لا والله لا أدري، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أما هو فقد أتاه اليقين من ربه وإني لأرجو له الخير والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي ولا بكم» قالت: فوالله لا أزكي بعده أحدًا أبدًا، قالت: ثم رأيت لعثمان بعد في النوم عينًا تجري فقصصتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «ذاك عمله».
وقال جماعة: قوله: {وما أدري ما يفعل بي ولا بكم} في الدنيا، أما في الآخرة فقد علم أنه في الجنة، وأن من كذبه فهو في النار، ثم اختلفوا فيه: قال ابن عباس رضي الله عنهما: لما اشتد البلاء بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرى النائم وهو بمكة أرضا ذات سباخ ونخل رفعت له، يهاجر إليها، فقال له أصحابه متى تهاجر إلى الأرض التي أريت؟ فسكت، فأنزل الله تعالى هذه الآية: {وما أدري ما يفعل بي ولا بكم}، أأترك في مكاني أم أخرج وإياكم إلى الأرض التي رفعت لي؟.
وقال بعضهم: {وما أدري ما يفعل بي ولا بكم} إلى ماذا يصير أمري وأمركم في الدنيا، بأن أقيم معكم في مكانكم أم أخرج كما أخرجت الأنبياء من قبلي، أم أقتل كما قتل الأنبياء، من قبلي وأنتم أيها المصدقون لا أدري تخرجون معي أم تتركون، أم ماذا يفعل بكم، وأنتم أيها المكذبون، أترمون بالحجارة من السماء أم يخسف بكم، أم أي شيء يفعل بكم، مما فعل بالأمم المكذبة؟.
ثم أخبر الله عز وجل أنه يظهر دينه على الأديان، فقال: {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله} [الصف- 9] وقال في أمته: {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} [الأنفال- 33]، فأخبر الله ما يصنع به وبأمته، هذا قول السدي.
{إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ} أي ما أتبع إلا القرآن، ولا أبتدع من عندي شيئًا، {وَمَا أَنَا إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ}.

.تفسير الآية رقم (10):

{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10)}
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ} معناه: أخبروني ماذا تقولون، {إِنْ كَانَ} يعني القرآن، {مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ} أيها المشركون، {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ} المثل: صلة، يعني: عليه، أي على أنه من عند الله {فَآمَنَ} يعني الشاهد، {وَاسْتَكْبَرْتُمْ} عن الإيمان به، وجواب قوله: {إن كان من عند الله} محذوف، على تقدير: أليس قد ظلمتم؟ يدل على هذا المحذوف قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} وقال الحسن: جوابه: فمن أضل منكم، كما قال في سورة السجدة.
واختلفوا في هذا الشاهد، قال قتادة والضحاك: هو عبد الله بن سلام، شهد على نبوة المصطفى صلى الله عليه وسلم وآمن به، واستكبر اليهود فلم يؤمنوا.
أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا عبد الله بن منير سمع عبد الله بن بكير، حدثنا حميد، عن أنس قال: «سمع عبد الله بن سلام بمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في أرض يخترف فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي: فما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام أهل الجنة؟ وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه؟ قال: أخبرني بهن جبريل آنفًا، قال: جبريل؟ قال: نعم، قال: ذاك عدو اليهود من الملائكة، فقرأ هذه الآية: {قل من كان عدوًا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله} [البقرة- 97]، فأما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت، وإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد، وإذا سبق ماء المرأة نزعت، قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، يا رسول الله إن اليهود قوم بهت، وإنهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم يبهتوني، فجاءت اليهود فقال: أي رجل عبد الله فيكم؟ قالوا خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا، قال: أرأيتم إن أسلم عبد الله بن سلام؟ قالوا: أعاذه الله من ذلك، فخرج عبد الله، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فقالوا: شرنا وابن شرنا، فانتقصوه، قال: هذا الذي كنت أخاف يا رسول الله».
أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا عبد الله بن يوسف قال: سمعت مالكًا يحدث عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه قال: ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأحد يمشي على وجه الأرض إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام، وفيه نزلت هذه الآية: {وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله}. قال: لا أدري قال مالك الآية أو في الحديث.
وقال الآخرون: الشاهد هو موسى بن عمران.
وقال الشعبي: قال مسروق في هذه الآية: والله ما نزلت في عبد الله بن سلام لأن ال حم نزلت بمكة، وإنما أسلم عبد الله بن سلام بالمدينة، ونزلت هذه الآية في محاجة كانت من رسول الله صلى الله عليه وسلم لقومه، ومثل القرآن التوراة فشهد موسى على التوراة ومحمد صلى الله عليه وسلم على الفرقان، وكل واحد يصدق الآخر.
وقيل: هو نبي من بني إسرائيل فآمن واستكبرتم فلم تؤمنوا {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}.

.تفسير الآيات (11- 14):

{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (12) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14)}
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} من اليهود، {لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ} دين محمد صلى الله عليه وسلم {خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} يعني عبد الله بن سلام وأصحابه.
وقال قتادة: نزلت في مشركي مكة، قالوا: لو كان ما يدعونا إليه محمد خيرا ما سبقنا إليه فلان وفلان.
وقال الكلبي: الذين كفروا: أسد وغطفان، قالوا للذين آمنوا يعني: جهينة ومزينة: لو كان ما جاء به محمد خيرًا ما سبقنا إليه رعاء البهم.
قال الله تعالى: {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ} يعني بالقرآن كما اهتدى به أهل الإيمان {فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ} كما قالوا أساطير الأولين.
{وَمِنْ قَبْلِهِ} أي ومن قبل القرآن، {كِتَابُ مُوسَى} يعني التوراة، {إِمَامًا} يقتدى به، {وَرَحْمَةً} من الله لمن آمن به، ونُصِبَا على الحال عن الكسائي، وقال أبو عبيدة: فيه إضمار، أي جعلناه إمامًا ورحمة، وفي الكلام محذوف، تقديره: وتقدمه كتاب موسى إمامًا ولم يهتدوا به، كما قال في الآية الأولى: {وإذ لم يهتدوا به}.
{وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ} أي القرآن مصدق للكتب التي قبله، {لِسَانًا عَرَبِيًّا} نصب على الحال، وقيل بلسان عربي، {لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا} يعني مشركي مكة، قرأ أهل الحجاز والشام ويعقوب: {لتنذر} بالتاء على خطاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقرأ الآخرون بالياء يعني الكتاب، {وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ} {وبشرى} في محل الرفع، أي هذا كتاب مصدق وبشرى.
{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.

.تفسير الآيات (15- 17):

{وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16) وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ (17)}
قوله عز وجل: {وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} قرأ أهل الكوفة: {إحسانا} كقوله تعالى: {وبالوالدين إحسانا} [البقرة- 83] {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا} يريد شدة الطلق. قرأ أهل الحجاز وأبو عمرو {كرها} بفتح الكاف فيهما، وقرأ الآخرون بضمهما. {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ} فطامه، وقرأ يعقوب: {وفصله} بغير ألف، {ثَلاثُونَ شَهْرًا} يريد أقل مدة الحمل، وهي ستة أشهر، وأكثر مدة الرضاع أربعة وعشرون شهرًا.
وروى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه قال: إذا حملت المرأة تسعة أشهر أرضعت إحدى وعشرين شهرا، وإذا حملت ستة أشهر أرضعت أربعة وعشرين شهرًا {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ} نهاية قوته، وغاية شبابه واستوائه، وهو ما بين ثماني عشرة سنة إلى أربعين سنة، فذلك قوله: {وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً}.
وقال السدي والضحاك: نزلت في سعد بن أبي وقاص، وقد مضت القصة.
وقال الآخرون: نزلت في أبي بكر الصديق وأبيه أبي قحافة عثمان بن عمرو، وأمه أم الخير بنت صخر بن عمرو.
قال علي بن أبي طالب: الآية نزلت في أبي بكر، أسلم أبواه جميعًا، ولم يجتمع لأحد من المهاجرين أبواه غيره، أوصاه الله بهما، ولزم ذلك من بعده.
وكان أبو بكر صحب النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثماني عشرة سنة، والنبي صلى الله عليه وسلم ابن عشرين سنة، في تجارة إلى الشام، فلما بلغ أربعين سنة ونبيء النبي صلى الله عليه وسلم آمن به ودعا ربه فـ {قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي} ألهمني، {أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ} بالهداية والإيمان، {وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ} قال ابن عباس: وأجابه الله عز وجل، فأعتق تسعة من المؤمنين يعذبون في الله ولم يرد شيئًا من الخير إلا أعانه الله عليه، ودعا أيضًا فقال: {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي} فأجابه الله، فلم يكن له ولد إلا آمنوا جميعًا، فاجتمع له إسلام أبويه وأولاده جميعًا، فأدرك أبو قحافة النبي صلى الله عليه وسلم، وابنه أبو بكر وابنه عبد الرحمن بن أبي بكر وابن عبد الرحمن أبو عتيق كلهم أدركوا النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن ذلك لأحد من الصحابة. قوله: {إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}.
{أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا} يعني أعمالهم الصالحة التي عملوها في الدنيا، وكلها حسن، والأحسن بمعنى الحسن، فيثيبهم عليها، {وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ} فلا نعاقبهم عليها، قرأ حمزة والكسائي وحفص {نتقبل} {ونتجاوز} بالنون، {أحسنَ} نصب، وقرأ الآخرون بالياء، وضمها {أحسنُ} رفع. {فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ} مع أصحاب الجنة، {وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} وهو قوله عز وجل: {وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار} [التوبة- 72].
{وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ} إذ دعواه إلى الإيمان بالله والإقرار بالبعث، {أُفٍّ لَكُمَا} وهي كلمة كراهية، {أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ} من قبري حيًا، {وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي} فلم يبعث منهم أحد، {وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ} يستصرخان ويستغيثان الله عليه، ويقولان له: {وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا} ما هذا الذي تدعواني إليه، {إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ} قال ابن عباس والسدي، ومجاهد: نزلت في عبد الله.
وقيل: في عبد الرحمن بن أبي بكر قبل إسلامه، كان أبواه يدعوانه إلى الإسلام وهو يأبى، ويقول: أحيوا لي عبد الله بن جدعان وعامر بن كعب ومشايخ قريش حتى أسألهم عما تقولون.
وأنكرت عائشة رضي الله عنها أن يكون هذا في عبد الرحمن بن أبي بكر.
والصحيح أنها نزلت في كافر عاق لوالديه، قاله الحسن وقتادة.
وقال الزجاج: قول من قال إنها نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر قبل إسلامه، يبطله قوله: