فصل: تفسير الآيات (18 – 19):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآيات (18 – 19):

{أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (19)}
{أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} الآية، أعلم الله تعالى أن هؤلاء قد حقت عليهم كلمة العذاب، وعبد الرحمن مؤمن من أفاضل المسلمين فلا يكون ممن حقت عليه كلمة العذاب.
ومعنى {أولئك الذين حق عليهم القول}: وجب عليهم العذاب، {فِي أُمَمٍ} مع أمم {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ}.
{وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} قال ابن عباس رضي الله عنهما: يريد من سبق إلى الإسلام، فهو أفضل ممن تخلف عنه ولو بساعة. وقال مقاتل: ولكلٍّ فضائلُ بأعمالهم فيوفيهم الله جزاء أعمالهم.
وقيل: {ولكل}: يعني ولكل واحد من الفريقين المؤمنين والكافرين {درجات} منازل ومراتب عند الله يوم القيامة بأعمالهم، فيجازيهم عليها.
قال ابن زيد في هذه الآية: درج أهل النار تذهب سفلا ودرج أهل الجنة تذهب علوًا.
{وَلِيُوَفِّيَهُمْ} قرأ ابن كثير، وأهل البصرة، وعاصم: بالياء، وقرأ الباقون بالنون. {أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ}.

.تفسير الآية رقم (20):

{وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)}
{وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ} فيقال لهم: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} قرأ ابن كثير، وابن عامر، وأبو جعفر، ويعقوب: {أأذهبتم}، بالاستفهام ويهمز ابن عامر همزتين، والآخرون بلا استفهام على الخبر، وكلاهما فصيحان، لأن العرب تستفهم بالتوبيخ، وترك الاستفهام فتقول: أذهبت ففعلت كذا؟ {وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} يقول: أذهبتم طيباتكم يعني اللذات وتمتعتم بها؟ {فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} أي العذاب الذي فيه ذل وخزي، {بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ} تتكبرون {فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ} فلما وبخ الله الكافرين بالتمتع بالطيبات في الدنيا آثر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والصالحون اجتناب اللذات في الدنيا رجاء ثواب الآخرة.
وروينا عن عمر قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو مضطجع على رمال حصير قد أثر الرمال بجنبه، فقلت: يا رسول الله ادع الله فليوسع على أمتك فإن فارس والروم قد وسع عليهم وهم لا يعبدون الله، فقال: «أولئك قوم عجلوا طيباتهم في الحياة الدنيا».
أخبرنا أبو محمد عبد الله بن عبد الصمد الجوزجاني، أخبرنا أبو القاسم علي بن أحمد الخزاعي، أخبرنا أبو سعيد الهيثم بن كليب، حدثنا أبو عيسى الترمذي، ثنا محمد بن المثنى ومحمد بن بشار قالا حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن أبي إسحاق قال: سمعت عبد الرحمن بن يزيد يحدث، عن الأسود بن يزيد عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم من خبز الشعير يومين متتابعين حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي، أخبرنا أبو الحسين بن بشران، أخبرنا إسماعيل بن محمد الصفار، حدثنا أحمد بن المنصور الرمادي، حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: لقد كان يأتي علينا الشهر ما نوقد فيه نارًا وما هو إلا الماء والتمر، غير أن جزى الله نساءً من الأنصار خيرًا، كن ربما أهدين لنا شيئًا من اللبن.
أخبرنا عبد الله بن عبد الصمد الجوزجاني، أخبرنا أبو القاسم الخزاعي، أخبرنا الهيثم بن كليب، حدثنا أبو عيسى الترمذي، حدثنا عبد الله بن معاوية الجمحي، حدثنا ثابت بن يزيد، عن هلال بن خباب عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبيت الليالي المتتابعة طاويًا، وأهله لا يجدون عشاءً، وكان أكثر خبزهم خبز الشعير.
أخبرنا عبد الله بن عبد الصمد الجوزجاني، أخبرنا أبو القاسم الخزاعي، أخبرنا الهيثم بن كليب، حدثنا أبو عيسى، حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن، حدثنا روح بن أسلم، حدثنا أبو حاتم البصري، حدثنا حماد بن سلمة، أخبرنا ثابت، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد أخفت في الله وما يخاف أحد، ولقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد، ولقد أتت علي ثلاثون من بين ليلة ويوم ومالي ولبلال طعام يأكله ذو كبد إلا شيء يواريه إبط بلال».
أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا يوسف بن عيسى، حدثنا ابن فضيل، عن أبيه، عن أبي حازم، عن أبي هريرة أنه قال: لقد رأيت سبعين من أصحاب الصُّفَّة ما منهم رجل عليه رداء، إما إزار وإما كساء، قد ربطوا في أعناقهم، فمنها ما يبلغ نصف الساقين، ومنها ما يبلغ الكعبين فيجمعه بيده كراهية أن ترى عورته.
أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة الكشميهني، حدثنا أبو طاهر محمد بن الحارث، حدثنا أبو الحسن محمد بن يعقوب الكسائي، أخبرنا عبد الله بن محمود، أخبرنا إبراهيم بن عبد الله الخلال، حدثنا عبد الله بن مبارك، عن شعبة بن الحجاج، عن سعد بن إبراهيم، عن أبيه إبراهيم أن عبدالرحمن بن عوف أتي بطعام وكان صائمًا، فقال: قتل مصعب بن عمير وهو خير مني فكفن في بردة إن غطي بها رأسه بدت رجلاه، وإن غطي بها رجلاه بدا رأسه، قال: وأراه قال: وقتل حمزة وهو خير مني، فلم يوجد ما يكفن فيه إلا بردة، ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط، أو قال أعطينا من الدنيا ما أعطينا وقد خشينا أن تكون حسناتنا عجلت لنا، ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام.
وقال جابر بن عبد الله: رأى عمر بن الخطاب لحمًا معلقًا في يدي، فقال: ما هذا يا جابر؟ قلت: اشتهيت لحمًا فاشتريته، فقال عمر: أو كلما اشتهيت شيئًا يا جابر اشتريت، أما تخاف هذه الآية: {أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا}.

.تفسير الآيات (21- 22):

{وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22)}
قوله عز وجل: {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ} يعني هودًا عليه السلام، {إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأحْقَافِ} قال ابن عباس: الأحقاف: واد بين عمان ومهرة.
وقال مقاتل: كانت منازل عاد باليمن في حضرموت بموضع يقال له: مهرة وإليها تنسب الإبل المهرية، وكانوا أهل عمد سيارة في الربيع فإذا هاج العود رجعوا إلى منازلهم، وكانوا من قبيلة إرم.
قال قتادة: ذكر لنا أن عادًا كانوا أحياء باليمن، وكانوا أهل رمل مشرفين على البحر بأرض يقال لها: الشحر. والأحقاف جمع حقف، وهي المستطيل المعوج من الرمال. قال ابن زيد: هي ما استطال من الرمل كهيئة الجبل ولم يبلغ أن يكون جبلا قال الكسائي: هي ما استدار من الرمل.
{وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ} مضت الرسل، {مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ} أي من قبل هود، {وَمِنْ خَلْفِهِ} إلى قومهم، {أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}.
{قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا} لتصرفنا {عَنْ آلِهَتِنَا} أي عن عبادتها، {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} من العذاب {إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} أن العذاب نازل بنا.

.تفسير الآيات (23- 25):

{قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25)}
{قَالَ} هود، {إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ} وهو يعلم متى يأتيكم العذاب {وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ} من الوحي، {وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ}.
{فَلَمَّا رَأَوْهُ} يعني ما يوعدون به من العذاب، {عَارِضًا} سحابًا يعرض أي يبدو في ناحية من السماء ثم يطبق السماء، {مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ} فخرجت عليهم سحابة سوداء من واد لهم يقال له: المغيث وكانوا قد حبس عنهم المطر، فلما رأوها استبشروا، {قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} يقول الله تعالى: {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} فجعلت الريح تحمل الفسطاط وتحمل الظعينة حتى ترى كأنها جرادة.
{تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} مرت به من رجال عاد وأموالها، {بِأَمْرِ رَبِّهَا} فأول ما عرفوا أنها عذاب رأوا ما كان خارجًا من ديارهم من الرجال والمواشي تطير بهم الريح بين السماء والأرض، فدخلوا بيوتهم وأغلقوا أبوابهم فجاءت الريح فقلعت أبوابهم وصرعتهم، وأمر الله الريح فأمالت عليهم الرمال، فكانوا تحت الرمل سبع ليال وثمانية أيام، لهم أنين، ثم أمر الله الريح فكشفت عنهم الرمال فاحتملتهم فرمت بهم في البحر.
أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي، أخبرنا أبو نعيم عبد الملك بن الحسن الإسفراييني، أخبرنا أبو عوانة يعقوب بن إسحاق الحافظ، أخبرنا يونس، أخبرنا ابن وهب، أخبرنا عمرو بن الحارث، أخبرنا النضر. حدثه عن سليمان بن يسار، عن عائشة أنها قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجمعًا ضاحكًا حتى أرى منه بياض لهواته، وكان إذا رأى غيمًا أو ريحًا عُرف ذلك في وجهه، فقلت: يا رسول الله إن الناس إذا رأوا الغيم فرحوا، رجاء أن يكون فيه المطر، وإذا رأيته عرف في وجهك الكراهية، فقال: يا عائشة ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب، قد عذب قوم بالريح، وقد رأى قوم العذاب فقالوا: {هذا عارض ممطرنا}، الآية.
{فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلا مَسَاكِنُهُمْ} قرأ عاصم، وحمزة، ويعقوب: {يرى} بضم الياء {مساكنهم} برفع النون يعني: لا يرى شيء إلا مساكنهم، وقرأ الآخرون بالتاء وفتحها، {مساكنهم} نصب يعني لا ترى أنت يا محمد إلا مساكنهم لأن السكان والأنعام بادت بالريح، فلم يبق إلا هود ومن آمن معه. {كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ}.

.تفسير الآيات (26- 28):

{وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28)}
{وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ} يعني فيما لم نمكنكم فيه من قوة الأبدان وطول العمر وكثرة المال.
قال المبرد: ما في قوله: {فيما} بمنزلة الذي، و{إن} بمنزلة ما، وتقديره: ولقد مكناهم في الذي ما مكناكم فيه. {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}.
{وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ} يا أهل مكة، {مِنَ الْقُرَى} كحجر ثمود وأرض سدوم ونحوهما، {وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ} الحجج والبينات، {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} عن كفرهم فلم يرجعوا، فأهلكناهم، يخوف مشركي مكة.
{فَلَوْلا} فهلا {نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً} يعني الأوثان، اتخذوها آلهة يتقربون بها إلى الله عز وجل، القربان: كل ما يتقرب به إلى الله عز وجل، وجمعه: قرابين، كالرهبان والرهابين.
{بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ} قال مقاتل: بل ضلت الآلهة عنهم فلم تنفعهم عند نزول العذاب بهم، {وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ} أي كذبهم الذي كانوا يقولون إنها تقربهم إلى الله عز وجل وتشفع لهم، {وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} يكذبون أنها آلهة.
قوله عز وجل: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29)}.
{وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} الآية، قال المفسرون: لما مات أبو طالب خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده إلى الطائف يلتمس من ثقيف النصر والمنعة له من قومه، فروى محمد بن إسحاق عن يزيد بن زياد، عن محمد بن كعب القرظي قال: لما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف إلى نفر من ثقيف، وهم يومئذ سادة ثقيف وأشرافهم، وهم إخوة ثلاثة: عبد ياليل، ومسعود، وحبيب بنو عمرو بن عمير، وعند أحدهم امرأة من قريش من بني جمح، فجلس إليهم فدعاهم إلى الله وكلمهم بما جاءهم له من نصرته على الإسلام، والقيام معه على من خالفه من قومه.
فقال له أحدهم: هو يمرط ثياب الكعبة، إن كان الله أرسلك، وقال الآخر: ما وجد الله أحدًا يرسله غيرك؟ وقال الثالث: والله ما أكلمك كلمة أبدًا، لئن كنت رسولا من الله كما تقول لأنت أعظم خطرًا من أن أرد عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله فما ينبغي لي أن أكلمك.
فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندهم، وقد يئس من خير ثقيف، وقال لهم: إذ فعلتم ما فعلتم فاكتموا عليّ سري، وكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبلغ قومه فيزيدهم عليه ذلك، فلم يفعلوا، وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به حتى اجتمع عليه الناس، وألجأوه إلى حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة، وهما فيه فرجع عنه سفهاء ثقيف ومن كان تبعه، فعمد إلى ظل حبلة من عنب، فجلس فيه، وابنا ربيعة ينظران إليه، ويريان ما لقي من سفهاء ثقيف، ولقد لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك المرأة التي من بني جمح، فقال لها: ماذا لقينا من أحمائك؟ فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، أنت أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني أو إلى عدو ملكته أمري؟، إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن ينزل بي غضبك أو يحل عليّ سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك».
فلما رأى ابنا ربيعة ما لقي تحركت له رحمهما فدعوا غلامًا لهما نصرانيًا يقال له: عداس، فقالا له: خذ قطفًا من العنب وضعه في ذلك الطبق ثم اذهب به إلى ذلك الرجل، فقل له يأكل منه، ففعل ذلك عداس، ثم أقبل به حتى وضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده قال: بسم الله، ثم أكل فنظر عداس إلى وجهه ثم قال: والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلدة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أي البلاد أنت يا عداس؟ وما دينك؟ قال: أنا نصراني، وأنا رجل من أهل نينوى، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمن قرية الرجل الصالح يونس بن متى؟ قال له: وما يدريك ما يونس بن متى؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذاك أخي كان نبيًا وأنا نبي فأكب عداس على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبل رأسه ويديه وقدميه.
قال: فيقول ابنا ربيعة أحدهما لصاحبه: أما غلامك فقد أفسده عليك، فلما جاءهم عداس قالا له: ويلك يا عداس مالك تقبل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه؟ قال: يا سيدي ما في الأرض خير من هذا الرجل، لقد أخبرني بأمر ما يعلمه إلا نبي، فقالا ويحك يا عداس لا يصرفك عن دينك فإن دينك خير من دينه.
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من الطائف راجعًا إلى مكة حين يئس من خير ثقيف، حتى إذا كان بنخلة قام من جوف الليل يصلي فمر به نفر من جن أهل نصيبين اليمن، فاستمعوا له، فلما فرغ من صلاته ولوا إلى قومهم منذرين، قد آمنوا وأجابوا لما سمعوا، فقص الله خبرهم عليه، فقال: {وإذ صرفنا إليك نفرًا من الجن}.
أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا مسدد، حدثنا أبو عوانة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: انطلق النبي صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، فأرسلت عليهم الشهب، فرجعت الشياطين إلى قومهم، فقالوا: ما لكم؟ قالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء، وأرسلت علينا الشهب، قالوا: ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شيء حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها، فانظروا ما هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء، فانصرف أولئك الذين توجهوا نحو تهامة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بنخلة، عامدين إلى سوق عكاظ وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن استمعوا له، فقالوا: هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء، فهنالك رجعوا إلى قومهم فقالوا: يا قومنا {إنا سمعنا قرآنًا عجبًا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدًا} [الجن- 2]، فأنزل الله على نبيه: {قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن} [الجن- 1] وإنما أوحى إليه قول الجن.
وروي: أنهم لما رجعوا بالشهب بعث إبليس سراياه لتعرف الخبر، وكان أول بعثٍ بعثَ ركبًا من أهل نصيبين، وهم أشراف الجن وساداتهم، فبعثهم إلى تهامة.
وقال أبو حمزة الثمالي: بلغنا أنهم من الشيصبان وهم أكثر الجن عددًا، وهم عامة جنود إبليس، فلما رجعوا قالوا: {إنا سمعنا قرآنًا عجبًا}.
وقال جماعة: بل أُمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينذر الجن ويدعوهم إلى الله تعالى ويقرأ عليهم القرآن، فصرف إليه نفرًا من الجن من أهل نينوى، وجمعهم له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني أمرت أن أقرأ على الجن الليلة، فأيكم يتبعني؟ فأطرقوا ثم استتبعهم فأطرقوا، ثم استتبعهم الثالثة فأطرقوا، فاتَّبَعَهُ عبد الله بن مسعود، قال عبد الله: ولم يحضر معه أحد غيري، فانطلقنا حتى إذا كنا على مكة دخل نبي الله صلى الله عليه وسلم شعبًا يقال له: شعب الحجون، وخط لي خطًا ثم أمرني أن أجلس فيه، وقال: لا تخرج منه حتى أعود إليك، ثم انطلق حتى قام فافتتح القرآن، فجعلت أرى أمثال النسور تهوي، وسمعت لغطًا شديدًا حتى خفت على نبي الله صلى الله عليه وسلم، وغشيته أسودة كثيرة حالت بيني وبينه، حتى ما أسمع صوته، ثم طفقوا يتقطعون مثل قطع السحاب ذاهبين، ففرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الفجر، فانطلق إليَّ وقال: أنمت؟ فقلت: لا والله يا رسول الله، وقد هممت مرارًا أن أستغيث بالناس حتى سمعتك تقرعهم بعصاك، تقول: اجلسوا، قال: لو خرجت لم آمن عليك أن يتخطفك بعضهم، ثم قال: هل رأيت شيئًا؟ قلت نعم يا رسول الله رأيت رجالا سودًا مستثفري ثياب بيض، قال: أولئك جن نصيبين سألوني المتاع- والمتاع الزاد- فمتعتهم بكل عظم حائل وروثة وبعرة.
قال: فقالوا: يا رسول الله تقذرها الناس، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يستنجى بالعظم والروث.
قال: فقلت: يا رسول الله وما يغني ذلك عنهم؟ قال: إنهم لا يجدون عظمًا إلا وجدوا عليه لحمه يوم أكل، ولا روثة إلا وجدوا فيها حبها يوم أكلت، قال فقلت: يا رسول الله سمعت لغطًا شديدًا؟ فقال: إن الجن تدارأت في قتيل قتل بينهم فتحاكموا إليَّ فقضيت بينهم بالحق، قال: ثم تبرز رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أتاني، فقال: هل معك ماء؟ قلت: يا رسول الله معي إداوة فيها شيء من نبيذ التمر، فاستدعاه فصببت على يده فتوضأ وقال: «تمرة طيبة وماء طهور».
قال قتادة: ذكر لنا أن ابن مسعود لما قدم الكوفة رأى شيوخًا شمطًا من الزُّطِّ فأفزعوه حين رآهم، فقال: اظهروا، فقيل له: إن هؤلاء قوم من الزط، فقال: ما أشبههم بالنفر الذين صرفوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يريد الجن.
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر، أخبرنا عبد الغفار بن محمد، حدثنا محمد بن عيسى الجلودي، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، حدثنا مسلم بن الحجاج، حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا عبد الأعلى، حدثنا داود وهو ابن أبي هند، عن عامر قال: سألت علقمة هل كان ابن مسعود شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن؟ قال فقال علقمة: أنا سألت ابن مسعود فقلت: هل شهد أحد منكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن؟ قال: لا ولكنا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، ففقدناه فالتمسناه في الأودية والشعاب، فقلنا: استطير أو اغتيل، قال: فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء، قال فقلنا: يا رسول الله فقدناك فطلبناك فلم نجدك، فبتنا بشر ليلة بات بها قوم فقال: أتاني داعي الجن فذهبت معه فقرأت عليهم القرآن.
قال: فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم.
قال وسألوه الزاد، فقال: لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحما وكل بعرة علف لدوابكم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم من الجن».
ورواه مسلم عن عليّ بن حجر، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن داود بهذا الإسناد إلى قوله: «وآثار نيرانهم».
قال الشعبي: وسألوه الزاد وكانوا من جن الجزيرة إلى آخر الحديث من قول الشعبي مفصلا من حديث عبد الله.
قوله عز وجل: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} اختلفوا في عدد ذلك النفر، فقال ابن عباس: كانوا سبعة من جن نصيبين، فجعلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم رسلا إلى قومهم. وقال آخرون: كانوا تسعة. وروى عاصم عن زر بن حبيش: كان زوبعة من التسعة الذين استمعوا القرآن. {فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا} قالوا: صه.
وروي في الحديث: «أن الجن ثلاثة أصناف: صنف لهم أجنحة يطيرون بها في الهواء، وصنف حيات وكلاب، وصنف يحلون ويظعنون».
فلما حضروه قال بعضهم لبعض: أنصتوا واسكتوا لنستمع إلى قراءته، فلا يحول بيننا وبين الاستماع شيء، فأنصتوا واستمعوا القرآن حتى كاد يقع بعضهم على بعض من شدة حرصهم.
{فَلَمَّا قُضِى} فرغ من تلاوته، {وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ} انصرفوا إليهم، {مُنْذِرِينَ} مخوفين داعين بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.