فصل: تفسير الآيات (5- 6):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآيات (5- 6):

{سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6)}
{سَيَهْدِيهِم} أيام حياتهم في الدنيا إلى أرشد الأمور، وفي الآخرة إلى الدرجات، {وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} يرضي خصماءهم ويقبل أعمالهم.
{وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} أي بَيَّن لهم منازلهم في الجنة حتى يهتدوا إلى مساكنهم لا يخطؤون ولا يستدلون عليها أحدًا كأنهم سكانها منذ خلقوا، فيكون المؤمن أهدى إلى درجته، وزوجته وخدمه منه إلى منزله وأهله في الدنيا، هذا قول أكثر المفسرين.
وروى عطاء عن ابن عباس: {عرفها لهم} أي طيبها لهم، من العَرْف، وهو الريح الطيبة، وطعام معرف أي: مطيَّب.

.تفسير الآيات (7- 12):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ (11) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12)}
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ} أي دينه ورسوله، {يَنْصُرْكُمْ} على عدوكم، {وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} عند القتال.
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ} قال ابن عباس: بُعْدًا لهم. وقال أبو العالية: سقوطًا لهم. وقال الضحاك: خيبة لهم. وقال ابن زيد: شقًاء لهم. قال الفراء: هو نصب على المصدر، على سبيل الدعاء. وقيل: في الدنيا العثرة، وفي الآخرة التردي في النار. ويقال للعاثر: تعسًا إذا لم يريدوا قيامه، وضده لعًا إذا أرادوا قيامه، {وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} لأنها كانت في طاعة الشيطان.
{ذَلِكَ} التعس والإضلال، {بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ}.
ثم خوف الكفار فقال: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} أي أهلكهم، {وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} إن لم يؤمنوا، يتوعد مشركي مكة.
{ذَلِكَ} الذي ذكرت، {بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا} وليهم وناصرهم، {وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ}1 لا ناصر لهم. ثم ذكر مآل الفريقين فقال: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ} في الدنيا، {وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأنْعَامُ} ليس لهم همة إلا بطونهم وفروجهم، وهم لاهون ساهون عما في غد، قيل: المؤمن في الدنيا يتزود، والمنافق يتزين، والكافر يتمتع، {وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ}.

.تفسير الآيات (13- 15):

{وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ (13) أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (14) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15)}
{وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ} أي أخرجك أهلها، قال ابن عباس: كم رجال هم أشد من أهل مكة؟ يدل عليه قوله: {أَهْلَكْنَاهُمْ} ولم يقل: أهلكناها، {فَلا نَاصِرَ لَهُمْ} قال ابن عباس: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى الغار التفت إلى مكة وقال: «أنت أحبُّ بلاد الله إلى الله وأحبُّ بلاد الله إليّ ولو أن المشركين لم يخرجوني لم أخرج منك» فأنزل الله هذه الآية.
{أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} يقين من دينه، محمد والمؤمنون، {كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} يعني عبادة الأوثان، وهم أبو جهل والمشركون.
{مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} أي صفتها، {فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ} آجن متغير منتن، قرأ ابن كثير {آسن} بالقصر، والآخرون بالمد، وهما لغتان يقال: أسن الماء يأسن أسنًا، وأجن يأجن، أسونًا وأجونًا، إذا تَغَّير، {وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ} لذيذة، {لِلشَّارِبِينَ} لم تدنسها الأرجل ولم تدنسها الأيدي، {وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى}.
أخبرنا إسماعيل بن عبدالقاهر، أخبرنا عبدالغافر بن محمد، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، حدثنا مسلم بن الحجاج، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، أخبرنا أبو أسامة وعبدالله بن نمير وعلي بن مسهر، عن عبيدالله بن عمر، عن خبيب بن عبدالرحمن، عن حفص بن عاصم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سيحان وجيحان والنيل والفرات كل من أنهار الجنة».
قال كعب الأحبار: نهر دجلة نهر ماء أهل الجنة، ونهر الفرات نهر لبنهم، ونهر مصر نهر خمرهم، ونهر سيحان نهر عسلهم، وهذه الأنهار الأربعة تخرج من نهر الكوثر.
{وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ} أي من كان في هذا النعيم كمن هو خالد في النار، {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا} شديد الحر تسعر عليهم جهنم منذ خلقت إذا أدني منهم شوى وجوههم ووقعت فروة رؤوسهم فإذا شربوه، {فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} فخرجت من أدبارهم، والأمعاء جميع ما في البطن من الحوايا واحدها معي.

.تفسير الآيات (16- 18):

{وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (18)}
{وَمِنْهُم} يعني من هؤلاء الكفار، {مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} وهم المنافقون، يستمعون قولك فلا يعونه ولا يفهمونه، تهاونًا به وتغافلا {حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ} يعني فإذا خرجوا من عندك، {قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} من الصحابة: {مَاذَا قَالَ} محمد، {آنِفًا}؟ يعني الآن، هو من الائتناف ويقال: ائتنفت الأمر أي ابتدأته وأنف الشيء أوله.
قال مقاتل: وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب ويعيب المنافقين، فإذا خرجوا من المسجد سألوا عبدالله بن مسعود استهزاء: ماذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
قال ابن عباس: وقد سئلت فيمن سئل.
{أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} فلم يؤمنوا، {وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} في الكفر والنفاق.
{وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا} يعني المؤمنين، {زَادَهُم} ما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، {هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} وفقهم للعمل بما أمرهم به، وهو التقوى، قال سعيد بن جبير: وآتاهم ثواب تقواهم. {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً}.
أخبرنا أبو الحسن عبدالرحمن بن محمد الداودي، أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن موسى بن الصلت، حدثنا أبو إسحاق الهاشمي، حدثنا الحسين بن الحسن، حدثنا ابن المبارك، أخبرنا معمر بن راشد، عمن سمع المقبري يحدث عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما ينتظر أحدكم من الدنيا إلا غنى مطغيًا، أو فقرًا منسيًا، أو مرضًا مفسدًا، أو هرمًا مُفَنِّدًا، أو موتًا مجهزًا، أو الدجال فالدجال شر غائب ينتظر، أو الساعة والساعة أدهى وأمر».
قوله عز وجل: {فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} أي أماراتها وعلاماتها، واحدها: شرط، وكان النبي صلى الله عليه وسلم من أشراط الساعة.
أخبرنا عبدالواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبدالله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا أحمد بن المقدام، حدثنا فضل بن سليمان، حدثنا أبو حازم، حدثنا سهل بن سعد قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم قال بأصبعيه هكذا، بالوسطى والتي تلي الإبهام: «بُعِثْتُ أنا والساعة كهاتين».
أخبرنا عبدالواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبدالله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا حفص بن عمر الحوضي، حدثنا هشام، عن قتادة، عن أنس قال: لأحدثنكم بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحدثنكم به أحد غيري، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن من أشراط الساعة أن يُرفع العلم، ويكثر الجهل، ويكثر الزنا، ويكثر شرب الخمر، ويقل الرجال ويكثر النساء، حتى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد».
أخبرنا عبدالواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبدالله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا محمد بن سنان، حدثنا فليح، حدثني هلال بن علي، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم في مجلس يحدث القوم إذ جاءه أعرابي فقال: متى الساعة؟ فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث، فقال بعض القوم: سمع ما قال فكره ما قال. وقال بعضهم: بل لم يسمع، حتى إذا قضى حديثه، قال: «أين السائل عن الساعة؟» قال: ها أنا يا رسول الله، قال: «إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة». قال: كيف إضاعتها؟ قال: «إذا وُسِدَ الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة».
قوله عز وجل: {فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ} فمن أين لهم التذكر والاتعاظ والتوبة إذا جاءتهم الساعة؟ نظيره: {يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى} [الفجر- 23].

.تفسير الآية رقم (19):

{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19)}
قوله عز وجل: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ} قيل: الخطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم والمراد به غيره، وقيل: معناه فاثبت عليه. وقال الحسين بن الفضل: فازدد علمًا على علمك. وقال أبو العالية وابن عيينة: هو متصل بما قبله معناه: إذا جاءتهم الساعة فاعلم أنه لا ملجأ ولا مفزع عند قيامها إلا إلى الله. وقيل: فاعلم أنه لا إله إلا الله، أن الممالك تبطل عند قيامها، فلا ملك ولا حكم لأحد إلا لله، {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} أمر بالاستغفار مع أنه مغفور له لتستنَّ به أمته.
أخبرنا عبدالواحد المليحي، أخبرنا أبو منصور السمعاني، أخبرنا أبو جعفر الرياني، حدثنا حميد بن زنجويه، حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن زيد، عن ثابت، عن أبي بردة، عن الأغر المزني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في كل يوم مائة مرة».
قوله عز وجل: {وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} هذا إكرام من الله تعالى لهذه الأمة حيث أمر نبيهم صلى الله عليه وسلم أن يستغفر لذنوبهم وهو الشفيع المجاب فيهم، {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} قال ابن عباس والضحاك: {متقلبكم} متصرفكم ومنتشركم في أعمالكم في الدنيا، {ومثواكم} مصيركم في الآخرة إلى الجنة أو إلى النار.
وقال مقاتل وابن جرير: {متقلبكم} منصرفكم لأشغالكم بالنهار، {ومثواكم} مأواكم إلى مضاجعكم بالليل.
وقال عكرمة: {متقلبكم} من أصلاب الآباء إلى أرحام الأمهات. {ومثواكم} مقامكم في الأرض.
وقال ابن كيسان: {متقلبكم} من ظهر إلى بطن، {ومثواكم} مقامكم في القبور.
والمعنى: أنه عالم بجميع أحوالكم فلا يخفى عليه شيء منها.

.تفسير الآيات (20- 21):

{وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نزلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الأمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ (21)}
{وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا} حرصًا منهم على الجهاد: {لَوْلا نزلَتْ سُورَةٌ} تأمرنا بالجهاد، {فَإِذَا أُنزلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ} قال قتادة: كل سورة ذكر فيها الجهاد فهي محكمة، وهي أشد القرآن على المنافقين، {رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} يعني المنافقين، {يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ} شزرًا بتحديق شديد، كراهية منهم للجهاد وجبنًا عن لقاء العدو، {نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} كما ينظر الشاخص بصره عند الموت، {فَأَوْلَى لَهُمْ} وعيد وتهديد، ومعنى قولهم في التهديد: {أولى لك} أي: وَلِيَك وقاربك ما تكره.
ثم قال: {طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ} وهذا ابتداء محذوف الخبر، تقديره: طاعة، وقول معروف أمثل، أي لو أطاعوا وقالوا قولا معروفًا كان أمثل وأحسن.
وقيل: مجازه: يقول هؤلاء المنافقون قبل نزول السورة المحكمة: طاعة، رفع على الحكاية أي أمرنا طاعة أو منا طاعة، {وقول معروف}: حسن.
وقيل: هو متصل بما قبله، واللام في قوله: {لهم} بمعنى الباء، مجازه: فأولى بهم طاعة الله ورسوله، وقول معروف بالإجابة، أي لو أطاعوا كانت الطاعة والإجابة أولى بهم، وهذا معنى قول ابن عباس في رواية عطاء.
{فَإِذَا عَزَمَ الأمْرُ} أي جد الأمر ولزم فرض القتال وصار الأمر معزومًا، {فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ} في إظهار الإيمان والطاعة، {لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} وقيل: جواب {إذا} محذوف تقديره فإذا عزم الأمر نكلوا وكذبوا فيما وعدوا ولو صدقوا الله لكان خيرًا لهم.

.تفسير الآيات (22- 25):

{فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25)}
{فَهَلْ عَسَيْتُمْ} فلعلكم، {إِنْ تَوَلَّيْتُمْ} أعرضتم عن القرآن وفارقتم أحكامه، {أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ} تعودوا إلى ما كنتم عليه في الجاهلية فتفسدوا في الأرض بالمعصية والبغي وسفك الدماء، وترجعوا إلى الفرقة بعد ما جمعكم الله بالإسلام. {وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} قرأ يعقوب: {وتقطعوا} بفتح التاء خفيف، والآخرون بالتشديد و{تقطعوا} من التقطيع، على التكثير، لأجل الأرحام، قال قتادة: كيف رأيتم القوم حين تولوا عن كتاب الله ألم يسفكوا الدم الحرام، وقطعوا الأرحام، وعصوا الرحمن؟ وقال بعضهم: هو من الولاية. وقال المسيب بن شريك والفراء: يقول فهل عسيتم إن وليتم أمر الناس أن تفسدوا في الأرض بالظلم، نزلت في بني أمية وبني هاشم، يدل عليه قراءة علي بن أبي طالب {توليتم} بضم التاء والواو وكسر اللام، يقول: إن وليتكم ولاة جائرة خرجتم معهم في الفتنة وعاونتموهم.
{أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} عن الحق.
{أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} فلا تفهم مواعظ القرآن وأحكامه، و{أم} بمعنى بل.
أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي، أنبأني عقيل بن محمد، أخبرنا المعافى بن زكريا، أخبرنا محمد بن جرير، حدثنا بشر، حدثنا حماد بن زيد، حدثنا هشام بن عروة عن أبيه قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها} فقال شاب من أهل اليمن: بل على قلوب أقفالها حتى يكون الله يفتحها أو يفرجها، فما زال الشاب في نفس عمر حتى ولي فاستعان به.
{إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ} رجعوا كفارًا، {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى} قال قتادة: هم كفار أهل الكتاب كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم بعد ما عرفوه ووجدوا نعته في كتابهم.
وقال ابن عباس، والضحاك، والسدي: هم المنافقون.
{الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ} زين لهم القبيح، {وَأَمْلَى لَهُمْ} قرأ أهل البصرة بضم الألف وكسر اللام وفتح الياء على ما لم يسم فاعله، وقرأ مجاهد بإرسال الياء على وجه الخبر من الله عز وجل عن نفسه أنه يفعل ذلك، وتروى هذه القراءة عن يعقوب، وقرأ الآخرون: {وأملى لهم} بفتح الألف، أي: وأملى الشيطان لهم، مد لهم في الأمل.