فصل: تفسير الآية رقم (240):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآية رقم (240):

{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240)}
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ} يا معشر الرجال {وَيَذَرُون} أي يتركون {أَزْوَاجًا} أي زوجات {وَصِيَّةً لأزْوَاجِهِمْ} قرأ أهل البصرة وابن عامر وحمزة وحفص وصية بالنصب على معنى فليوصوا وصية، وقرأ الباقون بالرفع أي كتب عليكم الوصية {مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ} متاعا نصب على المصدر أي متعوهن متاعا، وقيل: جعل الله ذلك لهن متاعا، والمتاع نفقة سنة لطعامها وكسوتها وسكنها وما تحتاج إليه {غَيْرَ إِخْرَاجٍ} نصب على الحال، وقيل بنزع حرف على الصفة أي من غير إخراج، نزلت هذه الآية في رجل من أهل الطائف يقال له حكيم بن الحارث هاجر إلى المدينة وله أولاد ومعه أبواه وامرأته فمات، فأنزل الله هذه الآية فأعطى النبي صلى الله عليه وسلم والديه وأولاده من ميراثه ولم يعط امرأته شيئا، وأمرهم أن ينفقوا عليها من تركة زوجها حولا كاملا وكانت عدة الوفاة في ابتداء الإسلام حولا كاملا وكان يحرم على الوارث إخراجها من البيت قبل تمام الحول، وكانت نفقتها وسكناها واجبة في مال زوجها تلك السنة ما لم تخرج، ولم يكن لها الميراث، فإن خرجت من بيت زوجها سقطت نفقتها، وكان على الرجل أن يوصي بها فكان كذلك حتى نزلت آية الميراث، فنسخ الله تعالى نفقة الحول بالربع والثمن، ونسخ عدة الحول بأربعة أشهر وعشر.
قوله تعالى: {فَإِنْ خَرَجْنَ} يعني من قبل أنفسهن قبل الحول من غير إخراج الورثة {فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} يا أولياء الميت {فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ} يعني التزين للنكاح، ولرفع الجناح عن الرجال وجهان:
أحدهما: لا جناح عليكم في قطع النفقة إذا خرجن قبل انقضاء الحول.
والآخر: لا جناح عليكم في ترك منعهن من الخروج لأن مقامها في بيت زوجها حولا غير واجب عليها خيرها الله تعالى بين أن تقيم حولا ولها النفقة والسكنى، وبين أن تخرج فلا نفقة ولا سكنى إلى أن نسخه بأربعة أشهر وعشر.
{وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.

.تفسير الآيات (241- 242):

{وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242)}
{وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} إنما أعاد ذكر المتعة هاهنا لزيادة معنى، وذلك أن في غيرها بيان حكم غير الممسوسة، وفي هذه الآية بيان حكم جميع المطلقات في المتعة، وقيل: إنه لما نزل قوله تعالى: {ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره} إلى قوله: {حقا على المحسنين} [236- البقرة] قال رجل من المسلمين: إن أحسنت فعلت، وإن لم أرد ذلك لم أفعل، فقال الله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ} جعل المتعة لهن بلام التمليك فقال: {حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} يعني المؤمنين المتقين الشرك.

.تفسير الآيات (243- 245):

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (243) وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)}
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} قال أكثر أهل التفسير: كانت قرية يقال لها: داوردان قبل واسط بها وقع الطاعون، فخرجت طائفة منها وبقيت طائفة، فهلك أكثر من بقي في القرية وسلم الذين خرجوا، فلما ارتفع الطاعون رجعوا سالمين، فقال الذين بقوا: أصحابنا كانوا أحزم منا، لو صنعنا كما صنعوا لبقينا، ولئن وقع الطاعون ثانية لنخرجن إلى أرض لا وباء بها، فوقع الطاعون من قابل فهرب عامة أهلها، وخرجوا حتى نزلوا واديا أفيح فلما نزلوا المكان الذي يبتغون فيه النجاة ناداهم ملك من أسفل الوادي وآخر من أعلاه: أن موتوا فماتوا جميعا.
أخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا زاهر بن أحمد أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن ابن شهاب عن عبد الله بن عامر بن ربيعة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج إلى الشام فلما جاء سرع بلغه أن الوباء قد وقع بالشام فأخبره عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه» فرجع عمر من سرغ، قال الكلبي ومقاتل والضحاك: إنما فروا من الجهاد وذلك أن ملكا من ملوك بني إسرائيل أمرهم أن يخرجوا إلى قتال عدوهم، فعسكروا ثم جبنوا وكرهوا الموت فاعتلوا وقالوا لملكهم: إن الأرض التي تأتيها بها الوباء فلا نأتيها حتى ينقطع منها الوباء، فأرسل الله عليهم الموت فخرجوا من ديارهم فرارا من الموت فلما رأى الملك ذلك قال: اللهم رب يعقوب وإله موسى قد ترى معصية عبادك فأرهم آية في أنفسهم حتى يعلموا أنهم لا يستطيعون الفرار منك، فلما خرجوا قال لهم الله تعالى: موتوا، عقوبة لهم، فماتوا جميعا وماتت دوابهم كموت رجل واحد فأتى عليهم ثمانية أيام حتى انتفخوا وأروحت أجسادهم فخرج إليهم الناس فعجزوا عن دفنهم، فحظروا عليهم حظيرة دون السباع وتركوهم فيها.
واختلفوا في مبلغ عددهم، قال عطاء الخراساني: كانوا ثلاثة آلاف، وقال وهب: أربعة آلاف وقال مقاتل والكلبي: ثمانية آلاف، وقال أبو روق: عشرة آلاف، وقال السدي: بضعة وثلاثون ألفا، وقال ابن جريج: أربعون ألفا، وقال عطاء بن أبي رباح: سبعون ألفا، وأولى الأقاويل: قول من قال كانوا زيادة على عشرة آلاف، لأن الله تعالى قال: {وهم ألوف} والألوف جمع الكثير وجمعه القليل آلاف، ولا يقال لما دون عشرة آلاف ألوف، قالوا: فأتت على ذلك مدة وقد بليت أجسادهم وعريت عظامهم فمر عليهم نبي يقال له حزقيل بن بودى ثالث خلفاء بني إسرائيل من بعد موسى عليه السلام، وذلك أن القيم بأمر بني إسرائيل كان بعد موسى يوشع بن نون ثم كالب بن يوقنا ثم حزقيل وكان يقال له ابن العجوز لأن أمه كانت عجوزا فسألت الله الولد بعد ما كبرت وعقمت فوهبه الله تعالى لها، قال الحسن ومقاتل: هو ذو الكفل وسمي حزقيل ذا الكفل لأنه تكفل بسبعين نبيا وأنجاهم من القتل، فلما مر حزقيل على أولئك الموتى وقف عليهم فجعل يتفكر فيهم متعجبا فأوحى الله تعالى إليه تريد أن أريك آية؟ قال نعم: فأحياهم الله وقيل: دعا حزقيل ربه أن يحييهم فأحياهم.
وقال مقاتل والكلبي: هم كانوا قوم حزقيل أحياهم الله بعد ثمانية أيام، وذلك أنه لما أصابهم ذلك خرج حزقيل في طلبهم فوجدهم موتى فبكى وقال: يا رب كنت في قوم يحمدونك ويسبحونك ويقدسونك ويكبرونك ويهللونك فبقيت وحيدا لا قوم لي، فأوحى الله تعالى إليه: أني جعلت حياتهم إليك، قال حزقيل: احيوا بإذن الله فعاشوا.
قال مجاهد: إنهم قالوا حين أحيوا، سبحانك اللهم ربنا وبحمدك لا إله إلا أنت فرجعوا إلى قومهم وعاشوا دهرا طويلا وسحنة الموت على وجوههم، لا يلبسون ثوبا إلا عاد دسما مثل الكفن حتى ماتوا لآجالهم التي كتبت لهم.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: وإنها لتوجد اليوم في ذلك السبط من اليهود تلك الريح، قال قتادة: مقتهم الله على فرارهم من الموت فأماتهم عقوبة لهم ثم بعثوا ليستوفوا مدة آجالهم ولو جاءت آجالهم ما بعثوا فذلك قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ} أي ألم تعلم بإعلامي إياك، وهو من رؤية القلب.
قال أهل المعاني: هو تعجيب يقول هل رأيت مثلهم؟ كما تقول: ألم تر إلى ما يصنع فلان؟ وكل ما في القرآن ألم تر ولم يعاينه النبي صلى الله عليه وسلم فهذا وجهه {إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ} جمع ألف وقيل مؤتلفة قلوبهم جمع آلف مثل قاعد وقعود، والصحيح أن المراد منه العدد {حَذَرَ الْمَوْتِ} أي خوف الموت {فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا} أمر تحويل كقوله: {كونوا قردة خاسئين} [65- البقرة] {ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} بعد موتهم {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} قيل هو على العموم في حق الكافة في الدنيا، وقيل على الخصوص في حق المؤمنين {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} أما الكفار فلم يشكروا وأما المؤمنون فلم يبلغوا غاية الشكر.
{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي في طاعة الله أعداء الله {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} قال أكثر أهل التفسير: هذا خطاب للذين أحيوا أمروا بالقتال في سبيل الله فخرجوا من ديارهم فرارا من الجهاد فأماتهم الله ثم أحياهم وأمرهم أن يجاهدوا: وقيل: الخطاب لهذه الأمة، أمرهم بالجهاد.
قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} القرض اسم لكل ما يعطيه الإنسان ليجازى عليه، فسمى الله تعالى عمل المؤمنين له على رجاء ما وعدهم من الثواب قرضا، لأنهم يعملونه لطلب ثوابه، قال الكسائي: القرض ما أسلفت من عمل صالح أو سيئ، وأصل القرض في اللغة القطع، سمي به القرض لأنه يقطع من ماله شيئا يعطيه ليرجع إليه مثله، وقيل في الآية اختصار مجازه: من ذا الذي يقرض عباد الله والمحتاجين من خلقه، كقوله تعالى: {إن الذين يؤذون الله ورسوله} [57- الأحزاب] أي يؤذون عباد الله، كما جاء في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى يقول يوم القيامة يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني قال: يا رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال: استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي».
قوله تعالى: {يُقْرِضُ اللَّهَ} أي ينفق في طاعة الله {قَرْضًا حَسَنًا} قال الحسين بن علي الواقدي: يعني محتسبا، طيبة بها نفسه، وقال ابن المبارك: من مال حلال وقيل لا يمن به ولا يؤذي {فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} قرأ ابن كثير وأبو جعفر وابن عامر ويعقوب {فيضعفه} وبابه بالتشديد، ووافق أبو عمرو في سورة الأحزاب وقرأ الآخرون {فيضاعفه} بالألف مخففا وهما لغتان، ودليل التشديد قوله: {أَضْعَافًا كَثِيرَةً} لأن التشديد للتكثير، وقرأ ابن عامر وعاصم ويعقوب بنصب الفاء، وكذلك في سورة الحديد على جواب الاستفهام، وقيل بإضمار أن، وقرأ الآخرون برفع الفاء نسقا على قوله: يقرض {أَضْعَافًا كَثِيرَةً} قال السدي هذا التضعيف لا يعلمه إلا الله عز وجل، وقيل سبعمائة ضعف {وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} قرأ أهل البصرة وحمزة يبسط، هاهنا وفي الأعراف، بسطة، بالسين كنظائرهما، وقرأهما الآخرون بالصاد قيل يقبض بإمساك الرزق والنفس والتقتير ويبسط بالتوسيع وقيل يقبض بقبول التوبة والصدقة ويبسط بالخلف والثواب، وقيل هو الإحياء والإماتة فمن أماته فقد قبضه ومن مد له في عمره فقد بسط له، وقيل هذا في القلوب، لما أمرهم الله تعالى بالصدقة أخبر أنهم لا يمكنهم ذلك إلا بتوفيقه، قال: يقبض بعض القلوب فلا ينشط بخير ويبسط بعضها فيقدم لنفسه خيرا كما جاء في الحديث: «القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها الله كيف يشاء» الحديث.
{وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي إلى الله تعودون فيجزيكم بأعمالكم، وقال قتادة: الهاء راجعة إلى التراب كناية عن غير مذكور، أي من التراب خلقهم وإليه يعودون.

.تفسير الآية رقم (246):

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246)}
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيل} والملأ من القوم: وجوههم وأشرافهم، وأصل الملأ الجماعة من الناس ولا واحد له من لفظه، كالقوم والرهط والإبل والخيل والجيش وجمعه أملاء {مِنْ بَعْدِ مُوسَى} أي من بعد موت موسى {إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ} واختلفوا في ذلك النبي فقال قتادة هو يوشع بن نون بن افرائيم بن يوسف عليه السلام وقال السدي: اسمه شمعون، وإنما سمي شمعون، لأن أمه دعت الله أن يرزقها غلاما فاستجاب الله دعاءها فولدت غلاما فسمته سمعون تقول سمع الله تعالى دعائي والسين تصير شينا بالعبرانية، وهو شمعون بن صفية بن علقمة من ولد لاوي بن يعقوب، وقال سائر المفسرين: هو اشمويل وهو بالعبرانية إسماعيل بن يال بن علقمة، وقال مقاتل: هو من نسل هارون، وقال مجاهد: هو أشمويل وهو بالعبرانية إسماعيل بن يال بن علقمة.
وقال وهب وابن إسحاق والكلبي وغيرهم: كان سبب مسألتهم إياه ذلك لما مات موسى عليه السلام خلف بعده في بني إسرائيل يوشع بن نون، يقيم فيهم التوراة وأمر الله تعالى حتى قبضه الله تعالى، ثم خلف فيهم كالب كذلك حتى قبضه الله تعالى، ثم خلف حزقيل حتى قبضه الله، ثم عظمت الأحداث في بني إسرائيل ونسوا عهد لله حتى عبدوا الأوثان، فبعث الله إليهم إلياس نبيا فدعاهم إلى الله تعالى، وكانت الأنبياء من بني إسرائيل من بعد موسى يبعثون إليهم بتجديد ما نسوا من التوراة، ثم خلف من بعد إلياس اليسع فكان فيهم ما شاء الله ثم قبضه الله، وخلف فيهم الخلوف وعظمت الخطايا فظهر لهم عدو يقال له البلشاثا، وهم قوم جالوت كانوا يسكنون ساحل بحر الروم بين مصر وفلسطين وهم العمالقة فظهروا على بني إسرائيل وغلبوا على كثير من أرضهم وسبوا كثيرا من ذراريهم وأسروا من أبناء ملوكهم أربعين وأربعمائة غلاما، فضربوا عليهم الجزية وأخذوا توراتهم، ولقي بنو إسرائيل منهم بلاء وشدة ولم يكن لهم نبي يدير أمرهم، وكان سبط النبوة قد هلكوا، فلم يبق منهم إلا امرأة حبلى فحبسوها في بيت رهبة أن تلد جارية فتبدلها بغلام لما ترى من رغبة بني إسرائيل في ولدها وجعلت المرأة تدعو الله أن يرزقها غلاما فولدت غلاما، فسمته أشمويل تقول: سمع الله تعالى دعائي، فكبر الغلام فأسلمته ليتعلم التوراة في بيت المقدس وكفله شيخ من علمائهم وتبناه، فلما بلغ الغلام أتاه جبريل وهو نائم إلى جنب الشيخ وكان لا يأتمن عليه أحدا فدعاه جبريل بلحن الشيخ يا أشمويل، فقام الغلام فزعا إلى الشيخ فقال: يا أبتاه دعوتني؟ فكره الشيخ أن يقول لئلا فيفزع الغلام فقال يا بني ارجع فنم، فرجع الغلام فنام ثم دعاه الثانية فقال الغلام يا أبت دعوتني؟ فقال ارجع فنم فإن دعوتك الثالثة فلا تجبني فرجع الغلام فنام فلما كانت الثالثة ظهر له جبريل فقال له: اذهب إلى قومك فبلغهم رسالة ربك، فإن الله عز وجل قد بعثك فيهم نبيا، فلما أتاهم كذبوه وقالوا: استعجلت بالنبوة ولم تنلك، وقالوا له: إن كنت صادقا فابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله، آية من نبوتك، وإنما كان قوام أمر بني إسرائيل بالاجتماع على الملوك وطاعة الملوك لأنبيائهم، فكان الملك هو الذي يسير بالجموع، والنبي يقيم له أمره ويشير عليه برشده ويأتيه بالخبر من ربه، قال وهب بن منبه: بعث الله تعالى أشمويل نبيا فلبثوا أربعين سنة بأحسن حال، ثم كان من أمر جالوت والعمالقة ما كان فقالوا لأشمويل: {ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} جزم على جواب الأمر فلما قالوا له ذلك {قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ} استفهام شك.
قرأ نافع: عسيتم بكسر السين كل القرآن، وقرأ الباقون بالفتح وهي اللغة الفصيحة بدليل قوله تعالى: {عسى ربكم} {إِنْ كُتِبَ} فرض {عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} مع ذلك الملك {أَلا تُقَاتِلُوا} أن لا تفوا بما تقولوا معه {قَالُوا وَمَا لَنَا أَلا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّه} فإن قيل فما وجه دخول أن في هذا الموضع والعرب لا تقول مالك أن لا تفعل وإنما يقال ما لك لا تفعل؟ قيل: دخول أن وحذفها لغتان صحيحتان فالإثبات كقوله تعالى: {ما لك أن لا تكون مع الساجدين} [32- الحجر] والحذف كقوله تعالى: {ما لكم لا تؤمنون بالله} [8- الحديد] وقال الكسائي: معناه وما لنا في أن لا نقاتل فحذف في وقال الفراء: أي وما يمنعنا أن لا نقاتل في سبيل الله كقوله تعالى: {ما منعك أن لا تسجد} [12- الأعراف] وقال الأخفش: أن هاهنا زائدة معناه: وما لنا لا نقاتل في سبيل الله {وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا} أي أخرج من غلب عليهم من ديارهم، ظاهر الكلام العموم وباطنه الخصوص، لأن الذين قالوا لنبيهم: ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله كانوا في ديارهم وأوطانهم وإنما أخرج من أسر منهم، ومعنى الآية أنهم قالوا مجيبين لنبيهم: إنما كنا نزهد في الجهاد إذ كنا ممنوعين في بلادنا لا يظهر علينا عدونا، فأما إذا بلغ ذلك منا فنطيع ربنا في الجهاد ونمنع نساءنا وأولادنا.
قال الله تعالى: {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا} أعرضوا عن الجهاد وضيعوا أمر الله {إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ} الذين عبروا النهر مع طالوت واقتصروا على الغرفة على ما سيأتي إن شاء الله تعالى، {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}.