فصل: تفسير الآيات (270- 272):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآيات (270- 272):

{وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271) لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلأنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (272)}
قوله تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ} فيما فرض الله عليكم {أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ} أي: ما أوجبتموه أنتم على أنفسكم في طاعة الله فوفيتم به {فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} يحفظه حتى يجازيكم به، وإنما قال: يعلمه، ولم يقل: يعلمها لأنه رده إلى الآخر منهما كقوله تعالى: {ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا} [112- النساء] وإن شئت حملته على ما كقوله: {وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به} [231- البقرة] ولم يقل بهما {وَمَا لِلظَّالِمِينَ} الواضعين الصدقة في غير موضعها بالرياء أو يتصدقون من الحرام {مِنْ أَنْصَارٍ} أعوان يدفعون عذاب الله عنهم، وهي جمع نصير، مثل: شريف وأشراف.
قوله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ} أي تظهروها {فَنِعِمَّا هِيَ} أي: نعمت الخصلة هي وما في محل الرفع وهي في محل النصب كما تقول نعم الرجل رجلا فإذا عرفت رفعت، فقلت: نعم الرجل زيد، وأصله نعم ما فوصلت، قرأ أهل المدينة غير ورش وأبو عمرو وأبو بكر: فنعما بكسر النون وسكون العين، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي: بفتح النون وكسر العين، وقرأ ابن كثير ونافع برواية ورش ويعقوب وحفص بكسرهما، وكلها لغات صحيحة وكذلك في سورة النساء.
{وَإِنْ تُخْفُوهَا} تسروها {وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ} أي تؤتوها الفقراء في السر {فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} وأفضل وكل مقبول إذا كانت النية صادقة ولكن صدقة السر أفضل، وفي الحديث: «صدقة السر تطفئ غضب الرب».
أخبرنا أبو الحسن السرخسي، أخبرنا زاهر بن أحمد، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي، أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن حبيب بن عبد الرحمن عن حفص بن عاصم عن أبي سعيد الخدري أو عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله تعالى، ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه، ورجلان تحابا في الله اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه».
وقيل: الآية في صدقة التطوع، أما الزكاة المفروضة فالإظهار فيها أفضل حتى يقتدي به الناس، كالصلاة المكتوبة في الجماعة أفضل، والنافلة في البيت أفضل وقيل: الآية في الزكاة المفروضة كان الإخفاء فيها خيرا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما في زماننا فالإظهار أفضل حتى لا يساء به الظن.
قوله تعالى: {وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُم} قرأ ابن كثير وأهل البصرة وأبو بكر بالنون ورفع الراء أي ونحن نكفر، وقرأ ابن عامر وحفص بالياء ورفع الراء، أي ويكفر الله، وقرأ أهل المدينة وحمزة والكسائي بالنون والجزم نسقا على الفاء التي في قوله: {فهو خير لكم} لأن موضعها جزم بالجزاء، وقوله ومن سيئاتكم قيل من صلة، تقديره نكفر عنكم سيئاتكم، وقيل: هو للتحقيق والتبعيض، يعني: نكفر الصغائر من الذنوب، {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}.
{لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} قال الكلبي سبب نزول هذه الآية أن ناسا من المسلمين كانت لهم قرابة وأصهار في اليهود وكانوا ينفقون عليهم قبل أن يسلموا فلما أسلموا كرهوا أن ينفقوا عليهم وأرادوهم على أن يسلموا، وقال سعيد بن جبير كانوا يتصدقون على فقراء أهل الذمة، فلما كثر فقراء المسلمين، نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التصدق على المشركين كي تحملهم الحاجة على الدخول في الإسلام فنزل قوله: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} فتمنعهم الصدقة ليدخلوا في الإسلام حاجة منهم إليها، {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} وأراد به هداية التوفيق، أما هدي البيان والدعوة فكان على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعطوهم بعد نزول الآية.
{وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ} أي مال {فَلأنْفُسِكُم} أي تعملونه لأنفسكم {وَمَا تُنْفِقُونَ إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} وما جحد، لفظه نفي ومعناه نهي، أي لا تنفقوا إلا ابتغاء وجه الله {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ} شرط كالأول ولذلك حذف النون منهما {يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} أي يوفر لكم جزاؤه، ومعناه: يؤدي إليكم، ولذلك دخل فيه إلا {وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} لا تنقصون من ثواب أعمالكم شيئا، وهذا في صدقة التطوع، أباح الله تعالى أن توضع في أهل الإسلام وأهل الذمة، فأما الصدقة المفروضة فلا يجوز وضعها إلا في المسلمين وهم أهل السهمان المذكورون في سورة التوبة.

.تفسير الآيات (273- 274):

{لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)}
قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} اختلفوا في موضع هذه اللام: قيل هي مردودة على موضع اللام من قوله: {فلأنفسكم} كأنه قال: وما تنفقوا من خير فللفقراء، وإنما تنفقون لأنفسكم، وقيل: معناها الصدقات التي سبق ذكرها، وقيل: خبره محذوف تقديره: للفقراء الذين صفتهم كذا حق واجب، وهم فقراء المهاجرين، كانوا نحوا من أربعمائة رجل، لم يكن لهم مساكن بالمدينة ولا عشائر، وكانوا في المسجد يتعلمون القرآن ويرضخون النوى بالنهار، وكانوا يخرجون في كل سرية يبعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم أصحاب الصفة، فحث الله تعالى عليهم الناس فكان من عنده فضل أتاهم به إذا أمسى.
{الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} فيه أقاويل؛ قال قتادة- وهو أولاها- حبسوا أنفسهم على الجهاد في سبيل الله {لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأرْضِ} لا يتفرغون للتجارة وطلب المعاش وهم أهل الصفة الذين ذكرناهم، وقيل: حبسوا أنفسهم على طاعة الله، وقيل: معناه حبسهم الفقر والعدم عن الجهاد في سبيل الله، وقال سعيد بن جبير: قوم أصابتهم جراحات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجهاد في سبيل الله فصاروا زمنى، أحصرهم المرض والزمانة عن الضرب في سبيل الله للجهاد، وقال ابن زيد: معناه: من كثرة ما جاهدوا صارت الأرض كلها حربا عليهم فلا يستطيعون ضربا في الأرض من كثرة أعدائهم، {يَحْسَبُهُم} قرأ أبو جعفر وابن عامر وعاصم وحمزة: يحسبهم وبابه بفتح السين وقرأ الآخرون بالكسر {الْجَاهِل} بحالهم {أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} أي من تعففهم عن السؤال وقناعتهم يظن من لا يعرف حالهم أنهم أغنياء، والتعفف التفعل من العفة وهي الترك يقال: عف عن الشيء إذا كف عنه وتعفف إذا تكلف في الإمساك.
{تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ} السيماء والسيمياء والسمة: العلامة التي يعرف بها الشيء، واختلفوا في معناها هاهنا، فقال مجاهد: هي التخشع والتواضع، وقال السدي: أثر الجهد من الحاجة والفقر، وقال الضحاك: صفرة ألوانهم من الجوع والضر وقيل رثاثة ثيابهم، {لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} قال عطاء: إذا كان عندهم غداء لا يسألون عشاء، وإذا كان عندهم عشاء لا يسألون غداء، وقيل: معناه لا يسألون الناس إلحافا أصلا لأنه قال: من التعفف، والتعفف ترك السؤال، ولأنه قال: تعرفهم بسيماهم، ولو كانت المسألة من شأنهم لما كانت إلى معرفتهم بالعلامة من حاجة، فمعنى الآية، ليس لهم سؤال فيقع فيه إلحاف، والإلحاف: الإلحاح واللجاج.
أخبرنا أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري، أخبرنا أبو سعيد محمد بن إبراهيم بن الإسماعيلي، أخبرنا محمد بن يعقوب، أخبرنا محمد بن عبد الله بن الحكم أخبرنا أنس بن عياض عن هشام بن عروة عن أبيه عن الزبير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لأن يأخذ أحدكم حبله فيذهب فيأتي بحزمة حطب على ظهره فيكف الله بها وجهه خير له من أن يسأل الناس أشياءهم أعطوه أو منعوه».
أخبرنا أبو الحسن السرخسي، أخبرنا زاهر بن أحمد، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي، أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن أبي الزناد، عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليس المسكين بهذا الطواف الذي يطوف على الناس، ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان» قالوا: فمن المسكين يا رسول الله؟ قال: «الذي لا يجد غنى فيغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس».
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من سأل وله أوقية أو عدلها فقد سأل إلحافا».
أخبرنا أبو سعيد عبد الله بن أحمد الطاهري، أخبرنا جدي أبو سهل عبد الصمد بن عبد الرحمن البزار، أخبرنا محمد بن زكريا بن عدافر، أخبرنا إسحاق بن إبراهيم بن عباد الدبري، أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن هارون بن رياب عن كنانة العدوي عن قبيصة بن مخارق قال: إني تحملت بحمالة في قومي فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله إني تحملت بحمالة في قومي وأتيتك لتعينني فيها قال: «بل نتحملها عنك يا قبيصة ونؤديها إليهم من الصدقة» ثم قال: «يا قبيصة إن المسألة حرمت إلا في إحدى ثلاث: رجل أصابته جائحة فاجتاحت ماله فيسأل حتى يصيب قواما من عيشه ثم يمسك، وفي رجل أصابته حاجة حتى يشهد له ثلاثة نفر من ذوي الحجا من قومه وأن المسألة قد حلت له فيسأل حتى يصيب القوام من العيش ثم يمسك، وفي رجل تحمل بحمالة فيسأل حتى إذا بلغ أمسك، وما كان غير ذلك فإنه سحت يأكله صاحبه سحتا».
أخبرنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الضبي، أخبرنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجراحي، أخبرنا أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي، أخبرنا أبو عيسى محمد بن عيسى الترمذي، أخبرنا قتيبة، أخبرنا شريك عن حكيم بن جبير عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد عن أبيه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سأل الناس وله ما يغنيه جاء يوم القيامة ومسألته في وجهه خموش أو خدوش أو كدوح».
قيل يا رسول الله وما يغنيه؟ قال: «خمسون درهما أو قيمتها من الذهب».
قوله تعالى: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ} مال {فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} وعليه مجاز.
{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً} روي عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نزلت هذه الآية في علي بن أبي طالب رضي الله عنه كانت عنده أربعة دراهم لا يملك غيرها فتصدق بدرهم ليلا وبدرهم نهارا وبدرهم سرا وبدرهم علانية.
وعن الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهم قال لما نزلت: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} بعث عبد الرحمن بن عوف بدنانير كثيرة إلى أصحاب الصفة، وبعث علي بن أبي طالب رضي الله عنه في جوف الليل بوسق من تمر فأنزل الله تعالى فيهما {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} الآية عنى بالنهار علانية: صدقة عبد الرحمن بن عوف، وبالليل سرا: صدقة علي رضي الله عنه، وقال أبو أمامة وأبو الدرداء ومكحول والأوزاعي: نزلت في الذين يرتبطون الخيل للجهاد فإنها تعلف ليلا ونهارا سرا وعلانية. أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، أخبرنا محمد بن إسماعيل، أخبرنا علي بن حفص، أخبرنا ابن المبارك، أخبرنا طلحة بن أبي سعيد قال: سمعت سعيدا المقبري يحدث أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من احتبس فرسا في سبيل الله إيمانا بالله وتصديقا بوعده فإن شبعه وريه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة».
وقوله تعالى: {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} قال الأخفش: جعل الخبر بالفاء، لأن الذين بمعنى من وجواب من بالفاء بالجزاء، أو معنى الآية: من أنفق كذا فله أجره عند ربه {وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}.

.تفسير الآيات (275- 277):

{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (277)}
قوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا} أي يعاملون به، وإنما خص الأكل لأنه معظم المقصود من المال {لا يَقُومُونَ} يعني يوم القيامة من قبورهم {إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ} أي يصرعه {الشَّيْطَان} أصل الخبط الضرب والوطء، وهو ضرب على غير استواء يقال: ناقة خبوط للتي تطأ الناس وتضرب الأرض بقوائهما {مِنَ الْمَسِّ} أي الجنون يقال: مس الرجل فهو ممسوس إذا كان مجنونا، ومعناه: أن آكل الربا يبعث يوم القيامة وهو كمثل المصروع.
أخبرنا أبو سعيد أحمد بن إبراهيم السرخسي، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي، أخبرنا عبد الله بن حامد، أخبرنا أحمد بن محمد بن يوسف، أخبرنا عبد الله بن يحيى، أخبرنا يعقوب بن سفيان أخبرنا إسماعيل بن سالم، أخبرنا عباد بن عباد عن أبي هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة الإسراء قال: «فانطلق بي جبريل عليه السلام إلى رجال كثير كل رجل منهم بطنه مثل البيت الضخم منضدين على سابلة آل فرعون- وآل فرعون يعرضون على النار غدوا وعشيا- قال: فيقبلون مثل الإبل المنهومة يخبطون الحجارة والشجر لا يسمعون ولا يعقلون، فإذا أحس بهم أصحاب تلك البطون قاموا، فتميل بهم بطونهم فيصرعون، ثم يقوم أحدهم فيميل به بطنه فيصرع، فلا يستطيعون أن يبرحوا حتى يغشاهم آل فرعون فيردوهم مقبلين ومدبرين، فذلك عذابهم في البرزخ بين الدنيا والآخرة {قال} وآل فرعون يقولون: اللهم لا تقم الساعة أبدا {قال} ويوم القيامة يقال: {أدخلوا آل فرعون أشد العذاب} [46- غافر] قلت: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس».
قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} أي ذلك الذي نزل بهم لقولهم هذا واستحلالهم إياه، وذلك أن أهل الجاهلية كان أحدهم إذا حل ماله على غريمه فطالبه به فيقول الغريم لصاحب الحق: زدني في الأجل حتى أزيدك في المال، فيفعلان ذلك، ويقولون سواء علينا الزيادة في أول البيع بالربح أو عند المحل لأجل التأخير فكذبهم الله تعالى وقال: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} واعلم أن الربا في اللغة الزيادة قال الله تعالى: {وما آتيتم من الربا ليربو في أموال الناس} أي ليكثر {فلا يربو عند الله} [39- الروم] وطلب الزيادة بطريق التجارة غير حرام في الجملة، إنما المحرم زيادة على صفة مخصوصة في مال مخصوص بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال، أخبرنا أبو العباس الأصم، أخبرنا الربيع، أخبرنا الشافعي، أخبرنا عبد الوهاب عن أيوب بن أبي تميمة عن محمد بن سيرين عن مسلم بن يسار ورجل آخر عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا الورق بالورق، ولا البر بالبر، ولا الشعير بالشعير ولا التمر بالتمر ولا الملح بالملح إلا سواء بسواء، عينا بعين، يدا بيد، ولكن بيعوا الذهب بالورق، والورق بالذهب، والبر بالشعير، والشعير بالبر، والتمر بالملح، والملح بالتمر يدا بيد كيف شئتم- ونقص أحدهما الملح أو التمر وزاد أحدهما: من زاد وازداد فقد أربى». وروى هذا الحديث مطرف عن محمد بن سيرين عن مسلم بن يسار وعبد الله بن عتيك عن عبادة فالنبي صلى الله عليه وسلم نص على ستة أشياء.
وذهب عامة أهل العلم إلى أن حكم الربا يثبت في هذه الأشياء الست بالأوصاف فيها فيتعدى إلى كل مال توجد فيه تلك الأوصاف، ثم اختلفوا في تلك الأوصاف، فذهب قوم: إلى أن المعنى في جميعها واحد وهو النفع وأثبتوا الربا في جميع الأموال، وذهب الأكثرون إلى أن الربا يثبت في الدراهم والدنانير بوصف وفي الأشياء المطعومة بوصف آخر، واختلفوا في ذلك الوصف فقال قوم: ثبت في الدراهم والدنانير بوصف، النقدية، وهو قول مالك والشافعي، وقال قوم: ثبت بعلة الوزن وهو قول أصحاب الرأي وأثبتوا الربا في جميع الموزونات مثل الحديد والنحاس والقطن ونحوها.
وأما الأشياء الأربعة فذهب قوم إلى أن الربا ثبت فيها بعلة الكيل وهو قول أصحاب الرأي، وأثبتوا الربا في جميع المكيلات مطعوما كان أو غير مطعوم كالجص والنورة ونحوها، وذهب جماعة إلى أن العلة فيها الطعم مع الكيل والوزن، فكل مطعوم وهو مكيل أو موزون يثبت فيه الربا، ولا يثبت فيما ليس بمكيل ولا موزون، وهو قول سعيد بن المسيب، وقاله الشافعي رحمه الله في القديم، وقال في الجديد: يثبت فيها الربا بوصف الطعم، وأثبت الربا في جميع الأشياء المطعومة من الثمار والفواكه والبقول والأدوية مكيلة كانت أو موزونة لما روي عن معمر بن عبد الله قال: كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الطعام بالطعام مثلا بمثل».
فجملة مال الربا عند الشافعي ما كان ثمنا أو مطعوما، والربا نوعان: ربا الفضل وربا النساء، فإذا باع مال الربا بجنسه مثلا بمثل بأن باع أحد النقدين بجنسه أو باع مطعوما بجنسه كالحنطة بالحنطة ونحوها يثبت فيه كلا نوعي الربا حتى لا يجوز إلا متساويين في معيار الشرع، فإن كان موزونا كالدراهم والدنانير فيشترط المساواة في الوزن، وإن كان مكيلا كالحنطة والشعير بيع بجنسه، فيشترط المساواة في الكيل ويشترط التقابض في مجلس العقد، وإذا باع مال الربا بغير جنسه نظر: إن باع بما لا يوافقه في وصف الربا مثل أن باع مطعوما بأحد النقدين فلا ربا فيه، كما لو باعه بغير مال الربا، أو إن باعه بما يوافقه مع الوصف مثل أن باع الدراهم بالدنانير أو باع الحنطة بالشعير أو باع مطعوما بمطعوم آخر من غير جنسه فلا يثبت فيه ربا الفضل حتى يجوز متفاضلا أو جُزَافًا ويثبت فيه ربا النساء حتى يشترط التقابض في المجلس، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تبيعوا الذهب بالذهب- إلى أن قال- إلا سواء بسواء» فيه إيجاب المماثلة وتحريم الفضل عند اتفاق الجنس، وقوله: «عينا بعين» فيه تحريم النساء، وقوله: «يدا بيد كيف شئتم» فيه إطلاق التفاضل عند اختلاف الجنس مع إيجاب التقابض في المجلس، هذا في ربا المبايعة.
ومن أقرض شيئا بشرط أن يرد عليه أفضل فهو قرض جر منفعة وكل قرض جر منفعة فهو ربا.
قوله تعالى: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ} تذكير وتخويف، وإنما ذكر الفعل ردا إلى الوعظ {فَانْتَهَى} عن أكل الربا {فَلَهُ مَا سَلَفَ} أي ما مضى من ذنبه قبل النهي مغفور له {وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} بعد النهي إن شاء عصمه حيث يثبت على الانتهاء، وإن شاء خذله حتى يعود، وقيل: {مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} فيما يأمره وينهاه ويحل له ويحرم عليه وليس إليه من أمر نفسه شيء {وَمَنْ عَادَ} بعد التحريم إلى أكل الربا مستحلا له {فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل، أخبرنا محمد بن المثنى حدثني غندر، أخبرنا شعبة عن عون بن أبي جحيفة عن أبيه أنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الدم وثمن الكلب وكسب البغي، ولعن آكل الربا وموكله والواشمة والمستوشمة والمصور.
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر الجرجاني، أخبرنا عبد الغافر بن محمد الفارسي، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي أخبرنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، أخبرنا مسلم بن الحجاج، أخبرنا زهير بن حرب، أخبرنا هشيم أخبرنا أبو الزبير عن جابر رضي الله عنه قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه، وقال: «هم سواء».
أخبرنا أبو سعيد الشريحي، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي، أنا أبو محمد المخلدي، أنا أبو حامد بن الشرقي أخبرنا أحمد بن يوسف السلمي، أخبرنا النضر بن محمد، أخبرنا عكرمة بن عمار، أخبرنا يحيى هو ابن أبي كثير قال: حدثني أبو سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الربا سبعون بابا أهونها عند الله عز وجل كالذي ينكح أمه».
قوله تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا} أي ينقصه ويهلكه ويذهب ببركته، وقال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا} يعني لا يقبل منه صدقة ولا جهادا ولا حجة ولا صلة {وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} أي يثمرها ويبارك فيها في الدنيا، ويضاعف بها الأجر والثواب في العقبى {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ} بتحريم الربا {أَثِيم} فاجر بأكله.