فصل: تفسير الآيات (278- 281):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآيات (278- 281):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (281)}
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} قال عطاء وعكرمة: نزلت في العباس بن عبد المطلب وعثمان بن عفان رضي الله عنهما وكانا قد أسلفا في التمر فلما حضر الجذاذ قال لهما صاحب التمر: إن أنتما أخذتما حقكما لا يبقى لي ما يكفي عيالي فهل لكما أن تأخذا النصف وتؤخرا النصف وأضعف لكما؟ ففعلا فلما حل الأجل طلبا الزيادة، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهاهما فأنزل الله تعالى هذه الآية فسمعا وأطاعا وأخذا رءوس أموالهما.
وقال السدي: نزلت في العباس وخالد بن الوليد وكانا شريكين في الجاهلية يسلفان في الربا إلى بني عمرو بن عمير، ناس من ثقيف، فجاء الإسلام ولهما أموال عظيمة في الربا فأنزل الله تعالى هذه الآية فقال النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع في خطبته يوم عرفة: «ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث، كان مسترضعا في بني سعد فقتله هذيل، وربا الجاهلية كلها، وأول ربا أضع ربا العباس بن عبد المطلب فإنها موضوعة كلها».
وقال مقاتل: نزلت في أربعة إخوة من ثقيف، مسعود وعبد ياليل وحبيب وربيعة وهم بنو عمرو بن عمير بن عوف الثقفي، كانوا يداينون بني المغيرة بن عبد الله بن عمير بن مخزوم وكانوا يربون فلما ظهر النبي صلى الله عليه وسلم على الطائف أسلم هؤلاء الإخوة فطلبوا رباهم من بني المغيرة، فقال بنو المغيرة: والله ما نعطي الربا في الإسلام وقد وضعه الله تعالى عن المؤمنين، فاختصموا إلى عتاب بن أسيد وكان عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم على مكة فكتب عتاب بن أسيد إلى النبي صلى الله عليه وسلم بقصة الفريقين وكان ذلك مالا عظيما فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا}.
{إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}.
{فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا} أي إذا لم تذروا ما بقي من الربا {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} قرأ حمزة وعاصم برواية أبي بكر فآذنوا بالمد على وزن آمنوا، أي فأعلموا غيركم أنكم حرب لله ورسوله، وأصله من الأذن أي أوقعوا في الآذان، وقرأ الآخرون فأذنوا مقصورا بفتح الذال أي فاعلموا أنتم وأيقنوا بحرب من الله ورسوله، وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما: يقال لآكل الربا يوم القيامة خذ سلاحك للحرب، قال أهل المعاني: حرب الله: النار وحرب رسول الله: السيف.
{وَإِنْ تُبْتُمْ} أي تركتم استحلال الربا ورجعتم عنه {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ} بطلب الزيادة {وَلا تُظْلَمُونَ} بالنقصان عن رأس المال فلما نزلت الآية قال بنو عمرو الثقفي ومن كان يعامل بالربا من غيرهم: بل نتوب إلى الله، فإنه لا يدان لنا بحرب الله ورسوله، فرضوا برأس المال، فشكا بنو المغيرة العسرة وقالوا: أخرونا إلى أن تدرك الغلات فأبوا أن يؤخروا فأنزل الله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ}.
يعني وإن كان الذي عليه الدين معسرا، رفع الكلام باسم كان ولم يأت لها بخير وذلك جائز في النكرة، تقول، إن كان رجلا صالحا فاكرمه، وقيل {كان} بمعنى وقع، وحينئذ لا يحتاج إلى خبر، قرأ أبو جعفر عسرة بضم السين {فَنَظِرَة} أمر في صيغة الخبر تقديره فعليه نظرة {إِلَى مَيْسَرَةٍ} قرأ نافع ميسرة بضم السين وقرأ الآخرون بفتحها وقرأ مجاهد ميسرة بضم السين مضافا ومعناها اليسار والسعة {وَأَنْ تَصَدَّقُوا} أي تتركوا رءوس أموالكم إلى المعسر {خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} قرأ عاصم تصدقوا بتخفيف الصاد والآخرون بتشديدها.
أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي، أخبرنا أبو الطيب سهل بن محمد بن سليمان، أخبرنا أبو العباس إسماعيل بن عبد الله الميكالي، أخبرنا عبد الله بن أحمد بن موسى بن عبدان الحافظ، أخبرنا أبو طاهر أحمد بن عمرو بن السرح، أخبرنا ابن وهب عن جرير عن حازم عن أيوب عن يحيى بن أبي كثير عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه أنه كان يطلب رجلا بحق فاختبأ منه فقال: ما حملك على ذلك قال: العسرة، فاستحلفه على ذلك فحلف فدعا بصكه فأعطاه إياه وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من أنظر معسرا أو وضع عنه أنجاه الله من كرب يوم القيامة».
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أبو منصور محمد بن سمعان أخبرنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني، أخبرنا حميد بن زنجويه، أخبرنا عبيد الله بن موسى، أخبرنا إسرائيل عن منصور عن ربعي عن أبي مسعود رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الملائكة لتلقت روح رجل كان قبلكم فقالوا هل عملت خيرا قط؟ قال: لا قالوا: تذكر، قال: لا إلا أني رجل كنت أداين الناس فكنت آمر فتياني أن ينظروا الموسر ويتجاوزوا عن المعسر، قال الله تبارك وتعالى: تجاوزوا عنه».
أخبرنا عبد الواحد بن المليحي، أخبرنا أبو منصور السمعاني أخبرنا أبو جعفر الرياني، أخبرنا حميد بن زنجويه، أخبرنا أحمد بن عبد الله، أخبرنا زائدة عن عبد الملك بن عمير عن ربعي عن أبي اليسر قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «من أنظر معسرا أو وضع عنه أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله».
فصل في الدين وحسن قضائه وتشديد أمره.
أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا أبو الوليد، أخبرنا شعبة، أخبرنا سلمة بن كهيل قال: سمعت أبا سلمة بمنى يحدث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلا تقاضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأغلظ له فهم به أصحابه فقال: دعوه فإن لصاحب الحق مقالا واشتروا له بعيرا فأعطوه إياه، قالوا: لا نجد إلا أفضل من سنه قال: «اشتروه فأعطوه إياه فإن خياركم أحسنكم قضاء».
أخبرنا أبو الحسن السرخسي، أخبرنا زاهر بن أحمد السرخسي، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي، أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مطل الغني ظلم وإذا أتبع أحدكم على ملئ فليتبع».
أخبرنأ عبد الوهاب بن محمد الخطيب، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال، أخبرنا أبو العباس الأصم، أخبرنا الربيع، أخبرنا الشافعي، أخبرنا إبراهيم بن سعيد بن إبراهيم عن أبيه عن عمر بن أبي سلمة عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه».
أخبرنا أبو الحسن السرخسي، أخبرنا زاهر بن أحمد السرخسي، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي، أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن عبد الله بن أبي قتادة الأنصاري عن أبيه أنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أرأيت إن قتلت في سبيل الله صابرا محتسبا، مقبلا غير مدبر، يكفر الله عني خطاياي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم» فلما أدبر ناداه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أمر به فنودي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كيف قلت؟» فأعاد عليه قوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم إلا الدين كذلك قال جبريل».
قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} قرأ أهل البصرة بفتح التاء أي تصيرون إلى الله، وقرأ الآخرون بضم التاء وفتح الجيم، أي: تردون إلى الله تعالى: {ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} قال ابن عباس رضي الله عنهما: هذه آخر آية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له جبريل عليه السلام ضعها على رأس مائتين وثمانين آية من سورة البقرة وعاش بعدها رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدا وعشرين يوما، وقال ابن جريج: تسع ليال، وقال سعيد بن جبير: سبع ليال، ومات يوم الاثنين لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول حين زاغت الشمس سنة إحدى عشرة من الهجرة، قال الشعبي عن ابن عباس رضي الله عنهما آخر آية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية الربا.

.تفسير الآية رقم (282):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخْرَى وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلا تَرْتَابُوا إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)}
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} قال ابن عباس رضي الله عنهما لما حرم الله الربا أباح السلم وقال: أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى قد أحله الله تعالى في كتابه وأذن فيه ثم قال: {يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه}.
قوله: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ} أي تعاملتم بالدين، يقال: داينته إذا عاملته بالدين وإنما قال: {بِدَيْن} بعد قوله تداينتم لأن المداينة قد تكون مجازاة وقد تكون معاطاة فقيده بالدين ليعرف المراد من اللفظ، وقيل: ذكره تأكيدا كقوله تعالى: {ولا طائر يطير بجناحيه} [38- الأنعام] {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} الأجل مدة معلومة الأول والآخر، والأجل يلزم في الثمن في البيع وفي السلم حتى لا يكون لصاحب الحق الطلب قبل محله، وفي القرض لا يلزم الأجل عن أكثر أهل العلم {فَاكْتُبُوه} أي اكتبوا الذي تداينتم به، بيعا كان أو سلما أو قرضا.
واختلفوا في هذه الكتابة: فقال بعضهم: هي واجبة، والأكثرون على أنه أمر استحباب فإن ترك فلا بأس كقوله تعالى: {فإذا قضيتم الصلاة فانتشروا في الأرض} [10- الجمعة] وقال بعضهم كانت كتابة الدين والإشهاد والرهن فرضا ثم نسخ الكل بقوله: {فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي ائتمن أمانته} وهو قول الشعبي ثم بين كيفية الكتابة فقال جل ذكره {وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ} أي ليكتب كتاب الدين بين الطالب والمطلوب {كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ} أي بالحق من غير زيادة ولا نقصان ولا تقديم أجل ولا تأخير {وَلا يَأْبَ} أي لا يمتنع {كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ} واختلفوا في وجوب الكتابة على الكاتب وتحمل الشهادة على الشاهد، فذهب قوم إلى وجوبها إذا طولب وهو قول مجاهد، وقال الحسن تجب إذا لم يكن كاتب غيره، وقال قوم هو على الندب والاستحباب، وقال الضحاك كانت عزيمة واجبة على الكاتب والشاهد فنسخها قوله تعالى: {ولا يضار كاتب ولا شهيد} {كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ} أي كما شرعه الله وأمره {فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} يعني: المطلوب يقر على نفسه بلسانه ليعلم ما عليه، والإملال والإملاء لغتان فصيحتان معناهما واحد، جاء بهما القرآن، فالإملال هاهنا، والإملاء قوله تعالى: {فهي تملى عليه بكرة وأصيلا} [5- الفرقان] {وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ} يعني الممل {وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا} أي ولا ينقص منه، أي من الحق الذي عليه شيئا.
{فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا} أي جاهلا بالإملاء، قاله مجاهد، وقال الضحاك والسدي: طفلا صغيرا، وقال الشافعي رحمه الله، السفيه: المبذر المفسد لماله أو في دينه.
قوله: {أَوْ ضَعِيفًا} أي شيخا كبيرا وقيل هو ضعيف العقل لعته أو جنون {أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ} لخرس أو عي أو عجمة أو حبس أو غيبة لا يمكنه حضور الكاتب أو جهل بما له وعليه {فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ} أي قيمه {بِالْعَدْل} أي بالصدق والحق، وقال ابن عباس رضي الله عنه ومقاتل: أراد بالولي صاحب الحق، يعني إن عجز من عليه الحق من الإملال فليملل ولي الحق وصاحب الدين بالعدل لأنه أعلم بحقه، {وَاسْتَشْهِدُوا} أي وأشهدوا {شَهِيدَيْن} أي شاهدين {مِنْ رِجَالِكُمْ} يعني الأحرار المسلمين، دون العبيد والصبيان والكفار، وهو قول أكثر أهل العلم، وأجاز شريح وابن سيرين شهادة العبيد {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ} أي لم يكن الشاهدان رجلين {فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} أي فليشهد رجل وامرأتان.
وأجمع الفقهاء على أن شهادة النساء جائزة مع الرجال في الأموال حتى تثبت برجل وامرأتين واختلفوا في غير الأموال فذهب جماعة إلى أنه تجوز شهادتهن مع الرجال في غير العقوبات، وهو قول سفيان الثوري وأصحاب الرأي، وذهب جماعة إلى أن غير المال لا يثبت إلا برجلين عدلين وذهب الشافعي رحمه الله إلى أن ما يطلع عليه النساء غالبا كالولادة والرضاع والثيوبة والبكارة ونحوها يثبت بشهادة رجل وامرأتين، وبشهادة أربع نسوة، واتفقوا على أن شهادة النساء غير جائزة في العقوبات.
قوله تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} يعني من كان مرضيا في ديانته وأمانته، وشرائط قبول الشهادة سبعة: الإسلام والحرية والعقل والبلوغ والعدالة والمروءة وانتفاء التهمة، فشهادة الكافر مردودة لأن المعروفين بالكذب عند الناس لا تجوز شهادتهم، فالذي يكذب على الله تعالى أولى أن يكون مردود الشهادة، وجوز أصحاب الرأي شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض، ولا تقبل شهادة العبيد، وأجازها شريح وابن سيرين وهو قول أنس بن مالك رضي الله عنه، ولا قول للمجنون حتى يكون له شهادة، ولا تجوز شهادة الصبيان سئل ابن عباس رضي الله عنهما عن ذلك؟ فقال: لا تجوز، لأن الله تعالى يقول: {ممن ترضون من الشهداء} والعدالة شرط، وهي أن يكون الشاهد مجتنبا للكبائر غير مصر على الصغائر، والمروءة شرط، وهي ما يتصل بآداب النفس مما يعلم أن تاركه قليل الحياء، وهي حسن الهيئة والسيرة والعشرة والصناعة، فإن كان الرجل يظهر من نفسه شيء منها ما يستحي أمثاله من إظهاره في الأغلب يعلم به قلة مروءته وترد شهادته، وانتفاء التهمة شرط حتى لا تقبل شهادة العدو على العدو وإن كان مقبول الشهادة على غيره، لأنه متهم في حق عدوه، ولا تقبل شهادة الرجل لولده ووالده وإن كان مقبول الشهادة عليهما، ولا تقبل شهادة من يجر بشهادته إلى نفسه نفعا، كالوارث يشهد على رجل يقتل مورثه، أو يدفع عن نفسه بشهادته ضررا كالمشهود عليه يشهد بجرح من يشهد عليه لتمكن التهمة في شهادته.
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الحسن المروزي، أخبرنا أبو العباس أحمد بن محمد بن سراج الطحان أخبرنا أبو أحمد محمد بن قريش بن سليمان، أخبرنا علي بن عبد العزيز المكي، أخبرنا أبو عبيد القاسم بن سلام أخبرنا مروان الفزاري عن شيخ من أهل الحيرة يقال له يزيد بن زياد عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها ترفعه: «لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا ذي غمر على أخيه ولا ظنين في ولاء ولا قرابة ولا القانع مع أهل البيت».
قوله تعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا} قرأ حمزة إن تضل بكسر الألف {فَتُذَكِّرَ} برفع الراء، ومعناه الجزاء والابتداء، وموضع تضل جزم بالجزاء إلا أنه لا يتبين في التضعيف {فتذكر} رفع لأن ما بعد فاء الجزاء مبتدأ، وقراءة العامة بفتح الألف ونصب الراء على الاتصال بالكلام الأول، وتضل محله نصب بأن فتذكر منسوق عليه، ومعنى الآية: فرجل وامرأتان كي تذكر {إِحْدَاهُمَا الأخْرَى} ومعنى تضل أي تنسى، يريد إذا نسيت إحداهما شهادتها، تذكرها الأخرى فتقول ألسنا حضرنا مجلس كذا وسمعنا كذا؟ قرأ ابن كثير وأهل البصرة: فتذكر مخففا، وقرأ الباقون مشددا، وذكر واذكر بمعنى واحد، وهما متعديان من الذكر الذي هو ضد النسيان، وحكي عن سفيان بن عيينة أنه قال: هو من الذكر أي تجعل إحداهما الأخرى ذكرا أي تصير شهادتهما كشهادة ذكر، والأول أصح لأنه معطوف على النسيان.
قوله تعالى: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} قيل أراد به إذا ما دعوا لتحمل الشهادة، سماهم شهداء على معنى أنهم يكونون شهداء وهو أمر إيجاب عند بعضهم، وقال قوم: تجب الإجابة إذا لم يكن غيره فإن وجد غيره فهو مخير وهو قول الحسن، وقال قوم: هو أمر ندب وهو مخير في جميع الأحوال، وقال بعضهم، هذا في إقامة الشهادة وأدائها فمعنى الآية {ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا} لأداء الشهادة التي تحملوها، وهو قول مجاهد وعطاء وعكرمة وسعيد بن جبير، وقال الشعبي: الشاهد بالخيار ما لم يشهد، وقال الحسن: الآية في الأمرين جميعا في التحمل والإقامة إذا كان فارغا.