فصل: تفسير الآية رقم (283):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآية رقم (283):

{وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)}
{وَلا تَسْأَمُوا} أي ولا تملوا {أَنْ تَكْتُبُوهُ} والهاء راجعة إلى الحق {صَغِيرًا} كان الحق {أَوْ كَبِيرًا} قليلا كان أو كثيرا {إِلَى أَجَلِهِ} إلى محل الحق {ذَلِكُم} أي الكتاب {أَقْسَط} أعدل {عِنْدِ اللَّهِ} لأنه أمر به، واتباع أمره أعدل من تركه {وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ} لأن الكتابة تذكر الشهود {وَأَدْنَى} وأحرى وأقرب إلى {أَلا تَرْتَابُوا} تشكوا في الشهادة {إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً} قرأهما عاصم بالنصب على خبر كان وأضمر الاسم، مجازه: إلا أن تكون التجارة تجارة {حاضرة} أو المبايعة تجارة، وقرأ الباقون بالرفع وله وجهان:
أحدهما: أن تجعل الكون بمعنى الوقوع معناه إلا أن تقع تجارة.
والثاني: أن تجعل الاسم في التجارة والخبر في الفعل وهو قوله: {تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ} تقديره إلا أن تكون تجارة حاضرة دائرة بينكم، ومعنى الآية إلا أن تكون تجارة حاضرة يدا بيد تديرونها بينكم ليس فيها أجل {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلا لا تكتبوها} يعني التجارة {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} قال الضحاك: هو عزم من الله تعالى، والإشهاد واجب في صغير الحق وكبيره نقدا أو نسيئا، وقال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: الأمر فيه إلى الأمانة لقوله تعالى: {فإن أمن بعضكم بعضا} الآية، وقال الآخرون هو أمر ندب.
قوله تعالى: {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} هذا نهي للغائب، وأصله يضارر، فأدغمت إحدى الرائين في الأخرى ونصبت لحق التضعيف لاجتماع الساكنين، واختلفوا فيه فمنهم من قال: أصله يضارر بكسر الراء الأولى، وجعل الفعل للكاتب والشهيد، معناه لا يضار الكاتب فيأبى أن يكتب ولا الشهيد فيأبى أن يشهد، ولا يضار الكاتب فيزيد أو ينقص أو يحرف ما أملي عليه ولا الشهيد فيشهد بما لم يستشهد عليه، وهذا قول طاووس والحسن وقتادة، وقال قوم: أصله يضارر بفتح الراء على الفعل المجهول وجعلوا الكاتب والشهيد مفعولين ومعناه أن يدعو الرجل الكاتب أو الشاهد وهما على شغل مهم، فيقولان: نحن على شغل مهم فاطلب غيرنا فيقول الداعي إن الله أمركما أن تجيبا ويلح عليهما فيشغلهما عن حاجتهما فنهي عن ذلك وأمر بطلب غيرهما {وَإِنْ تَفْعَلُوا} ما نهيتكم عنه من الضرر {فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ} أي معصية وخروج عن الأمر {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.
{وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} قرأ ابن كثير وأبو عمرو فرهن بضم الهاء والراء، وقرأ الباقون فرهان، وهو جمع رهن مثل بغل وبغال وجبل وجبال، والرهن جمع الرهان جمع الجمع، قاله الفراء والكسائي، وقال أبو عبيد وغيره: هو جمع الرهن أيضا مثل سقف وسقف وقال أبو عمرو وإنما قرأنا فرهن ليكون فرقا بينهما وبين رهان الخيل، وقرأ عكرمة فرهن بضم الراء وسكون الهاء، والتخفيف والتثقيل في الرهن لغتان مثل كتب وكتب ورسل ورسل ومعنى الآية: وإن كنتم على سفر ولم تجدوا آلات الكاتبة فارتهنوا ممن تداينونه رهونا لتكون وثيقة لكم بأموالكم، واتفقوا على أن الرهن لا يتم إلا بالقبض، وقوله: {فرهن مقبوضة} أي ارتهنوا واقبضوا حتى لو رهن ولم يسلم فلا يجبر الراهن على التسليم فإذا سلم لزم من جهة الراهن حتى لا يجوز له أن يسترجعه ما دام شيء من الحق باقيا، ويجوز في الحضر الرهن مع وجود الكاتب، وقال مجاهد: لا يجوز الرهن إلا في السفر عند عدم الكاتب لظاهر الآية، وعند الآخرين خرج الكلام في الآية على الأعم الأغلب لا على سبيل الشرط.
والدليل عليه ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم رهن درعه عند أبي الشحم اليهودي ولم يكن ذلك في السفر ولا عند عدم كاتب {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} وفي حرف أبي {فإن ائتمن} يعني فإن كان الذي عليه الحق أمينا عند صاحب الحق فلم يرتهن منه شيئا لحسن ظنه به.
{فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَه} أي فليقضه على الأمانة {وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ} في أداء الحق، ثم رجع إلى خطاب الشهود وقال: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} إذا دعيتم إلى إقامتها نهى عن كتمان الشهادة وأوعد عليه فقال: {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} أي فاجر قلبه، قيل: ما أوعد الله على شيء كإيعاده على كتمان الشهادة، قال: {فإنه آثم قلبه} وأراد به مسخ القلب، نعوذ بالله من ذلك {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ} بيان الشهادة وكتمانها {عَلِيمٌ}.

.تفسير الآية رقم (284):

{لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)}
{لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ} ملكا وأهلها له عبيد وهو مالكهم {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} اختلف العلماء في هذه الآية، فقال قوم: هي خاصة ثم اختلفوا في وجه خصوصها فقال بعضهم: هي متصلة بالآية الأولى نزلت في كتمان الشهادة أو تخفوا الكتمان يحاسبكم به الله وهو قول الشعبي وعكرمة، وقال بعضهم: نزلت فيمن يتولى الكافرين دون المؤمنين، يعني وإن تعلنوا ما في أنفسكم من ولاية الكفار أو تسروا يحاسبكم به الله، وهو قول مقاتل كما ذكر في سورة آل عمران {لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين} إلى أن قال: {قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله} [29- آل عمران].

.تفسير الآيات (285- 286):

{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)}
وذهب الأكثرون إلى أن الآية عامة ثم اختلفوا فيها فقال قوم: هي منسوخة بالآية التي بعدها.
والدليل عليه ما أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر، أخبرنا عبد الغافر بن محمد، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، أنا مسلم بن الحجاج، حدثني محمد بن المنهال الضرير وأمية بن بسطام العيشي واللفظ له قالا أخبرنا يزيد بن زريع أنا روح وهو ابن القاسم عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم {لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله} الآية قال: اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بركوا على الركب فقالوا: أي رسول الله صلى الله عليه وسلم كلفنا من الأعمال ما نطيق: الصلاة والصيام والجهاد والصدقة، وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا، بل قولوا {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} فلما قرأها القوم وذلت بها ألسنتهم أنزل الله في أثرها {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} قال نعم {رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} قال نعم {رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} قال نعم {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} قال نعم».
وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما بمعناه، وقال في كل ذلك: قد فعلت، بدل قوله نعم، وهذا قول ابن مسعود وابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم وإليه ذهب محمد بن سيرين ومحمد ابن كعب وقتادة والكلبي.
أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي، أخبرنا أبو محمد عبد الله بن يوسف الأصفهاني، أخبرنا أبو بكر أحمد بن إسحاق الفقيه، أخبرنا يعقوب بن يوسف القزويني، أخبرنا القاسم بن الحكم العرني، أخبرنا مسعر بن كدام عن قتادة عن زرارة بن أوفى عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله عز وجل تجاوز عن أمتي ما وسوست به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل به».
وقال بعضهم الآية غير منسوخة لأن النسخ لا يرد على الأخبار إنما يرد على الأمر والنهي وقوله: {يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} خبر لا يرد عليه النسخ، ثم اختلفوا في تأويلها فقال قوم: قد أثبت الله تعالى للقلب كسبا فقال: {بما كسبت قلوبكم} [225- البقرة] فليس لله عبد أسَرّ عملا أو أعلنه من حركة من جوارحه أو همسة في قلبه إلا يخبره الله به ويحاسبه عليه ثم يغفر ما يشاء ويعذب بما يشاء، وهذا معنى قول الحسن يدل عليه قوله تعالى: {إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا} [36- الإسراء]. وقال الآخرون: معنى الآية أن الله عز وجل يحاسب خلقه بجميع ما أبدوا من أعمالهم أو أخفوه ويعاقبهم عليه، غير أن معاقبته على ما أخفوه مما لم يعلموه بما يحدث لهم في الدنيا من النوائب والمصائب والأمور التي يحزنون عليها وهذا قول عائشة رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية فقال: «يا عائشة هذه معاتبة الله العبد بما يصيبه من الحمى والنكبة حتى الشوكة والبضاعة يضعها في كمه فيفقدها فيروع لها حتى إن المؤمن يخرج من ذنوبه كما يخرج التبر الأحمر من الكير».
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أبو منصور السمعاني أخبرنا أبو جعفر الرياني، أخبرنا حميد بن زنجويه، أخبرنا عبد الله بن صالح، حدثني الليث، حدثني يزيد بن أبي حبيب عن سعيد بن سنان عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد الله بعبده الشر أمسك عليه بذنبه حتى يوافيه به يوم القيامة».
وقال بعضهم {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ} يعني ما في قلوبكم مما عزمتم عليه {أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} ولا تبدوه وأنتم عازمون عليه يحاسبكم به الله فأما ما حدثت به أنفسكم مما لم تعزموا عليه فإن ذلك مما لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ولا يؤاخذكم به، دليله قوله تعالى: {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم} [225- البقرة].
وقال عبد الله بن المبارك: قلت لسفيان: أيؤاخذ العبد بالهمَّة قال: إذا كان عزما أخذ بها، وقيل معنى المحاسبة الإخبار والتعريف، ومعنى الآية: وإن تبدوا ما في أنفسكم فتعملوا به أو تخفوه مما أضمرتم ونويتم يحاسبكم به الله ويجزيكم به ويعرفكم إياه، ثم يغفر للمؤمنين إظهارا لفضله، ويعذب الكافرين إظهارا لعدله، وهذا معنى قول الضحاك، ويروى ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما، يدل عليه أنه قال: يحاسبكم به الله ولم يقل يؤاخذكم به، والمحاسبة غير المؤاخذة والدليل عليه ما أخبرنا أبو طاهر محمد بن علي الزراد، أخبرنا أبو القاسم علي بن أحمد الخزاعي، أنا أبو سعيد الهيثم بن كليب، أنا عيسى بن أحمد العسقلاني، أنا يزيد بن هارون، أنا همام بن يحيى عن قتادة عن صفوان بن محرز قال: كنت آخذا بيد عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما فأتاه رجل فقال: كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى؟ فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله تعالى يدني المؤمن يوم القيامة حتى يضع عليه كنفه يستره من الناس فيقول: أي عبدي أتعرف ذنب كذا وكذا؟ فيقول: نعم أي رب ثم يقول أي عبدي تعرف ذنب كذا وكذا؟ فيقول: نعم أي رب، حتى إذا قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنه قد هلك، قال فإني سترتها عليك في الدنيا وقد غفرتها لك اليوم، ثم يعطى كتاب حسناته، وأما الكافر والمنافقون فيقول الأشهاد: {هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين} [18- هود]».
قوله تعالى: {فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} رفع الراء والياء أبو جعفر وابن عامر وعاصم ويعقوب وجزمهما الآخرون، فالرفع على الابتداء والجزم على النسق، روى طاووس عن ابن عباس رضي الله عنهما، فيغفر لمن يشاء الذنب العظيم ويعذب من يشاء على الذنب الصغير، {لا يُسْأَلُ عما يفعل وهم يُسْألون والله على كل شيء قدير} [230- الأنبياء]. قوله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ} أي صدق {بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ} يعني كل واحد منهم، ولذلك وحَّد الفعل {وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} قرأ حمزة والكسائي: كتابه، على الواحد يعني القرآن، وقيل معناه الجمع وإن ذكر بلفظ التوحيد كقوله تعالى: {فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب} [213- البقرة] وقرأ الآخرون وكتبه بالجمع كقوله تعالى: {وملائكته وكتبه ورسله} [136- النساء]، {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} فنؤمن ببعض ونكفر ببعض كما فعلت اليهود والنصارى، وفيه إضمار تقديره يقولون لا نفرق، وقرأ يعقوب لا يفرق بالياء فيكون خبرا عن الرسول، أو معناه لا يفرق الكل وإنما قال: {بين أحد} ولم يقل بين آحاد لأن الأحد يكون للواحد والجمع قال الله تعالى: {فما منكم من أحد عنه حاجزين} [47- الحاقة] {وَقَالُوا سَمِعْنَا} قولك {وَأَطَعْنَا} أمرك.
روي عن حكيم عن جابر رضي الله عنهما أن جبريل عليه السلام قال للنبي صلى الله عليه وسلم حين نزلت هذه الآية: إن الله قد أثنى عليك وعلى أمتك فسل تعطه، فسأل بتلقين الله تعالى فقال: {غُفْرَانَكَ} وهو نصب على المصدر أي اغفر غفرانك، أو نسألك غفرانك {رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِير لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} ظاهر الآية قضاء الحاجة، وفيها إضمار السؤال كأنه قال: وقالوا لا تكلفنا إلا وسعنا، وأجاب أي لا يكلف الله نفسا إلا وسعها أي طاقتها، والوسع: اسم لما يسع الإنسان ولا يضيق عليه، واختلفوا في تأويله فذهب ابن عباس رضي الله عنه وعطاء وأكثر المفسرين إلى أنه أراد به حديث النفس الذي ذكر في قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ} كما ذكرنا، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: هم المؤمنون خاصة، وسَّع عليهم أمر دينهم ولم يكلفهم فيه إلا ما يستطيعون كما قال الله تعالى: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} [185- البقرة] وقال الله تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} [78- الحج] وسئل سفيان بن عيينة عن قوله عز وجل: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} قال: إلا يسرها ولم يكلفها فوق طاقتها، وهذا قول حسن لأن الوسع ما دون الطاقة.
قوله تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ} أي للنفس ما عملت من الخير، لها أجره وثوابه {وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} من الشر وعليها وزره {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا} أي لا تعاقبنا {إِنْ نَسِينَا} جعله بعضهم من النسيان الذي هو السهو، قال الكلبي كانت بنو إسرائيل إذا نسوا شيئا مما أمروا به أو أخطأوا عجلت لهم العقوبة، فحرم عليهم من شيء من مطعم أو مشرب على حسب ذلك الذنب، فأمر الله المؤمنين أن يسألوه ترك مؤاخذتهم بذلك، وقيل هو من النسيان الذي هو الترك كقوله تعالى: {نسوا الله فنسيهم} [67- التوبة].
قوله تعالى: {أَوْ أَخْطَأْنَا} قيل معناه القصد والعمد يقال: أخطأ فلان إذا تعمد، قال الله تعالى: {إنَّ قتلهم كان خطأ كبيرا} [31- الإسراء] قال عطاء: إن نسينا أو أخطأنا يعني: إن جهلنا أو تعمدنا، وجعله الأكثرون من الخطأ الذي هو الجهل والسهو، لأن ما كان عمدا من الذنب فغير معفو عنه بل هو في مشيئة الله، والخطأ معفو عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه».
قوله تعالى: {رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا} أي عهدا ثقيلا وميثاقا لا نستطيع القيام به فتعذبنا بنقضه وتركه {كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} يعني اليهود، فلم يقوموا به فعذبتهم، هذا قول مجاهد وعطاء وقتادة والسدى والكلبي وجماعة. يدل عليه قوله تعالى: {وأخذتم على ذلكم إصري} [81- آل عمران] أي عهدي، وقيل: معناه لا تشدد ولا تغلظ الأمر علينا كما شددت على من قبلنا من اليهود، وذلك أن الله فرض عليهم خمسين صلاة وأمرهم بأداء ربع أموالهم في الزكاة ومن أصاب ثوبه نجاسة قطعها ومن أصاب ذنبا أصبح وذنبه مكتوب على بابه ونحوها من الأثقال والأغلال، وهذا معنى قول عثمان وعطاء ومالك بن أنس وأبي عبيدة وجماعة. يدل عليه قوله تعالى: {ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم} [157- الأعراف] وقيل: الإصر ذنب لا توبة له، معناه اعصمنا من مثله، والأصل فيه العقل والإحكام.
قوله تعالى: {رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} أي لا تكلفنا من الأعمال ما لا نطيقه وقيل هو حديث النفس والوسوسة حكي عن مكحول أنه قال: هو الغلمة، قيل الغُلْمة: شدة الشهوة، وعن إبراهيم قال: هو الحب، وعن محمد بن عبد الوهاب قال: العشق وقال ابن جريج: هو مسخ القردة والخنازير وقيل هو شماتة الأعداء، وقيل: هو الفرقة والقطيعة نعوذ بالله منها.
قوله تعالى: {وَاعْفُ عَنَّا} أي تجاوز وامْحُ عنا ذنوبنا {وَاغْفِرْ لَنَا} استر علينا ذنوبنا ولا تفضحنا {وَارْحَمْنَا} فإننا لا ننال العمل إلا بطاعتك، ولا نترك معصيتك إلا برحمتك {أَنْتَ مَوْلانَا} ناصرنا وحافظنا وولينا {فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}.
روى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله عز وجل: {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا} قال الله تعالى: «قد غفرت لكم» وفي قوله: {لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} قال: «لا أوأخذكم» {رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا} قال: «لا أحمل عليكم إصرا» {وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} قال: «لا أحملكم» {وَاعْفُ عَنَّا} إلى آخره قال: «قد عفوت عنكم، وغفرت لكم، ورحمتكم ونصرتكم على القوم الكافرين».
وكان معاذ بن جبل إذا ختم سورة البقرة قال: آمين.
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر، أنا عبد الغافر بن محمد، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي، أنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، أنا مسلم بن الحجاج، أنا أبو بكر بن أبي شيبة أنا أبو أسامة حدثني مالك بن مِغْوَل عن الزبير بن عدي عن طلحة بن علي بن مصرّف عن مرة عن عبد الله قال: لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى به إلى سدرة المنتهى وهي في السماء السادسة، إليها ينتهي ما يُعْرَجُ به من الأرض فَيُقْبَضُ منها، وإليها ينتهي ما يُهْبَطُ به فوقها فَيُقْبَضُ منها قال: {إذ يغشى السدرة ما يغشى} [16- النجم] قال: فراش من ذهب قال: وأعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا: الصلوات الخمس وأعطي خواتِيْمَ سُورةِ البقرة، وغُفِرَ لمن لا يشرك بالله من أمته شيئا من المُقْحَمَاتِ كبائر الذنوب.
أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي أنا أبو نعيم عبد الملك بن الحسين الإسفراييني أنا أبو عوانة يعقوب بن إسحاق الحافظ، أنا يونس وأحمد بن شيبان قالا ثنا سفيان بن عيينة عن منصور عن إبراهيم عن عبد الرحمن بن يزيد عن أبي مسعود رضي الله عنهم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الآيتان من آخر سورة البقرة من قرأ بهما في ليلة كَفَتَاهُ».
أخبرنا عبد الواحد المليحي، أنا أبو منصور السمعاني، أنا أبو جعفر الرياني، أخبرنا حميد بن زنجويه، أنا العلاء بن عبد الجبار، أنا حماد بن سلمة، أخبرنا الأشعث بن عبد الرحمن الجرمي، عن أبي قلابة عن أبي الأشعث الصنعاني، عن النعمان بن بشير رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تعالى كتب كتابا قبل أن يخلق السموات والأرض بألفي عام فأنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة فلا تقرآن في دار ثلاث ليال فيقربها شيطان».