فصل: تفسير الآيات (38- 39):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآيات (38- 39):

{هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39)}
قال الله تعالى: {هُنَالِكَ} أي عند ذلك {دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ} فدخل المحراب وأغلق الباب وناجى ربه {قَالَ رَبِّ} أي يا رب {هَبْ لِي} أعطني {مِنْ لَدُنْكَ} أي من عندك {ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} أي ولدا مباركًا تقيًا صالحًا رضيًا، والذرية تكون واحدًا وجمعًا ذكرًا وأنثى، وهو هاهنا واحد، بدليل قوله عز وجل: {فهب لي من لدنك وليًا} [5- مريم] وإنما قال: طيبة لتأنيث لفظ الذرية {إِنَّكَ سَمِيع الدُّعَاءِ} أي سامعه، وقيل مجيبه، كقوله تعالى: {إني آمنت بربكم فاسمعون} [25- يس] أي فأجيبوني {فَنَادَتْه الْمَلائِكَةُ} قرأ حمزة والكسائي فناداه بالياء، والآخرون بالتاء، فمن قرأ بالتاء فلتأنيث لفظ الملائكة وللجمع مع أن الذكور إذا تقدم فعلهم وهم جماعة كان التأنيث فيها أحسن كقوله تعالى: {قالت الأعراب} [14- الحجرات] وعن إبراهيم قال: كان عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما يُذَكِّر الملائكة في القرآن. قال أبو عبيدة: إنما نرى عبد الله اختار ذلك خلافا للمشركين في قولهم الملائكة بنات الله تعالى، وروى الشعبي أن ابن مسعود رضي الله عنه قال: إذا اختلفتم في التاء والياء فاجعلوها ياءً وذكِّروا القرآن.
وأراد بالملائكة هاهنا: جبريل عليه السلام وحده كقوله تعالى في سورة النحل {ينزل الملائكة} يعني جبريل {بالروح} بالوحي، ويجوز في العربية أن يخبر عن الواحد بلفظ الجمع كقولهم: سمعت هذا الخبر من الناس، وإنما سمع من واحد، نظيره قوله تعالى: {الذين قال لهم الناس} [173- آل عمران] يعني نعيم بن مسعود {إن الناس} يعني أبا سفيان بن حرب، وقال المفضل بن سلمة: إذا كان القائل رئيسا يجوز الإخبار عنه بالجمع لاجتماع أصحابه معه، وكان جبريل عليه السلام رئيس الملائكة وقلَّ ما يبعث إلا ومعه جمع، فجرى على ذلك.
قوله تعالى: {وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ} أي في المسجد وذلك أن زكريا كان الحبر الكبير الذي يقرب القربان، فيفتح باب المذبح فلا يدخلون حتى يأذن لهم في الدخول، فبينما هو قائم يصلي في المحراب، يعني في المسجد عند المذبح يصلي، والناس ينتظرون أن يأذن لهم في الدخول فإذا هو برجل شاب عليه ثياب بيض ففزع منه فناداه، وهو جبريل عليه السلام يا زكريا {إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ} قرأ ابن عامر وحمزة {إن الله} بكسر الألف على إضمار القول تقديره: فنادته الملائكة فقالت {إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ} وقرأ الآخرون بالفتح بإيقاع النداء عليه، كأنه قال: فنادته الملائكة بأن الله يبشرك، قرأ حمزة يبشرك وبابه بالتخفيف كل القرآن إلا قوله: {فبم تبشرون} [54- الحجر] فإنهم اتفقوا على تشديدها ووافقه الكسائي هاهنا في الموضعين وفي سبحان والكهف وعسق ووافق ابن كثير وأبو عمرو في {عسق} والباقون بالتشديد، فمن قرأ بالتشديد فهو من بشر يبشر تبشيرا، وهو أعرب اللغات وأفصحها. دليل التشديد قوله تعالى: {فبشر عباد} [الزمر- 17] {وبشرناه بإسحاق} [112- الصافات] {قالوا بشرناك بالحق} [55- الحجر] وغيرها من الآيات، ومن خفف فهو من بشر يبشر وهي لغة تهامة، وقرأه ابن مسعود رضي الله عنه {بِيَحْيَى} هو اسم لا يُجر لمعرفته وللزائد في أوله مثل يزيد ويعمر، وجمعه يحيون، مثل موسون وعيسون واختلفوا في أنه لم سُمي يحيى؟ قال ابن عباس رضي الله عنهما: لأن الله أحيا به عقر أمه، قال قتادة: لأن الله تعالى أحيا قلبه بالإيمان وقيل: لأن الله تعالى أحياه بالطاعة حتى لم يعص ولم يهم بمعصية {مُصَدِّقًا} نصب على الحال {بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ} يعني عيسى عليه السلام، سمي عيسى كلمة الله لأن الله تعالى قال له: كن من غير أب فكان، فوقع عليه اسم الكلمة لأنه بها كان، وقيل: سمي كلمة لأنه يهتدي به كما يهتدى بكلام الله تعالى، وقيل: هي بشارة الله تعالى مريم بعيسى عليه السلام بكلامه على لسان جبريل عليه السلام. وقيل: لأن الله تعالى أخبر الأنبياء بكلامه في كتبه أنه يخلق نبيا بلا أب، فسماه كلمة لحصوله بذلك الوعد. وكان يحيى عليه السلام أول من آمن بعيسى عليه السلام وصدقه، وكان يحيى عليه السلام أكبر من عيسى بستة أشهر، وكانا ابني الخالة، ثم قتل يحيى قبل أن يرفع عيسى عليه السلام. وقال أبو عبيدة {بكلمة من الله} أي بكتاب من الله وآياته، تقول العرب: أنشدني كلمة فلان أي قصيدته.
قوله تعالى: {وَسَيِّدًا} فعيل من ساد يسود وهو الرئيس الذي يتبع وينتهي إلى قوله، قال المفضل: أراد سيدا في الدين. قال الضحاك: السيد الحسن الخلق. قال سعيد بن جبير: السيد الذي يطيع ربه عز وجل. وقال سعيد بن المسيب: السيد الفقيه العالم، وقال قتادة: سيد في العلم والعبادة والورع، وقيل: الحليم الذي لا يغضبه شيء. قال مجاهد: الكريم على الله تعالى، وقال الضحاك: السيد التقي، قال سفيان الثوري: الذي لا يحسد وقيل: الذي يفوق قومه في جميع خصال الخير، وقيل: هو القانع بما قسم الله له. وقيل: السخي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سيدكم يا بني سلمة»؟ قالوا: جد بن قيس على أنّا نبخِّله قال: «وأي داء أدوأ من البخل، لكن سيدكم عمرو بن الجموح».
قوله تعالى: {وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} الحصور أصله من الحصر وهو الحبس. والحصور في قول ابن مسعود رضي الله عنه وابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة رضي الله عنهم وعطاء والحسن: الذي لا يأتي النساء ولا يقربهن، وهو على هذا القول فعول بمعنى فاعل يعني أنه يحصر نفسه عن الشهوات وقيل: هو الفقير الذي لا مال له فيكون الحصور بمعنى المحصور يعني الممنوع من النساء. قال سعيد بن المسيب: كان له مثل هدبة الثوب وقد تزوج مع ذلك ليكون أغض لبصره. وفيه قول آخر: أن الحصور هو الممتنع من الوطء مع القدرة عليه. واختار قوم هذا القول لوجهين {أحدهما}: لأن الكلام خرج مخرج الثناء، وهذا أقرب إلى استحقاق الثناء، و{الثاني}: أنه أبعد من إلحاق الآفة بالأنبياء.

.تفسير الآية رقم (40):

{قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40)}
قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ} أي يا سيدي، قال لجبريل عليه السلام، هذا قول الكلبي وجماعة، وقيل: قاله لله عز وجل: {أَنَّى يَكُونُ} أين يكون {لِي غُلامٌ} أي ابن {وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ} هذا من المقلوب أي وقد بلغت الكبر وشخت كما يقال بلغني الجهد أي أنا في الجهد، وقيل: معناه وقد الكبر وأدركني وأضعفني. قال الكلبي: كان زكريا يوم بُشِّر بالولد ابن ثنتين وتسعين سنة، وقيل: ابن تسع وتسعين سنة. وقال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما: كان ابن عشرين ومائة سنة، وكانت امرأته بنت ثمان وتسعين سنة فذلك قوله تعالى: {وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ} أي عقيم لا تلد يقال: رجل عاقر وامرأة عاقر، وقد عقر بضم القاف يعقر عقرًا، وعقارة {قَالَ كَذَلِكَ اللَّه يَفْعَل مَا يَشَاء} فإن قيل لم قال زكريا بعدما وعده الله تعالى: {أنى يكون لي غلام} أكان شاكا في وعد الله وفي قدرته؟ قيل: إن زكريا لما سمع نداء الملائكة جاءه الشيطان فقال: يا زكريا إن الصوت الذي سمعت ليس هو من الله إنما هو من الشيطان، ولو كان من الله لأوحاه إليك كما يوحي إليك في سائر الأمور، فقال ذلك دفعًا للوسوسة، قاله عكرمة والسدي، وجواب آخر: وهو أنه لم يشك في وعد الله إنما شك في كيفيته أي كيف ذلك؟

.تفسير الآيات (41- 42):

{قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإبْكَارِ (41) وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42)}
قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً} أي علامة أعلم بها وقت حمل امرأتي فأزيد في العبادة شكرا لك {قَالَ آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ} تكف عن الكلام {ثَلاثَةَ أَيَّام} وتقبل بكليتك على عبادتي، لا أنه حبس لسانه عن الكلام، ولكنه نهي عن الكلام وهو صحيح سوي، كما قال في سورة مريم الآية [10] {أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاث َلَيَالٍ سَوِيًّا} يدل عليه قوله تعالى: {وَسَبِّحْ بِالْعَشِي ِّوَالإبْكَارِ} فأمره بالذكر ونهاه عن كلام الناس.
وقال أكثر المفسرين: عقل لسانه عن الكلام مع الناس ثلاثة أيام، وقال قتادة: أمسك لسانه عن الكلام عقوبة له لسؤاله الآية بعد مشافهة الملائكة إياه فلم يقدر على الكلام ثلاثة أيام، وقوله: {إِلا رَمْزًا} أي إشارة، والإشارة قد تكون باللسان وبالعين وباليد، وكانت إشارته بالإصبع المسبحة، وقال الفراء: قد يكون الرمز باللسان من غير أن يبين، وهو الصوت الخفي أشبه الهمس، وقال عطاء: أراد به صوم ثلاثة أيام لأنهم كانوا أذا صاموا لم يتكلموا إلا رمزا {وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإبْكَارِ} قيل: المراد بالتسبيح الصلاة، والعشي ما بين زوال الشمس إلى غروب الشمس ومنه سمي صلاة الظهر والعصر صلاتي العشي، والإبكار ما بين صلاة الفجر إلى الضحى.
قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ} يعني جبريل {يَا مَرْيَم إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ} اختارك {وَطَهَّرَك} قيل من مسيس الرجال وقيل من الحيض والنفاس، قال السدي: كانت مريم لا تحيض، وقيل: من الذنوب {وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} قيل: على عالمي زمانها وقيل: على جميع نساء العالمين في أنها ولدت بلا أب، ولم يكن ذلك لأحد من النساء، وقيل: بالتحرير في المسجد ولم تحرر أنثى.
أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، أخبرنا محمد بن إسماعيل، أخبرنا أحمد بن رجاء، أخبرنا النضر عن هشام أخبرنا أبي قال: سمعت عبد الله بن جعفر قال: سمعت عليا رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «خير نسائها مريم بنت عمران وخير نسائها خديجة رضي الله عنهما» ورواه وكيع وأبو معاوية عن هشام بن عروة وأشار وكيع إلى السماء والأرض.
أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، أخبرنا محمد بن إسماعيل، أخبرنا آدم، أنا شعبة، عن عمرو بن مرة عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام».
أخبرنا أبو سعيد عبد الله بن أحمد الطاهري، أخبرنا جدي عبد الرحمن بن عبد الصمد البزار، أخبرنا محمد بن زكريا العُذافري، أخبرنا إسحاق الديري، أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن قتادة، عن أنس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «حسبك من نساء العالمين مريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم وآسية امرأة فرعون».

.تفسير الآية رقم (43):

{يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)}
قوله تعالى: {يَا مَرْيَم اقْنُتِي لِرَبِّكِ} قالت لها الملائكة شفاهًا أي أطيعي ربك، وقال مجاهد أطيلي القيام في الصلاة لربك والقنوت الطاعة وقيل: القنوت طول القيام قال الأوزاعي: لما قالت لها الملائكة ذلك قامت في الصلاة حتى ورمت قدماها وسالت دما وقيحا {وَاسْجُدِي وَارْكَعِي} قيل: إنما قدم السجود على الركوع لأنه كان كذلك في شريعتهم وقيل: بل كان الركوع قبل السجود في الشرائع كلها وليس الواو للترتيب بل للجمع، ويجوز أن يقول الرجل: رأيت زيدا وعمرا، وإن كان قد رأى عمرا قبل زيد {مَعَ الرَّاكِعِينَ} ولم يقل مع الراكعات ليكون أعم وأشمل فإنه يدخل فيه الرجال والنساء وقيل: معناه مع المصلين في الجماعة.

.تفسير الآيات (44- 46):

{ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46)}
قوله تعالى: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ} يقول لمحمد صلى الله عليه وسلم {ذلك} الذي ذكرت من حديث زكريا ويحيى ومريم وعيسى {من أنباء الغيب} أي من أخبار الغيب {نوحيه إليك} رد الكناية إلى ذلك فلذلك ذكره {وَمَا كُنْتَ} يا محمد {لَدَيْهِمْ إْذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ} سهامهم في الماء للاقتراع {أَيُّهُمْ يَكْفُل مَرْيَمَ} يحضنها ويربيها {وَمَا كُنْت لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} في كفالتها.
قوله تعالى: {إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَة يَا مَرْيَم إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْه اسْمُه الْمَسِيح عِيسَى ابْن مَرْيَمَ} إنما قال: اسمه رد الكناية إلى عيسى واختلفوا في أنه لم سمي مسيحا، منهم من قال: هو فعيل بمعنى المفعول يعني أنه مسح من الأقذار وطهر من الذنوب، وقيل: لأنه مسح بالبركة، وقيل: لأنه خرج من بطن أمه ممسوحا بالدهن، وقيل مسحه جبريل بجناحه حتى لم يكن للشيطان عليه سبيل، وقيل: لأنه كان مسيح القدم لا أخمص له، وسمي الدجال مسيحا لأنه كان ممسوح إحدى العينين، وقال بعضهم هو فعيل بمعنى الفاعل، مثل عليم وعالم. قال ابن عباس رضي الله عنهما سمي مسيحا لأنه ما مسح ذا عاهة إلا برأ، وقيل: سمي بذلك لأنه كان يسيح في الأرض ولا يقيم في مكان، وعلى هذا القول تكون الميم فيه زائدة. وقال إبراهيم النخعي: المسيح الصديق. ويكون المسيح بمعنى الكذاب وبه سمي الدجال والحرف من الأضداد {وَجِيهًا} أي شريفا رفيعا ذا جاه وقدر {فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} عند الله.
{وَيُكَلِّم النَّاسَ فِي الْمَهْدِ} صغيرا قبل أوان الكلام كما ذكره في سورة مريم قال: {إني عبد الله آتاني الكتاب} [الآية- 30] وحكي عن مجاهد قال: قالت مريم: كنت إذا خلوت أنا وعيسى حدثني وحدثته فإذا شغلني عنه إنسان سبح في بطني وأنا أسمع قوله: {وَكَهْلا} قال مقاتل: يعني إذا اجتمع قبل أن يرفع إلى السماء وقال الحسين بن الفضل: {وكهلا} بعد نزوله من السماء. وقيل: أخبرها أنه يبقى حتى يكتهل، وكلامه بعد الكهولة إخباره عن الأشياء المعجزة، وقيل: {وَكَهْلا} نبيًا بشرها بنبوة عيسى عليه السلام وكلامه في المهد معجزة وفي الكهولة دعوة. وقال مجاهد: {وَكَهْلا} أي حليمًا. والعرب تمدح الكهولة لأنها الحالة الوسطى في احتناك السن واستحكام العقل وجودة الرأي والتجربة {وَمِنَ الصَّالِحِينَ} أي: هو من العباد الصالحين.

.تفسير الآيات (47- 49):

{قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ (48) وَرَسُولا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ وَالأبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49)}
{قَالَتْ رَبِّ} يا سيدي تقوله لجبريل. وقيل: تقول لله عز وجل: {أَنَّى يَكُون لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} يصبني رجل، قالت ذلك تعجبًا إذ لم تكن جرت العادة بأن يولد ولد لا أب له {قَال َكَذَلِكِ اللَّه يَخْلُق مَا يَشَاء إِذَا قَضَى أَمْرًا} أي كون الشيء {فَإِنَّمَا يَقُول لَه كُنْ فَيَكُونُ} كما يريد.
قوله تعالى: {وَيُعَلِّمُه الْكِتَابَ} قرأ أهل المدينة وعاصم ويعقوب بالياء لقوله تعالى: {كَذَلِكِ اللَّه يَخْلُق مَا يَشَاءُ} وقيل: رده على قوله: {إن الله يبشرك} {وَيُعَلِّمُهُ} وقرأ الآخرون بالنون على التعظيم كقوله تعالى: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ} قوله: {الْكِتَابَ} أي الكتابة والخط {وَالْحِكْمَةَ} العلم والفقه {وَالتَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ} علمه الله التوراة والإنجيل.
{وَرَسُولا} أي ونجعله رسولا {إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} قيل: كان رسولا في حال الصبا، وقيل: إنما كان رسولا بعد البلوغ، وكان أول أنبياء بني إسرائيل يوسف وآخرهم عيسى عليهما السلام فلما بعث قال: {أَنِّي} قال الكسائي: إنما فتح لأنه أوقع الرسالة عليه، وقيل: معناه بأني {قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ} علامة {مِنْ رَبِّكُمْ} تصدق قولي وإنما قال: بآية وقد أتى بآيات لأن الكل دل على شيء واحد وهو صدقه في الرسالة، فلما قال ذلك عيسى عليه السلام لبني إسرائيل قالوا: وما هي قال: {أَنِّي} قرأ نافع بكسر الألف على الاستئناف، وقرأ الباقون بالفتح على معنى بإني {أَخْلُق} أي أصور وأقدر {لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ} قرأ أبو جعفر كهيئة الطائر هاهنا وفي المائدة، والهيئة الصورة المهيأة من قولهم: هيأت الشيء إذا قدرته وأصلحته {فَأَنْفُخ فِيهِ} أي في الطير {فَيَكُون طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ} قراءة الأكثرين بالجمع لأنه خلق طيرا كثيرا، وقرأ أهل المدينة ويعقوب فيكون طائرًا على الواحد هاهنا. وفي سورة المائدة ذهبوا إلى نوع واحد من الطير لأنه لم يخلق غير الخفاش وإنما خص الخفاش، لأنه أكمل الطير خلقًا لأن لها ثديًا وأسنانًا وهي تحيض. قال وهب: كان يطير ما دام الناس ينظرون إليه فإذا غاب عن أعينهم سقط ميتا، ليتميز فعل الخلق من فعل الخالق،
وليعلم أن الكمال لله عز وجل: {وَأُبْرِئ الأكْمَهَ وَالأبْرَصَ} أي أشفيهما وأصححهما، واختلفوا في الأكمه، قال ابن عباس وقتادة: هو الذي ولد أعمى، وقال الحسن والسدي: هو الأعمى. وقال عكرمة: هو الأعمش. وقال مجاهد: هو الذي يبصر بالنهار ولا يبصر بالليل، {وَالأبْرَصَ} الذي به وضح، وإنما خص هذين لأنهما داءان عياءان، وكان الغالب في زمن عيسى عليه السلام الطب، فأراهم المعجزة من جنس ذلك. قال وهب: ربما اجتمع عند عيسى عليه السلام من المرضى في اليوم الواحد خمسون ألفا من أطاق منهم أن يبلغه بلغه ومن لم يطق مشى إليه عيسى عليه السلام وكان يداويهم بالدعاء على شرط الإيمان.
قوله تعالى: {وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ} قال ابن عباس رضي الله عنهما قد أحيا أربعة أنفس، عازر وابن العجوز، وابنة العاشر، وسام بن نوح، فأما عازر فكان صديقا له فأرسلت أخته إلى عيسى عليه السلام: أن أخاك عازر يموت وكان بينه وبينه مسيرة ثلاثة أيام فأتاه هو وأصحابه فوجدوه قد مات منذ ثلاثة أيام، فقال لأخته: انطلقي بنا إلى قبره، فانطلقت معهم إلى قبره، فدعا الله تعالى فقام عازر وودكه يقطر فخرج من قبره وبقي وولد له.
وأما ابن العجوز مر به ميتًا على عيسى عليه السلام على سرير يحمل فدعا الله عيسى فجلس على سريره، ونزل عن أعناق الرجال، ولبس ثيابه، وحمل السرير على عنقه ورجع إلى أهله فبقي وولد له.
وأما ابنة العاشر كان أبوها رجلا يأخذ العشور ماتت له بنت بالأمس، فدعا الله عز وجل باسمه الأعظم فأحياها الله تعالى وبقيت بعد ذلك زمنا وولد لها. وأما سام بن نوح عليه السلام فإن عيسى عليه السلام جاء إلى قبره فدعا باسم الله الأعظم فخرج من قبره وقد شاب نصف رأسه خوفا من قيام الساعة، ولم يكونوا يشيبون في ذلك الزمان فقال: قد قامت القيامة؟ قال: لا ولكن دعوتك باسم الله الأعظم، ثم قال له: مت قال: بشرط أن يعيذني الله من سكرات الموت فدعا الله ففعل.
قوله تعالى: {وَأُنَبِّئُكُمْ} وأخبركم {بِمَا تَأْكُلُونَ} مما لم أعاينه {وَمَا تَدَّخِرُونَ} ترفعونه {فِي بُيُوتِكُمْ} حتى تأكلوه وقيل: كان يخبر الرجل بما أكل البارحة وبما يأكل اليوم وبما ادخره للعشاء.
وقال السدي: كان عيسى عليه السلام في الكتَّاب يحدث الغلمان بما يصنع آباؤهم ويقول للغلام: انطلق فقد أكل أهلك كذا وكذا، ورفعوا لك كذا وكذا، فينطلق الصبي إلى أهله ويبكي عليهم حتى يعطوه ذلك الشيء فيقولون: من أخبرك بهذا؟. فيقول: عيسى فحبسوا صبيانهم عنه وقالوا: لا تلعبوا مع هذا الساحر فجمعوهم في بيت فجاء عيسى عليه السلام يطلبهم فقالوا: ليسوا هاهنا، فقال: فما في هذا البيت؟ قالوا خنازير، قال عيسى كذلك يكونون ففتحوا عليهم فإذا هم خنازير ففشى ذلك في بني إسرائيل فهمت به بنو إسرائيل، فلما خافت عليه أمه حملته على حُمير لها وخرجت هاربة منهم إلى أهل مصر، وقال قتادة: إنما هذا في المائدة وكان خوانا ينزل عليهم أينما كانوا كالمن والسلوى، وأمروا أن لا يخونوا ولا يخبؤا لغد فخانوا وخبؤا فجعل عيسى يخبرهم بما أكلوا من المائدة وبما أدخروا منها فمسخهم الله خنازير.
قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ} الذي ذكرت {لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}.