فصل: تفسير الآيات (56- 60):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآيات (56- 60):

{فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58) إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60)}
{فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا} بالقتل والسبي والجزية والذلة {وَالآخِرَةِ} أي وفي الآخرة بالنار {وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ}.
{وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ} قرأ الحسن وحفص بالياء، والباقون بالنون أي نوفي أجور أعمالهم {وَاللَّه لا يُحِبّ الظَّالِمِينَ} أي لا يرحم الكافرين ولا يثني عليهم بالجميل.
قوله تعالى: {ذَلِكَ} أي هذا الذي ذكرته لك من الخبر عن عيسى ومريم والحواريين {نَتْلُوه عَلَيْكَ} نخبرك به بتلاوة جبريل عليك {مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ} يعني القرآن والذكر ذي الحكمة، وقال مقاتل: الذكر الحكيم أي المحكم الممنوع من الباطل وقيل: الذكر الحكيم هو اللوح المحفوظ، وهو معلق بالعرش من درة بيضاء. وقيل من الآيات أي العلامات الدالة على نبوتك لأنها أخبار لا يعلمها إلا قارئ كتاب أو من يوحى إليه وأنت أمي لا تقرأ.
قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ} الآية نزلت في وفد نجران وذلك أنهم قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: مالك تشتم صاحبنا؟ قال: وما أقول قالوا: تقول إنه عبد الله قال: أجل هو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول فغضبوا وقالوا هل رأيت إنسانا قط من غير أب؟ فأنزل الله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ} في كونه خلقه من غير أب كمثل آدم لأنه خُلق من غير أب وأم {خَلَقَه مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ} يعني لعيسى عليه السلام {كُنْ فَيَكُونُ} يعني فكان فإن قيل ما معنى قوله: {خَلَقَه مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَه كُنْ فَيَكُونُ} ولا تكوين بعد الخلق؟ قيل معناه ثم خلقه ثم أخبركم أني قلت له: كن فكان من غير ترتيب في الخلق كما يكون في الولادة وهو مثل قول الرجل: أعطيتك اليوم درهما ثم أعطيتك أمس درهما أي ثم أخبرك أني أعطيتك أمس درهما. وفيما سبق من التمثيل دليل على جواز القياس لأن القياس هو رد فرع إلى أصل بنوع شبه وقد رد الله تعالى خلق عيسى إلى آدم عليهم السلام بنوع شبه.
قوله تعالى: {الْحَقّ مِنْ رَبِّكَ} أي هو الحق وقيل جاءك الحق من ربك {فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} الشاكين الخطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته.

.تفسير الآية رقم (61):

{فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61)}
قوله عز وجل: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ} أي جادلك في عيسى أو في الحق {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} بأن عيسى عبد الله ورسوله {فَقُلْ تَعَالَوْا} وأصله تعاليوا تفاعلوا من العلو فاستثقلت الضمة على الياء فحذفت، قال الفراء: بمعنى تعال كأنه يقول: ارتفع. قوله: {نَدْعُ} جزم لجواب الأمر وعلامة الجزم سقوط الواو {أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ} قيل: أبناءنا أراد الحسن والحسين، ونساءنا فاطمة. وأنفسنا عنى نفسه وعليا رضي الله عنه والعرب تسمي ابن عم الرجل نفسه، كما قال الله تعالى: {ولا تلمزوا أنفسكم} [11- الحجرات] يريد إخوانكم وقيل هو على العموم الجماعة أهل الدين {ثُمَّ نَبْتَهِلْ} قال ابن عباس رضي الله عنهما: أي نتضرع في الدعاء، وقال الكلبي: نجتهد ونبالغ في الدعاء، وقال الكسائي وأبو عبيدة: نلتعن والابتهال الالتعان يقال: عليه بهلة الله أي لعنته: {فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} منا ومنكم في أمر عيسى، فلما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية على وفد نجران ودعاهم إلى المباهلة قالوا: حتى نرجع وننظر في أمرنا ثم نأتيك غدا، فخلا بعضهم ببعض فقالوا للعاقب وكان ذا رأيهم: يا عبد المسيح ما ترى؟ قال: والله لقد عرفتم يا معشر النصارى أن محمدًا نبي مرسل، والله ما لاعن قوم نبيًا قط فعاش كبيرهم ولا نبت صغيرهم، ولئن فعلتم ذلك لنهلكن فإن أبيتم إلا الإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد غدا رسول الله صلى الله عليه وسلم محتضنا للحسين آخذا بيد الحسن وفاطمة تمشي خلفه وعلي خلفها وهو يقول لهم: «إذا أنا دعوت فأمنوا» فقال أسقف نجران: يا معشر النصارى إني لأرى وجوها لو سألوا الله أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله فلا تبتهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض منكم نصراني إلى يوم القيامة، فقالوا يا أبا القاسم: قد رأينا أن لا نلاعنك وأن نتركك على دينك ونثبت على ديننا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فإن أبيتم المباهلة فأسلموا يكن لكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم» فأبوا فقال: «فإني أنابذكم» فقالوا: ما لنا بحرب العرب طاقة، ولكنا نصالحك على أن لا تغزونا ولا تخيفنا ولا تردنا عن ديننا على أن نؤدي إليك كل عام ألفي حلة ألفًا في صفر وألفًا في رجب، فصالحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك وقال: «والذي نفسي بيده إن العذاب قد تدلى على أهل نجران ولو تلاعنوا لمسخوا قردة وخنازير ولاضطرم عليهم الوادي نارا، ولاستأصل الله نجران وأهله حتى الطير على الشجر، ولما حال الحول على النصارى كلهم حتى هلكوا».

.تفسير الآيات (62- 64):

{إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)}
قال الله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَص الْحَقُّ} النبأ الحق {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا اللَّهُ} و{من} صلة تقديره وما إله إلا الله {وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيمُ}.
{فَإِنْ تَوَلَّوْا} أعرضوا عن الإيمان {فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ} الذين يعبدون غير الله، ويدعون الناس إلى عبادة غير الله.
قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} الآية قال المفسرون: قدم وفد نجران المدينة فالتقوا مع اليهود فاختصموا في إبراهيم عليه السلام، فزعمت النصارى أنه كان نصرانيا وهم على دينه وأولى الناس به، وقالت اليهود: بل كان يهوديا وهم على دينه وأولى الناس به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلا الفريقين بريء من إبراهيم ودينه بل كان إبراهيم حنيفا مسلما وأنا على دينه فاتبعوا دينه دين الإسلام، فقالت اليهود: يا محمد ما تريد إلا أن نتخذك ربا كما اتخذت النصارى عيسى ربا، وقالت النصارى: يا محمد ما تريد إلا أن نقول فيك ما قالت اليهود في عزير، فأنزل الله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ} والعرب تسمي كل قصة لها شرح كلمة ومنه سميت القصيدة كلمة {سَوَاءٍ} عدل بيننا وبينكم مستوية، أي أمر مستو يقال: دعا فلان إلى السواء، أي إلى النصفة، وسواء كل شيء وسطه ومنه قوله تعالى: {فرآه في سواء الجحيم} [55- الصافات] وإنما قيل للنصف سواء لأن أعدل الأمور وأفضلها أوسطها وسواء نعت لكلمة إلا أنه مصدر، والمصادر لا تثنى ولا تجمع ولا تؤنث، فإذا فتحت السين مددت، وإذا كسرت أو ضممت قصرت كقوله تعالى: {مكانا سوى} [58- طه] ثم فسر الكلمة فقال: {أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ} ومحل أن رفع على إضمار هي، وقال الزجاج: رفع بالابتداء، وقيل: محله نصب بنزع حرف الصفة معناه بأن لا نعبد إلا الله وقيل: محله خفض بدلا من الكلمة أي تعالوا إلى أن لا نعبد إلا الله {وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًاوَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} كما فعلت اليهود والنصارى، قال الله تعالى: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله} [31- التوبة] وقال عكرمة: هو سجود بعضهم لبعض، أي لا تسجدوا لغير الله، وقيل: معناه لا نطيع أحدا في معصية الله {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا} فقولوا أنتم لهم اشهدوا {بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} مخلصون بالتوحيد.
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، أخبرنا محمد بن إسماعيل، أخبرنا أبو اليمان الحكم بن نافع، أخبرنا شعيب، عن الزهري، أخبرنا عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أخبره أن أبا سفيان بن حرب أخبره أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش، وكانوا تجارا بالشام في المدة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عاهد فيها أبا سفيان وكفار قريش فأتوه وهو بإيلياء فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم، ودعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بعث به دحية بن خليفة الكلبي إلى عظيم بصرى فدفعه إلى هرقل فقرأه فإذا هو: «بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد عبد الله ورسوله، إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، أسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإنما عليك إثم الإريسيين {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}».

.تفسير الآيات (65- 66):

{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإنْجِيلُ إِلا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (65) هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (66)}
قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاة وَالإنْجِيل إِلا مِنْ بَعْدِهِ} تزعمون أنه كان على دينكم، وإنما دينكم اليهودية والنصرانية، وقد حدثت اليهودية بعد نزول التوراة والنصرانية بعد نزول الإنجيل، وإنما أنزلت التوراة والإنجيل من بعد إبراهيم بزمان طويل، وكان بين إبراهيم وموسى ألف سنة، وبين موسى وعيسى ألفا سنة {أَفَلا تَعْقِلُونَ} بطلان قولكم؟
قوله تعالى: {هَا أَنْتُمْ} بتليين الهمزة حيث كان مدني، وأبو عمرو والباقون بالهمز، واختلفوا في أصله فقال بعضهم: أصله: أأنتم وها تنبيه وقال الأخفش: أصله أأنتم فقلبت الهمزة الأولى هاء كقولهم هرقت الماء وأرقت {هَؤُلاءِ} أصله أولاء دخلت عليه هاء التنبيه وهي في موضع النداء، يعني يا هؤلاء أنتم {حَاجَجْتُمْ} جادلتم {فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} يعني في أمر موسى وعيسى وادعيتم أنكم على دينهما وقد أنزلت التوراة والإنجيل عليكم {فَلِمَ تُحَاجُّون َفِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} وليس في كتابكم أنه كان يهوديا أو نصرانيا، وقيل حاججتم فيما لكم به علم يعني في أمر محمد صلى الله عليه وسلم لأنهم وجدوا نعته في كتابهم، فجادلوا فيه بالباطل، فلم تحاجّون في إبراهيم وليس في كتابكم، ولا علم لكم به؟ {وَاللَّه يَعْلَم وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} ثم برَّأ الله تعالى إبراهيم مما قالوا: فقال:

.تفسير الآيات (67- 68):

{مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)}
{مَا كَانَ إِبْرَاهِيم يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} والحنيف: المائل عن الأديان كلها إلى الدين المستقيم، وقيل: الحنيف: الذي يوحِّد ويحج ويضحي ويختن ويستقبل الكعبة. وهو أسهل الأديان وأحبها إلى الله عز وجل.
قوله تعالى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} أي: من اتبعه في زمانه، {وَهَذَا النَّبِيُّ} يعني: محمدا صلى الله عليه وسلم {وَالَّذِينَ آمَنُوا} معه، يعني من هذه الأمة {وَاللَّه وَلِيّ الْمُؤْمِنِينَ}.
روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، ورواه محمد بن إسحاق عن ابن شهاب بإسناده، حديث هجرة الحبشة، لما هاجر جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وأناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحبشة واستقرت بهم الدار وهاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وكان من أمر بدر ما كان فاجتمعت قريش في دار الندوة وقالوا: إن لنا في الذين عند النجاشي من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ثأرًا ممن قتل منكم ببدر، فاجمعوا مالا وأهدوه إلى النجاشي لعله يدفع إليكم من عنده من قومكم ولينتدب لذلك رجلان من ذوي رأيكم فبعثوا عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد مع الهدايا الأدم وغيره، فركبا البحر وأتيا الحبشة فلما دخلا على النجاشي سجدا له وسلما عليه وقالا له: إن قومنا لك ناصحون شاكرون ولصلاحك محبون وإنهم بعثونا إليك لنحذِّرك هؤلاء الذين قدموا عليك، لأنهم قوم رجل كذاب خرج فينا يزعم أنه رسول الله ولم يتابعه أحد منا إلا السفهاء، وإنا كنا قد ضيقنا عليهم الأمر وألجأناهم إلى شعب بأرضنا لا يدخل عليهم أحد، ولا يخرج منهم أحد قد قتلهم الجوع والعطش فلما اشتد عليهم الأمر بعث إليك ابن عمه ليفسد عليك دينك وملكك ورعيتك فاحذرهم وادفعهم إلينا لنكفيكهم، وقالا وآية ذلك أنهم إذا دخلوا عليك لا يسجدون لك ولا يُحَيُّونك بالتحية التي يحييك بها الناس رغبة عن دينك وسنتك، قال: فدعاهم النجاشي فلما حضروا، صاح جعفر بالباب: يستأذن عليك حزب الله، فقال النجاشي: مروا هذا الصائح فليعد كلامه، ففعل جعفر فقال النجاشي: نعم فليدخلوا بأمان الله وذمته، فنظر عمرو بن العاص إلى صاحبه فقال: ألا تسمع كيف يرطنون بحزب الله وما أجابهم به النجاشي، فساءهما ذلك ثم دخلوا عليه فلم يسجدوا له، فقال عمرو بن العاص: ألا ترى أنهم يستكبرون أن يسجدوا لك، فقال لهم النجاشي: ما منعكم أن تسجدوا لي وتحيوني بالتحية التي يحييني بها من أتاني من الآفاق؟ قالوا: نسجد لله الذي خلقك وملَّكك، وإنما كانت تلك التحية لنا ونحن نعبد الأوثان، فبعث الله فينا نبيا صادقا فأمرنا بالتحية التي رضيها الله وهي السلام تحية أهل الجنة، فعرف النجاشي أن ذلك حق وأنه في التوراة والإنجيل قال: أيكم الهاتف: يستأذن عليك حزب الله؟ قال جعفر: أنا، قال: فتكلم، قال: إنك ملك من ملوك أهل الأرض ومن أهل الكتاب ولا يصلح عندك كثرة الكلام ولا الظلم وأنا أحب أن أجيب عن أصحابي فمر هذين الرجلين فليتكلم أحدهما ولينصت الآخر فتسمع محاورتنا. فقال عمرو لجعفر: تكلم، فقال جعفر للنجاشي: سل هذين الرجلين أعبيد نحن أم أحرار؟ فإن كنا عبيدا أَبَقْنَا من أربابنا فارددنا إليهم، فقال النجاشي: أعبيد هم أم أحرار؟ فقال عمرو: بل أحرار كرام، فقال النجاشي: نجوا من العبودية. ثم قال جعفر: سلهما هل أهرقنا دما بغير حق فيقتص منا؟ قال النجاشي: إن كان قنطارا فعلي قضاؤه، فقال عمرو: لا ولا قيراطًا، قال النجاشي: فما تطلبون منهم؟ قال عمرو: كنا وهم على دين واحد وأمر واحد على دين آبائنا فتركوا ذلك وابتغوا غيره فبعثنا إليك قومهم لتدفعهم إلينا، فقال النجاشي: ما هذا الدين الذي كنتم عليه والدين الذي اتبعتموه أصدقني، قال جعفر: أما الدين الذي كنا عليه فتركناه فهو دين الشيطان، كنا نكفر بالله ونعبد الحجارة، وأما الدين الذي تحوَّلنا إليه فدين الله الإسلام جاءنا به من الله رسول وكتاب مثل كتاب عيسى بن مريم موافقا له، فقال النجاشي: يا جعفر تكلمت بأمر عظيم فعلى رسلك، ثم أمر النجاشي فضرب بالناقوس فاجتمع إليه كل قسيس وراهب، فلما اجتمعوا عنده قال النجاشي: أنشدكم الله الذي أنزل الإنجيل على عيسى هل تجدون بين عيسى وبين يوم القيامة نبيًا مرسلا فقالوا: اللهم نعم، قد بشرنا به عيسى وقال: من آمن به فقد آمن بي ومن كفر به فقد كفر بي، فقال النجاشي لجعفر: ماذا يقول لكم هذا الرجل وما يأمركم به وما ينهاكم عنه؟ فقال: يقرأ علينا كتاب الله ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويأمر بحسن الجوار وصلة الرحم وبر اليتيم ويأمرنا بأن نعبد الله وحده لا شريك له، فقال: اقرأ علي مما يقرأ عليكم فقرأ عليهم سورة العنكبوت والروم ففاضت عينا النجاشي وأصحابه من الدمع وقالوا: زدنا يا جعفر من هذا الحديث الطيب فقرأ عليهم سورة الكهف فأراد عمرو أن يُغْضب النجاشي فقال: إنهم يشتمون عيسى وأمه، فقال النجاشي: ما تقولون في عيسى وأمه فقرأ عليهم سورة مريم فلما أتى جعفر على ذكر مريم وعيسى عليهما السلام رفع النجاشي نُفثَهُ من سواكه قدر ما تُقْذَى العين فقال: والله ما زاد المسيح على ما تقولون هذا، ثم أقبل على جعفر وأصحابه فقال: اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي يقول: آمنون من سبكم أو آذاكم غرم، ثم قال: أبشروا ولا تخافوا فلا دَهْوَرة اليوم على حزب إبراهيم، قال عمرو: يا نجاشي ومن حزب إبراهيم؟ قال: هؤلاء الرهط وصاحبهم الذي جاءوا من عنده ومن تبعهم. فأنكر ذلك المشركون وادعوا في دين إبراهيم، ثم رد النجاشي على عمرو وصاحبه المال الذي حملوه وقال: إنما هديتكم لي رشوة فاقبضوها فإن الله ملَّكني ولم يأخذ مني رشوة، قال جعفر: فانصرفنا فكنا في خير دار وأكرم جوار، وأنزل الله تعالى ذلك اليوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في خصومتهم في إبراهيم وهو بالمدينة قوله عز وجل: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوه وَهَذَا النَّبِيّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّه وَلِيّ الْمُؤْمِنِينَ}.