فصل: تفسير الآية رقم (135):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآية رقم (135):

{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135)}
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} الآية قال ابن مسعود: قال المؤمنون: يا رسول الله كانت بنو إسرائيل أكرم على الله منّا، كان أحدهم إذا أذنب أصبحت كفارة ذنبه مكتوبة في عتبة بابه اجدَعْ أنفك وأذنك، افعل كذا فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال عطاء: نزلت في نبهان التمار وكنيته أبو معبد أتته امرأة حسناء تبتاع منه تمرًا فقال لها إن هذا التمر ليس بجيد، وفي البيت أجود منه فذهب بها إلى بيته فضمّها إلى نفسه وقبَّلها فقالت له: اتق الله فتركها وندم على ذلك فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وذكر ذلك له، فنزلت هذه الآية.
وقال مقاتل والكلبي: آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين رجلين أحدهما من الأنصار والآخر من ثقيف فخرج الثقفي في غزاة واستخلف الأنصاريَّ على أهله فاشترى لهم اللحم ذات يوم فلما أرادت المرأة أن تأخذ منه دخل على أثرها وقبّل يدها، ثم ندم وانصرف ووضع التراب على رأسه وهام على وجهه، فلما رجع الثقفي لم يستقبله الأنصاري فسأل امرأته عن حاله فقالت: لا أكثر الله في الإخوان مثله ووصفت له الحال، والأنصاري يسيح في الجبال تائبًا مستغفرًا، فطلبه الثقفي حتى وجده فأتى به أبا بكر رجاء أن يجد عنده راحة وفرجا. فقال الأنصاري: هلكتُ: وذكر له القصة فقال أبو بكر: ويحك أما علمت أن الله تعالى يغار للغازي مالا يغار للمقيم، ثم أتيا عمر رضي الله عنه فقال مثل ذلك، فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم فقال له مثل مقالتهما، فأنزل الله تعالى هذه الآية {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً} يعني: قبيحة خارجة عما أذن الله تعالى له فيه، وأصل الفحش القبح والخروج عن الحدّ قال جابر: الفاحشة الزنا.
{أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} ما دون الزنا من القبلة والمعانقة والنظر واللمس.
وقال مقاتل والكلبي: الفاحشة ما دون الزنا من قبلة أو لمسة أو نظرة فيما لا يحل أو ظلموا أنفسهم بالمعصية.
وقيل: فعلوا فاحشة الكبائر، أو ظلموا أنفسهم بالصغائر.
وقيل: فعلوا فاحشة فعلا أو ظلموا أنفسهم قولا.
{ذَكَرُوا اللَّهَ} أي: ذكروا وعيد الله، وأن الله سائلهم، وقال مقاتل بن حيان: ذكروا الله باللسان عند الذنوب.
{فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِر الذُّنُوبَ إِلا اللَّهُ} أي: وهل يغفر الذنوب إلا الله.
{وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا} أي: لم يُقيموا ولم يثبتوا عليه ولكن تابوا وأنابوا واستغفروا، وأصل الإصرار: الثبات على الشيء وقال الحسن: إتيان العبد ذنبًا عمدًا إصرارٌ حتى يتوب.
وقال السدي: الإصرار: السكوت وترك الاستغفار. أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أبو منصور السمعاني، أخبرنا أبو جعفر الرَّياني، أخبرنا حميد بن زنجويه، أنا يحيى بن يحيى، أنا عبد الحميد بن عبد الرحمن، عن عثمان بن واقد العمري، عن أبي نصيرة، قال: لقيت مولى لأبي بكر رضي الله عنه فقلت له: أسمعتَ من أبي بكر شيئا؟ قال: نعم سمعتُه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أصرَّ مَنِ استغفر، وإن عاد في اليوم سبعين مرة».
{وَهُمْ يَعْلَمُونَ} قال ابن عباس والحسن ومقاتل والكلبي: وهم يعلمون أنها معصية، وقيل: وهم يعلمون أن الإصرار ضار، وقال الضحاك: وهم يعلمون أن الله يملك مغفرة الذنوب، وقال الحسين بن الفضل وهم يعلمون أن لهم ربا يغفر الذنوب، وقيل: وهم يعلمون أنّ الله لا يتعاظمه العفو عن الذنوب وإن كثُرت وقيل: وهم يعلمون أنهم إن استغفروا غفر لهم.

.تفسير الآية رقم (136):

{أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136)}
{أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَار خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْر الْعَامِلِينَ} ثوابُ المطيعين. أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أبو منصور السمعاني، أخبرنا أبو جعفر الريّاني، أنا حميد بن زنجويه، أنا عفان بن مسلم، أنا أبو عُوانة، أنا عثمان بن المغيرة عن علي بن ربيعة الأسدي، عن أسماء بن الحكم الفزاري، قال: سمعت عليًا رضي الله عنه يقول: إني كنت رجلا إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثًا ينفعني الله منه بما شاء أن ينفعني وإذا حدثني أحد من أصحابه استحلفته فإذا حلف لي صدقته، وإنه حدثني أبو بكر وصدق أبو بكر أنه سمع رسول الله يقول: «ما مِنْ عبدٍ مؤمنٍ يُذنبُ ذنبًا فيُحسِنُ الطهورَ ثم يقومُ فيصلي ثم يستغفر الله إلا غفرَ الله له» ورواه أبو عيسى عن قتيبة عن أبي عُوانة وزاد: ثم قرأ: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} الآية.
أخبرنا عبد الواحد المليحي، أنا أبو منصور السمعاني، أنا أبو جعفر الريَّاني، أنا حميد بن زنجويه، أنا هشام بن عبد الملك، أخبرنا همام، عن إسحاق، عن عبد الله بن أبي طلحة، قال: كان قاض بالمدينة يقال له عبد الرحمن بن أبي عَمْرة فسمعتُه يقول: سمعتُ أبا هريرة يقول: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن عبدًا أذنب ذنبًا فقال: أيْ ربِّ اذنبتُ ذنبًا فاغفرْهُ لي قال: فقال ربُّه عز وجل: علم عبدي أنّ له ربًا يغفر الذنب ويأخُذُ به، فغفر له فمكث ما شاء الله، ثم أصاب ذنبًا آخر فقال: ربِّ أذنبتُ ذنبًا فاغفرْهُ لي فقال ربه عز وجل: علم عبدي أنّ له ربًا يغفر الذنبَ ويأخُذُ بهِ قد غفرت لعبدي فليفعل ما شاء».
أخبرنا عبد الواحد المليحي، أنا أبو منصور السمعاني، أنا أبو جعفر الريَّاني، أنا حميد بن زنجويه، أخبرنا النعمان السدوسي، أخبرنا المهدي بن ميمون، أخبرنا غيلان بن جرير، عن شهر بن حَوْشَب عن معدي كرب عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم يرويه عن ربه تبارك وتعالى قال: «قال يا ابن آدم إنك ما دعوتَني ورَجُوتَني غفرت لك على ما كان فيك، ابنَ آدم إنّك إن تلقاني بِقُرَابِ الأرض خَطَايا لقيتُكَ بِقُرَابها مغفرة بعد أن لا تُشرِكَ بي شيئا، ابنَ آدم إنّكَ إن تُذنبْ حتى تبلغَ ذنوبك عنانَ السماء ثم تستغفرني أغفرُ لك».
أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أبو الحسن محمد بن الحسين الحسني الشرفي، أنا أبو الأزهر، أحمد بن الأزهر أخبرنا إبراهيم بن الحكم بن أبان، حدثني أبي عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى: «من علم أني ذُو قُدْرَةٍ على مغفرة الذنوب غفرت له ولا أبالي ما لم يُشركْ بي شيئا» قال ثابت البناني: بلغني أن إبليس بكى حين نزلت هذه الآية {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً} إلى آخرها.

.تفسير الآيات (137- 138):

{قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138)}
قوله تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ} قال عطاء: شرائع، وقال الكلبي: مضتْ لكل أمة سُنّة ومنهاج إذا اتبعوها رضي الله عنهم، وقال مجاهد: قد خلت من قبلكم سُنَنٌ بالهلاك فيمن كذّب قبلكم، وقيل: سُنَنٌ أي: أمم والسُّنّةُ: الأمّةُ قال الشاعر:
ما عاين الناسُ من فضل كفضلكم ** ولا رأوا مثلكم في سالف السّنَن

وقيل معناه: أهل السنن، والسنة هي: الطريقة المتبعة في الخير والشر، يقال: سَنَّ فلانُ سُنَّةً حسنةً وسُنَّةً سيئةً إذا عمل عملا اقْتُدِي به مِنْ خيرٍ وشر.
ومعنى الآية: قد مضتْ وسلفتْ مني سننٌ فيمن كان قبلكم من الأمم الماضية الكافرة، بإمهالي واستدراجي إيَّاهم حتى يبلغ الكتاب فيهم أجلي الذي أجلتُه لإهلاكهم، وإدالة أنبيائي عليهم. {فَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة الْمُكَذِّبِينَ} أي: آخر أمر المكذبين، وهذا في حرب أحد، يقول الله عز وجل: فأنا أُمهلهم وأستدرجهم حتى يبلغ أجلي الذي أجلت في نصرة النبي صلى الله عليه وسلم وأوليائه وإهلاك أعدائه.
{هَذَا} أي: هذا القرآن، {بَيَانٌ لِلنَّاسِ} عامة، {وَهُدًى} من الضلالة، {وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} خاصة.

.تفسير الآيات (139- 140):

{وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)}
قوله تعالى: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا} هذا حثُّ لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على الجهاد، زيادة على ما أصابهم من القتل والجرح يوم أُحد يقول الله تعالى: ولا تهنوا أي: لا تَضْعُفُوا ولا تجبنوا عن جهاد أعدائكم بما نالكم من القتل والجرح، وكان قد قتل يومئذ من المهاجرين خمسة منهم: حمزة بن عبد المطلب ومصعبُ بن عُمير، وقتل من الأنصار سبعون رجلا.
{وَلا تَحْزَنُوا} فإنكم {أَنْتُم الأعْلَوْنَ} أي تكون لكم العاقبةُ بالنصرة والظفر، {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} يعني: إذ كنتم مؤمنين: أي: لأنكم مؤمنون، قال ابن عباس رضي الله عنهما: لما انهزم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشّعب فأقبل خالد بن الوليد بخيل المشركين يريد أن يعلو عليهم الجبل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم لا يعلون علينا، اللهم لا قوةَ لنا إلا بك وثابَ نفرٌ من المسلمين رماةٌ فصعدوا الجبل ورموا خيل المشركين حتى هزموهم فذلك قوله تعالى: {وَأَنْتُم الأعْلَوْنَ} وقال الكلبي: نزلت هذه الآية بعد يوم أُحد حين أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بطلب القوم ما أصابهم من الجراح فاشتد ذلك على المسلمين فأنزل الله تعالى هذه الآية، دليله قوله تعالى: {ولا تَهِنُوا في ابتغاء القوم} [النساء- 104].
{إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ} قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر {قرح} بضم القاف حيث جاء، وقرأ الآخرون بالفتح وهما لغتان معناهما واحد كالجهد والجهد وقال الفراء القرح بالفتح: الجراحة وبالضم: ألم الجراحة هذا خطاب مع المسلمين حيث انصرفوا من أحد مع الكآبة والحزن، يقول الله تعالى: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ} يوم أُحد، {فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} يوم بدر، {وَتِلْكَ الأيَّام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} فيومٌ لهم ويومٌ عليهم أُديل المسلمون على المشركين يوم بدر حتى قتلوا منهم سبعين وأسَرُوا سبعين وأُديل المشركون من المسلمين يوم أُحد حتى جرحوا منهم سبعين وقتلوا خمسًا وسبعين.
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أخبرنا عمرو بن خالد، أنا زهير، أخبرنا أبو إسحاق قال: سمعت البراء بن عازب قال: جعل النبي صلى الله عليه وسلم على الرّجّالة يوم أُحد وكانوا خمسين رجلا عبدَ الله بن جُبير، فقال: «إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم هذا حتى أرسلَ إليكم وإن رأيتُمونا هزمنا القومَ وأوطأناهم فلا تبرحُوا حتى أُرسل إليكم فهزموهم قال: فأنا والله رأيتُ النساء يتشددن قد بدت خلاخلهن وأسوقهن رافعات ثيابهن، فقال أصحاب عبد الله بن جُبير: الغنيمة أيْ قوم الغنيمة، ظهر أصحابكم فما تنتظرون؟ فقال عبد الله بن جُبير: أنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: والله لنأتينّ الناسَ فلنصيبن من الغنيمة، فلما أتوهم صُرفتْ وجُوهُهم فأقبلوا منهزمين. فذاك إذ يدعوهم الرسول في أُخراهُم فلم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم غير اثني عشر رجلا فأصابوا منا سبعين».
وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أصابوا من المشركين يوم بدر مائة وأربعين، سبعين أسيرًا وسبعين قتيلا فقال أبو سفيان: أفي القوم محمد ثلاث مرات، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يجيبوه، ثم قال: أفي القوم ابن أبي قحافة ثلاث مرات ثم قال: أفي القوم ابن الخطاب ثلاث مرات ثم رجع إلى أصحابه فقال: أمّا هؤلاء فقد قُتلوا فما مَلَك عمرُ نفسه فقال: كذبت والله يا عدو الله، إن الذين عددت لأحياء كلهم وقد بقي لك ما يسوءُك قال: يوم بيوم بدر، والحرب سِجَال إنكم ستجدون في القوم مُثلةً لم آمر بها ولم تسؤني، ثم أخذ يرتجز: اعل هُبَلُ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا تُجيبوه»؟ قالوا: يا رسول الله ما نقول؟ قال: «قولوا الله أعلى وأجلُّ» قال: إن لنا العُزَّى ولا عُزَّى لكم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا تَجيبوه»؟ قالوا: يا رسول الله ما نقول؟ قال: «قولوا الله مولانا ولا مولى لكم».
وُروي هذا المعنى عن ابن عباس رضي الله عنهما وفي حديثه قال أبو سفيان: يوم بيوم وإن الأيام دَول والحرب سجال، فقال عمر رضي الله عنه: «لا سواء قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار».
قال الزجاج: الدولة تكون للمسلمين على الكفار، لقوله تعالى: {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُم الْغَالِبُونَ} وكانت يوم أَحد للكفار على المسلمين لمخالفتهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ اللَّه الَّذِينَ آمَنُوا} يعني: إنما كانت هذه المُداولة ليعلم أي أي: ليرى الله الذين آمنوا فيميز المؤمن من المنافق، {وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} يُكرم أقوامًا بالشهادة، {وَاللَّه لا يُحِبّ الظَّالِمِينَ}.

.تفسير الآية رقم (141):

{وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141)}
{وَلِيُمَحِّصَ اللَّه الَّذِينَ آمَنُوا} أي: يُطهرهم من الذنوب، {وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} يُفنيهم ويُهلكهم معناه: أنهم إن قتلوكم فهو تطهيرٌ لكم، وإن قتلتموهم فهو محقهم واستئصالُهم.

.تفسير الآيات (142- 144):

{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143) وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)}
{أَمْ حَسِبْتُمْ} أحسبتم؟ {أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ} أي: ولم يعلم الله {الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ}.
{وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ} وذلك أن قوما من المسلمين تمنَّوا يومًا كيوم بدر ليقاتُلوا ويستشهِدُوا فأراهم الله يوم أُحد وقوله: {تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ} أي: سببَ الموت وهو الجهاد من قبل أن تلقوه، {فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ} يعني: أسبابه.
فإن قيل: ما معنى قوله: {وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} بعد قوله: {فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ} قيل: ذكره تأكيدًا وقيل: الرؤية قد تكون بمعنى العلم، فقال: {وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} ليعلم أن المراد بالرؤية النظر، وقيل: وأنتم تنظرون إلى محمد صلى الله عليه وسلم.
قوله عز وجل: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} قال أصحاب المغازي خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل بالشّعب من أُحد في سبعمائة رجل، وجعل عبد الله بن جُبير وهو أخو خَوات بن جبير على الرّجالة وكانوا خمسين رجلا وقال: أقيموا بأصل الجبل وانضحوا عنا بالنبل لا يأتونا من خلفنا، فإن كانت لنا أو علينا فلا تبرحوا مكانكم حتى أرسل إليكم فإنّا لن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم فجاءت قريش وعلى ميمنتهم خالد بن الوليد وعلى ميسرتهم عكرمة بن أبي جهل ومعهم النساء يضربن بالدفوف ويقلن الأشعار فقاتلوا حتى حميت الحرب فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفا فقال من يأخذ هذا السيف بحقه ويضرب به العدو حتى يثخن، فأخذه أبو دجانة سماك بن خرشة الأنصاري فلما أخذه اعتم بعمامة حمراء وجعل يتبختر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنها لَمشيةٌ يبغضها الله تعالى إلا في هذا الموضع» ففلق به هام المشركين وحمل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه على المشركين فهزموهم.
وروينا عن البراء بن عازب قال: فأنا والله رأيت النساء يشتددن قد بدت خَلاخِلهنَّ وأسوقهن رافعاتٍ ثيابهن فقال أصحاب عبد الله بن جبير: الغنيمة والله لنأتينّ الناس فلَنُصيبنّ من الغنيمة فلما أتوهم صرفت وجوههم.
وقال الزبير بن العوام: فرأيت هندًا وصواحباتها هاربات مصعدات في الجبل، باديات خدامهنّ ما دون أخذهن شيء فلما نظرت الرماة إلى القوم قد انكشفوا ورأوا أصحابهم ينتهبون الغنيمة أقبلوا يريدون النهب.
فلما رأى خالد بن الوليد قلة الرماة واشتغال المسلمين بالغنيمة، ورأى ظهورهم خالية صاح في خيله من المشركين، ثم حمل على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من خلفهم فهزموهم وقتلوهم، ورمى عبد الله بن قمئة رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجر فكسر أنفه ورَباعيته وشجه في وجهه فأثقله وتفرق عنه أصحابه ونهض رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صخرة يعلوها، وكان قد ظاهر بين درعين فلم يستطع فجلس تحته طلحه فنهض حتى استوى عليها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أوجَبَ طلحةُ» ووقعت هند والنسوة معها يمثلن بالقتلى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يجدعن الآذان والأنوف حتى اتخذت هند من ذلك قلائد، وأعطتْها وحشيًا وبقرتْ عن كبدة حمزة ولاكتها فلم تستطع أن تُسيغها فلفظتها، وأقبل عبد الله بن قمئة يريد قتل النبي صلى الله عليه وسلم فذبَّ مُصعب بن عمير- وهو صاحب راية رسول الله صلى الله عليه وسلم- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتله ابن قمئة، وهو يرى أنه قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجع إلى المشركين وقال: إني قتلت محمدًا وصاح صارخٌ ألا إنّ محمدًا قد قتل، ويقال: إن ذلك الصارخ كان إبليس، فانكفأ الناس وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس: إلي عباد الله {إليَّ عبادَ الله} فاجتمع إليه ثلاثون رجلا فَحموه حتى كشفوا عنه المشركين ورمى سعد بن أبي وقاص حتى اندقتْ سية قوسه ونثل له رسول الله صلى الله عليه وسلم كنانته، وقال له: إرم فداك أبي وأمي، وكان أبو طلحة رجلا راميًا شديدا النزع كسر يومئذٍ قوسين أو ثلاثا، وكان الرجل يمر بجعبة من النبل فيقول: انثرها لأبي طلحة، وكان إذا رمى أشرف النبي صلى الله عليه وسلم فينظر إلى موضع نبله وأصيبت يد طلحة بن عبيد الله فيبست حين وقَى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصيبت عين قتادة بن النعمان يومئذ حين وقعت على وجنته، فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانها، فعادت كأحسن ما كانت.
فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أدركه أبي بن خلف الجمحي، وهو يقول: لا نجوتُ إن نجوتَ فقال القوم: يا رسول الله ألا يعطف عليه رجل منّا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: دعوه حتى إذا دَنَا منه وكان أُبي قبل ذلك يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: عندي رمكة أعلفها كل يوم فَرْقَ ذُرة أقتُلُكَ عليها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل أنا أقتلك إن شاء الله، فلما دنا منه تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الحربة من الحارث بن الصمة ثم استقبله فطعنه في عنقه فخدشهً خدشة فتدهدًأ عن فرسه وهو يخور كما يخور الثور، ويقول: قتلني محمد، فأخذه أصحابه وقالوا: ليس عليك بأس قال: بلى لو كانت هذه الطعنة بربيعة ومُضر لقتلتهم، أليس قال لي: أقتلك؟ فلو بزق عليّ بعد تلك المقالة لقتلني، فلم يلبث إلا يوما حتى مات بموضع يقال له سَرِف.
أخبرنا عبد الواحد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا عمرو بن علي، أنا أبو عاصم، عن ابن جريج عن عمرو بن دينار، عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: اشتدّ غضبُ الله على من قتله نبي واشتدّ غضبُ الله على من دَمىَّ وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قالوا: وفشا في الناس أن محمدًا قد قُتل فقال بعض المسلمين: ليتَ لنا رسولا إلى عبد الله بن أُبي فيأخذ لنا أمانًا من أبي سفيان، وبعض الصحابة جلسوا وألقوا بأيديهم، وقال أناس من أهل النفاق: إن كان محمدا قد قتل فالحقوا بدينكم الأول، فقال أنس بن النضر عمُّ أنس بن مالك: يا قوم إن كان قتل محمد فإن ربَّ محمد لم يُقتل وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقاتلوا على ما قاتل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومُوتُوا على ما مات عليه ثم قال: اللهم إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء يعني المسلمين، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء يعني المنافقين، ثم شدّ بسيفه فقاتل حتى قتل.
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلق إلى الصخرة وهو يدعو الناس فأول من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم كعب بن مالك، قال عرفتُ عينيه تحت المغفر تزهران فناديت بأعلى صوتي: يا معشر المسلمين أبشروا هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشار إليّ أن اسكتْ فانحازت إليه طائفة من أصحابه، فلامهم النبي صلى الله عليه وسلم على الفِرار فقالوا: يا نبي الله فديناك بآبائنا وأُمهاتنا، أتانا الخبرُ بأنك قد قُتلت فرُعبت قلوبنا فولّينا مدبرين فأنزل الله تعالى هذه الآية {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} ومحمد هو المستغرق لجميع المحامد، لأنّ الحمد لا يستوجبه إلا الكامل والتحميد فوق الحمد، فلا يستحقه إلا المستولي على الأمر في الكمال، وأكرم الله نبيَّه وصفيه باسمين مشتقين من اسمه جلّ جلاله محمد وأحمد وفيه يقول حسان بن ثابت:
ألم تَرَ أن الله أرسل عبدَه ** ببرهانه والله أعلى وأمجدُ

وشقَّ له من اسمه ليجلَّه ** فذو العرشِ محمود وهذا محمد

قوله تعالى: {أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} رجعتم إلى دينكم الأول، {وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ} فيرتّد عن دينه، {فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا} بارتداده وإنّما يضرُّ نفسه، {وَسَيَجْزِي اللَّه الشَّاكِرِينَ}.