فصل: تفسير الآيات (173- 174):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآيات (173- 174):

{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)}
{الَّذِينَ قَالَ لَهُم النَّاسُ} ومحل {الذين} خفض أيضا مردودُ على الذين الأول وأراد بالناس: نعيم بن مسعود، في قول مجاهد وعكرمة فهو من العام الذي أريد به الخاص كقوله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ} يعني: محمدًا صلى الله عليه وسلم وحده وقال محمد بن إسحاق وجماعة: أراد بالناس الركب من عبد القيس، {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} يعني أبا سفيان وأصحابه، {فَاخْشَوْهُمْ} فخافوهم واحذروهم فإنه لا طاقة لكم بهم، {فَزَادَهُمْ إِيمَانًا} تصديقًا ويقينًا وقوةً {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ} أي: كافينا الله، {وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} أي: الموكول إليه الأمور فعيل بمعنى مفعول.
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أخبرنا أحمد بن يونس، أخبرنا أبو بكر، عن أبي حصين، عن أبي الضحى، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: {حَسْبُنَا اللَّه وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} قالها إبراهيم حين ألقي في النار وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّه وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}.
{فَانْقَلَبُوا} فانصرفوا، {بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ} بعافية لم يلقوا عدوا {وَفَضْلٍ} تجارة وربح وهو ما أصابوا في السوق {لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} يصبهم أذى ولا مكروه، {وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّه} في طاعة الله وطاعة رسوله وذلك أنهم قالوا: هل يكون هذا غزوًا فأعطاهم الله ثواب الغزو ورضي عنهم، {وَاللَّه ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ}.

.تفسير الآيات (175- 178):

{إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175) وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالإيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178)}
قوله تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُم الشَّيْطَانُ} يعني: ذلك الذي قال لكم: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} من فعل الشيطان ألقي في أفواههم ليرهبوهم ويجبنُوُا عنهم، {يُخَوِّف أَوْلِيَاءَهُ} أي يخوفكم بأوليائه، وكذلك هو في قراءة أبي بن كعب يعني: يخوّف المؤمنين بالكافرين قال السدي: يعظّم أولياءَهُ في صدورهم ليخافوهم يدل عليه قراءة عبد الله بن مسعود {يخوفكم أولياءه} {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ} في ترك أمري {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} مصدقين بوعدي فإني متكفل لكم بالنصرة والظفر.
قوله عز وجل: {وَلا يَحْزُنْكَ} قرأ نافع {يحزنك} بضم الياء وكسر الزاي، وكذلك جميع القرآن إلا قوله: {لا يحزنهم الفزعُ الأكبرُ} ضدّه أبو جعفر وهما لغتان: حزن يحزن وأحزن يحزن إلا أن اللغة الغالبة حزن يحزن، {الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} قال الضحاك: هم كفار قريش وقال غيره: هم المنافقون يسارعون في الكفر بمظاهرة الكفار. {إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا} بمسارعتهم في الكفر، {يُرِيد اللَّه أَلا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ} نصيبًا في ثوابِ الآخرة، فلذلك خَذَلهم حتى سارعوا في الكفر، {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.
{إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا} استبدلوا {الْكُفْرَ بِالإيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا} وإنما يضرون أنفسهم، {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
{وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} قرأ حمزة هذا والذي بعده بالتاء فيهما، وقرأ الآخرون بالياء فمن قرأ بالياء فالذين في محل الرفع على الفاعل وتقديره ولا يحسبن الكفار إملاءنا لهم خيرًا، ومن قرأ بالتاء يعني: ولا تحسبن يا محمد الذين كفروا، وإنما نصب على البدل من الذين، {أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأنْفُسِهِمْ} والإملاء الإمهال والتأخير، يقال: عشت طويلا حميدًا وتمليت حينًا ومنه قوله تعالى: {واهجرني مليا} [مريم- 46] أي: حينا طويلا ثم ابتدأ فقال: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ} نمهلهم {لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ}.
قال مقاتل: نزلت في مشركي مكة وقال عطاء: في قريظة والنضير.
أخبرنا عبد الرحمن بن عبد الله القفال، أنا أبو منصور أحمد بن الفضل البَرْوَنْجِرْدِيّ، أنا أبو أحمد بكر بن محمد بن حمدان الصيرفي، أنا محمد بن يونس أنا أبو داود الطيالسي، أنا شعبة عن علي بن زيد، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الناس خير؟ قال: «من طال عمُرُه وحَسُنَ عمَلُه» قيل: فأي الناس شر؟ قال: «من طال عمرُه وساء عمَلُه».

.تفسير الآية رقم (179):

{مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)}
قوله تعالى: {مَا كَانَ اللَّه لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} اختلفوا فيها، فقال الكلبي: قالت قريش: يا محمد تزعم أن من خالفك فهو في النار والله عليه غضبان، وأن من اتبعك على دينك فهو في الجنة والله عنه راض، فأخبرنا بمن يُؤمن بك وبمن لا يُؤمن بك فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال السدي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عُرضتْ علي أمتي في صورها في الطين كما عُرِضتْ على آدم وأُعْلِمْتُ من يؤمن بي ومن يكفر بي» فبلغ ذلك المنافقين فقالوا استهزاء: زعم محمد أنه يعلم من يؤمن به ومن يكفر ممن لم يخلق بعد، ونحن معه وما يعرفنا، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «ما بال أقوام طعنوا في علمي لا تسألوني عن شيء فيما بينكم وبين الساعة إلا أنبأتكم به» فقام عبد الله بن حذافة السهمي: فقال: من أبي يا رسول الله؟ قال: حذافة فقام عمر فقال: يا رسول الله رضينا بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبالقرآن إمامًا وبك نبيًا فاعفُ عنا عفا الله عنك فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «فهل أنتم منتهون»؟ ثم نزل عن المنبر فأنزل الله تعالى هذه الآية.
واختلفوا في حكم الآية ونظمها، فقال ابن عباس رضي الله عنهما والضحاك ومقاتل والكلبي وأكثر المفسرين: الخطاب للكفار والمنافقين يعني {مَا كَانَ اللَّه لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} يا معشر الكفار والمنافقين من الكفر والنفاق {حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ}.
وقال قوم: الخطاب للمؤمنين الذين أخبر عنهم، معناه: ما كان الله ليذركم يا معشر المؤمنين على ما أنتم عليه من التباس المؤمن بالمنافق، فرجع من الخبر إلى الخطاب.
{حَتَّى يَمِيزَ} قرأ حمزة والكسائي ويعقوب بضم الياء والتشديد وكذلك التي في الأنفال، وقرأ الباقون بالخفيف يقال: ماز الشيء يميزُه ميزًا وميزّه تمييزًا إذا فرّقه فامتاز، وإنما هو بنفسه، قال أبو معاذ إذا فرقت بين شيئين قلت: مزت ميزًا، فإذا كانت أشياء قلت: ميزتها تمييزًا وكذلك إذا جعلت الشيء الواحد شيئين قلت: فَرَقَت بالتخفيف ومنه فرق الشعر، فإن جعلته أشياء قلت: فرَّقته تفريقًا، ومعنى الآية حتى يميزَ المنافق من المخلص، فميز الله المؤمنين من المنافقين يوم أحد حيث أظهروا النفاق وتخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال قتادة: حتى يميز الكافر من المؤمن بالهجرة والجهاد.
وقال الضحاك: {مَا كَانَ اللَّه لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} في أصلاب الرجال وأرحام النساء يا معشر المنافقين والمشركين حتى يفرق بينكم وبين من في أصلابكم وأرحام نسائكم من المؤمنين وقيل: {حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ} وهو المذنب {مِنَ الطَّيِّبِ} وهو المؤمن يعني: حتى يحط الأوزار عن المؤمن بما يصيبه من نكبة ومحنة ومصيبة، {وَمَا كَانَ اللَّه لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} لأنه لا يعلم الغيب أحدٌ غيره، {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ} فيُطلعه على بعض علم الغيب، نظيره قوله تعالى: {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدًا إلا من ارتضى من رسول} [سورة الجن الآيتان: 26، 27].
وقال السدي: معناه وما كان الله ليطلع محمدًا صلى الله عليه وسلم على الغيب ولكن الله اجتباه، {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ}.

.تفسير الآية رقم (180):

{وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)}
{وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُم اللَّه مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ} أي: ولا يحسبن الباخلون البخل خيرًا لهم، {بَلْ هُوَ} يعني: البخل، {شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ} أي: سوف يطوقون {مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} يعني: يجعل ما منعه من الزكاة حيَّةً تُطَوق في عنقه يوم القيامة تنهشه من فوقه إلى قدمه وهذا قول ابن مسعود وابن عباس وأبي وائل والشعبي والسدي.
أخبرنا عبد الواحد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا علي بن عبد الله المديني، أنا هاشم بن القاسم، أخبرنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار، عن أبيه، عن أبي صالح السمان، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاتَه مُثّلَ له ماله يوم القيامة شجاعًا أقرعَ له زبيبتان يُطَوَّقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه يعني شدقيه، ثم يقول: أنا مالك، أنا كنزك، ثم تلا {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} الآية».
أخبرنا عبد الواحد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا عمرو بن حفص بن غياث، أنا أبي، أنا الأعمش، عن المعرور بن سويد، عن أبي ذر رضي الله عنه قال: انتهيت إليه يعني: النبي صلى الله عليه وسلم قال. «والذي نفسي بيده، أو والذي لا إله غيره، أو كما حلف ما من رجل يكون له إبل أو بقر أو غنم لا يُؤدي حقها إلا أُتي بها يوم القيامة أعظم ما يكون وأسمنه تطؤه بأخفافها وتنطحُه بقرونها كلّما جازت أُخراها رُدتْ عليه أولاها حتى يُقضَى بين الناس».
قال إبراهيم النخعي: معنى الآية يجعل يوم القيامة في أعناقهم طوقًا من النار قال مجاهد: يَكلفون يوم القيامة أن يأتوا بما بخلوا به في الدنيا من أموالهم.
وروى عطية عن ابن عباس: أن هذه الآية نزلت في أحبار اليهود الذين كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونبوته وأراد بالبخل كتمان العلم كما قال في سورة النساء {الذين يبخلونَ ويأمرون الناس بالبخل ويكتمُوُن ما آتاهم الله من فضله} [النساء- 37].
ومعنى قوله: {سيطُوقون ما بخلوا به يوم القيامة} أي: يحملون وزرَه وإثمهُ كقوله تعالى: {وهم يحملون أوزارَهم على ظهورهم} [الأنعام- 31].
{وَلِلَّهِ مِيرَاث السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ} يعني: أنه الباقي الدائم بعد فناء خلقه وزوال أملاكهم فيموتون ويرثهم، نظيره قوله تعالى: {إنا نحن نرثُ الأرض ومن عليها} [مريم- 40] {وَاللَّه بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} قرأ أهل البصرة ومكة يعلمون بالياء وقرأ الآخرون بالتاء.

.تفسير الآية رقم (181):

{لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181)}
قوله تعالى: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّه قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْن أَغْنِيَاءُ} قال الحسن ومجاهد: لما نزلت: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِض اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} قالت اليهود: إن الله فقير استقرض منّا ونحن أغنياء، وذكر الحسن: أن قائل هذه المقالة حيي بن أخطب.
وقال عكرمة والسدي ومقاتل ومحمد بن إسحاق: كتب النبي صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر رضي الله عنه إلى يهود بني قينقاع يدعوهم إلى الإسلام وإلى إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وأن يقرضوا الله قرضا حسنا فدخل أبو بكر رضي الله عنه ذات يوم بيت مدارسهم فوجد ناسًا كثيرًا من اليهود قد اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له فنحاص بن عازوراء وكان من علمائهم، ومعه حبر آخر يقال له أشيع. فقال أبو بكر لفنحاص: اتق الله وأسلم فوالله إنك لتعلم أن محمدًا رسول الله قد جاءكم بالحق من عند الله تجدونه مكتوبًا عندكم في التوراة فآمِنْ وصَدِّقْ وأقْرِضِ الله قرضًا حسنًا يدخلك الجنة ويضاعف لك الثوابَ.
فقال فنحاص: يا أبا بكر تزعم أن ربَّنا يستقرضُ أموالنا وما يستقرض إلا الفقير من الغني؟ فإن كان ما تقول حقًا فإن الله إذًا لفقير ونحن أغنياء، وأنه ينهاكم عن الربا ويعطينا، ولو كان غنيًا ما أعطانا الربا.
فغضب أبو بكر رضي الله عنه وضرب وجه فنحاص ضربةً شديدةً وقال: والذي نفسي بيده لولا العهد الذي بيننا وبينك لضربتُ عُنقَك يا عُدوَّ الله فذهب فنحاص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد انظر ما صنع بي صاحبك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه: «ما حملك على ما صنعت؟».
فقال: يا رسول الله إن عدو الله قال قولا عظيمًا زعم أن الله فقير وأنهم أغنياء فغضبتُ لله فضربت وجهه، فجحد ذلك فنحاص، فأنزل الله تعالى ردًّا على فنحاص وتصديقًا لأبي بكر رضي الله عنه: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّه قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْن أَغْنِيَاءُ}.
{سَنَكْتُب مَا قَالُوا} من الإفك والفرية على الله {فنجازيهم به} وقال مقاتل: سنحفظ عليهم، وقال الواقدي: سنأمر الحفظة بالكتابة، نظيره قوله تعالى: {وإنا له كاتبون}، {وَقَتْلَهُم الأنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُول ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} قرأ حمزة {سيكتب} بضم الياء، {وقتلهم} برفع اللام {ويقول} بالياء و{ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} أي: النار وهو بمعنى المحرق كما يقال: لهم عذاب أليم أي: مؤْلم.

.تفسير الآيات (182- 183):

{ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ (182) الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183)}
{ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ} فيُعذب بغير ذنب.
قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا} الآية قال الكلبي: نزلت في كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف ووهب بن يهوذا وزيد بن التابوت وفنحاص بن عازوراء وحيي بن أخطب أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد تزعم أن الله تعالى بعثك إلينا رسولا وأنزل عليك الكتاب وأن الله تعالى قد عهد إلينا في التوراة {أَلا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ} يزعم أنه جاء من عند الله، {حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُه النَّارُ} فإن جئتنا به صدقناك؛ قال فأنزل الله تعالى: {الَّذِينَ قَالُوا} أي: سمع الله قول الذين قالوا ومحل {الَّذِينَ} خفض ردًّا على {الَّذِينَ} الأول، {إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا} أي: أمرنا وأوصانا في كتبه أن لا نؤمن برسول أي: لا نصدق رسولا يزعم أنه جاء من عند الله حتى يأتينا بقربان تأكله النار فيكون دليلا على صدقه، والقربان: كل ما يتقرّب به العبد إلى الله تعالى من نسيكةٍ وصدقةٍ وعملٍ صالحٍ فُعْلان من القربة وكانت القرابين والغنائم لا تحل لبني إسرائيل وكانوا إذا قربوا قربانًا أو غنموا غنيمةً جاءت نارٌ بيضاء من السماء لا دخان لها ولها دوي وحفيف فتأكله وتحرق ذلك القربان وتلك الغنيمة فيكون ذلك علامة القبول وإذا لم يُقبل بقيت على حالها.
وقال السدي: إن الله تعالى أمر بني إسرائيل من جاءكم يزعم أنه رسول الله فلا تصدقوه حتى يأتيكم بقربان تأكله النار حتى يأتيكم المسيح ومحمد، فإذا أتياكم فآمنوا بهما فإنهما يأتيان بغير قربان قال الله تعالى إقامة للحجة عليهم، {قُلْ} يا محمد {قَدْ جَاءَكُمْ} يا معشر اليهود {رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ} القربان {فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ} يعني: زكريا ويحيى وسائر من قتلوا من الأنبياء، وأراد بذلك أسلافهم فخاطبهم بذلك لأنهم رضوا بفعل أسلافهم {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} معناه تكذيبهم مع علمهم بصدقك، كقتل آبائهم الأنبياء، مع الإتيان بالقربان والمعجزات، ثم قال معزيا لنبيه صلى الله عليه وسلم: