فصل: تفسير الآيات (191- 192):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآيات (191- 192):

{الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192)}
{الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} قال علي بن أبي طالب وابن عباس رضي الله عنهم والنخعي وقتادة: هذا في الصلاة يصلي قائمًا فإن لم يستطع فقاعدًا فإن لم يستطع فعلى جنب.
أخبرنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الضبي، أخبرنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجراحي، أنا أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي، أخبرنا أبو عيسى محمد بن عيسى الترمذي، أنا هناد أنا وكيع عن إبراهيم بن طهمان، عن حسين المعلم، عن عبد الله بن بريدة، عن عمران بن حصين قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة المريض فقال: «صل قائمًا فإن لم تستطع فقاعدًا فإن لم تستطع فعلى جنب»..
وقال سائر المفسرين أراد به المداومة على الذكر في عموم الأحوال لأن الإنسان قلَ ما يخلو من إحدى هذه الحالات الثلاث، نظيره في سورة النساء {فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبكم} [النساء- 103]، {وَيَتَفَكَّرُون َفِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ} وما أبدع فيهما ليَدُلّهم ذلك على قدرة الله ويعرفوا أن لها صانعًا قادرًا مدبرًا حكيمًا قال ابن عون: الفكرة تذهب الغفلة وتحدث للقلب الخشية كما يحدث الماء للزرع النبات، وما جليت القلوب بمثل الأحزان ولا استنارت بمثل الفكرة، {رَبَّنَا} أي: ويقولون ربنا {مَا خَلَقْتَ هَذَا} ردّه إلى الخلق فلذلك لم يقل هذه، {بَاطِلا} أي: عبثا وهزلا بل خلقته لأمر عظيم وانتصب الباطل بنزع الخافض، أي: بالباطل، {سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّار}.
{رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} أي: أهنته، وقيل: أهلكته، وقيل: فضحته، لقوله تعالى: {ولا تخزونِ في ضيفي} [هود- 78] فإن قيل: قد قال الله تعالى: {يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه} [التحريم- 8] ومن أهل الإيمان من يدخل النار وقد قال: {إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} قيل: قال أنس وقتادة معناه: إنك من تخلد في النار فقد أخزيته وقال سعيد بن المسيب هذه خاصة لمن لا يخرج منها فقد روى أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أن الله يدخل قومًا النارَ ثم يخرجون منها». {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ}.

.تفسير الآيات (193- 195):

{رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194) فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195)}
{رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا} يعني: محمدا صلى الله عليه وسلم قاله ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما، وأكثر الناس، وقال القرظي: يعني القرآن فليس كل أحد يلقى النبي صلى الله عليه وسلم، {يُنَادِي لِلإيمَانِ} أي إلى الإيمان، {أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ} أي: في جملة الأبرار.
{رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ} أي: على ألِسنَةِ رسلك، {وَلا تُخْزِنَا} ولا تعذبنا ولا تهلكنا ولا تفضحنا ولا تهنا، {يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِف الْمِيعَادَ}.
فإن قيل: ما وجه قولهم: {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ} وقد علموا أن الله لا يخلف الميعاد؟ قيل: لفظه دعاء ومعناه خبر أي: لتؤتينا ما وعدتنا على رُسلك تقديره: {فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا} {وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} لتؤتِيَنا ما وعدتنا على رُسلك من الفضل والرحمة وقيل: معناه ربنا واجلعنأ ممن يستحقون ثوابَك وتؤتيهم ما وعدتهم على ألِسنَةِ رسلك لأنهم لم يتيقنوا استحقاقهم لتلك الكرامة فسألوه أن يجعلهم مستحقين لها، وقيل: إنما سألوه تعجيل ما وعدهم من النصر على الأعداء، قالوا: قد عَلِمنَا أنك لا تخلف ولكن لا صبرَ لنا على حلمك فعجِّل خزيهم وانصرنا عليهم.
قوله تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي} أي: بأني، {لا أُضِيعُ} لا أحُبط، {عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ} أيها المؤمنون {مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} قال مجاهد: قالت أم سلمة يا رسول الله إني أسمع الله يذكر الرجال في الهجرة ولا يذكر النساء فأنزل الله تعالى هذه الآية {بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} قال الكلبي: في الدين والنصرة والموالاة، وقيل: كلكم من آدم وحواء، وقال الضحاك: رجالكم شكل نسائكم ونساؤكم شكل رجالكم في الطاعة، كما قال: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض} [التوبة- 71].
{فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي} أي: في طاعتي وديني، وهم المهاجرون الذين أخرجهم المشركون من مكة، {وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا} قرأ ابن عامر وابن كثير {وقتلوا} بالتشديد وقال الحسن: يعني أنهم قطعوا في المعركة، والآخرون بالتخفيف وقرأ أكثر القراء: {وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا} يريد أنهم قاتلوا العدو ثم أنهم قتلوا وقرأ حمزة والكسائي {وَقُتِلُوا وَقَاتَلُوا} وله وجهان أحدهما: معناه وقاتل من بقي منهم، ومعنى قوله: {وَقُتِلُوا} أي: قُتل بعضهم تقول العرب قتلنا بني فلان وإنما قتلوا بعضهم والوجه الآخر {وَقُتِلُوا} وقد قاتلوا، {لأكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَاالأنْهَار ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} نصب على القطع قاله الكسائي، وقال المبرد: مصدر أي: لأثيبنهم ثوابا، {وَاللَّه عِنْدَه حُسْن الثَّوَابِ}.

.تفسير الآيات (196- 198):

{لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأبْرَارِ (198)}
قوله عز وجل: {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّب الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ} نزلت في المشركين، وذلك أنهم كانوا في رخاء ولين من العيش يتجرون ويتنعمون فقال بعض المؤمنين: إن أعداء الله تعالى فيما نَرَى من الخير ونحن في الجهد؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّب الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ} وضربهم في الأرض وتصرفهم في البلاد للتجارات وأنواع المكاسب فالخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد منه غيره.
{مَتَاعٌ قَلِيلٌ} أي: هو متاع قليل وبُلْغَةٌ فانية ومُتْعَةٌ زائلة، {ثُمَّ مَأْوَاهُمْ} مصيرهم، {جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} الفراش.
{لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَار خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً} جزاء وثوابا، {مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} نصب على التفسير وقيل: جعل ذلك نزلا {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأبْرَارِ} من متاع الدنيا.
أخبرنا عبد الواحد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا عبد العزيز بن عبد الله، أنا سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد، عن عبيد بن حُنَيْن أنه سمع ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: جئت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مَشْرُبَةٍ وإنه لعلى حصير ما بينه وبينه شيء وتحت رأسه وسادة من أدم حشوها ليف وإن عند رجليه قرظًا مصبورًا، وعند رأسه أُهب معلقة فرأيت أثر الحصير في جنبه، فبكيت فقال: ما يُبكيك؟ فقلت: يا رسول الله إن كسرى وقيصر فيما هما فيه وأنت رسول الله؟ فقال: «أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟».

.تفسير الآية رقم (199):

{وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199)}
قوله عز وجل: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِن بِاللَّهِ} الآية قال ابن عباس وجابر وأنس وقتادة: نزلت في النجاشي ملك الحبشة، واسمه أصحمة وهو بالعربية عطية وذلك أنه لما مات نعاه جبريل عليه السلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم في اليوم الذي مات فيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه أخرجوا فصلوا على أخٍ لكم مات بغير أرضكم النجاشي، فخرج إلى البقيع وكشف له إلى أرض الحبشة فأبصر سرير النجاشي وصلى عليه وكبر أربع تكبيرات، واستغفر له فقال المنافقون: انظروا إلى هذا يصلي على علج حبشي نصراني لم يره قط وليس على دينه فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال عطاء: نزلت في أهل نجران أربعين رجلا من بني حارث بن كعب اثنين وثلاثين من أرض الحبشة وثمانية من الروم كانوا على دين عيسى عليه السلام فآمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وقال ابن جريج: نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه.
وقال مجاهد: نزلت في مؤمني أهل الكتاب كلهم، {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِن بِاللَّهِ} {وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} يعني: القرآن، {وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ} يعني: التوراة والإنجيل، {خَاشِعِينَ لِلَّهِ} خاضعين متواضعين لله، {لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا} يعني: لا يحرفون كُتبَهم ولا يكتُمون صفة محمد صلى الله عليه وسلم لأجل الرياسة والمأكلة كفعل غيرهم من رؤساء اليهود، {أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}.

.تفسير الآية رقم (200):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)}
قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} قال الحسن: اصبروا على دينكم ولا تدعوه لشدة ولا رخاء، وقال قتادة: اصبروا على طاعة الله.
وقال الضحاك ومقاتل بن سليمان: على أمر الله.
وقال مقاتل بن حيان: على أداء فرائض الله تعالى، وقال زيد بن أسلم: على الجهاد. وقال الكلبي: على البلاء، وصابروا يعني: الكفارَ، ورابطوا يعني: المشركين، قال أبو عبيدة، أي داوموا واثبتوا، والربطُ الشَّدُّ، وأصل الرباط أن يربط هؤلاء خيولهم، وهؤلاء خيولهم، ثم قيل: لكل مقيم في ثغر يدفعُ عمن وراءه، وإن لم يكن له مركب.
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا عبد الله بن منير، سمع أبا النضر، أنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد الساعدي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رباط يوم في سبيل الله خيرٌ من الدنيا وما عليها، وموضع سَوط أحدكم من الجنة خيرٌ من الدنيا وما عليها، والروحة يروحها العبد في سبيل الله أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها»..
أخبرنا أبو الحسن علي بن يوسف الجويني، أخبرنا أبو محمد محمد بن علي بن محمد بن شريك الشافعي، أخبرنا عبد الله بن محمد بن مسلم أبو بكر الجُورْبَذي، أنا يونس بن عبد الأعلى، أنا ابن وهب، أخبرني عبد الرحمن بن شريح، عن عبد الكريم بن الحارث، عن أبي عبيدة بن عقبة، عن شرحبيل بن السِّمط عن سلمان الخير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من رابط يومًا وليلةً في سبيل الله كان له أجرُ صيام شهر مقيم، ومن مات مرابطًا جرى له مثل ذلك الأجر، وأجري عليه من الرزق، وأُمن من الفتان».
وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن: لم يكن في زمان النبي صلى الله عليه وسلم غزو يرابط فيه، ولكنه انتظار الصلاة خلف الصلاة، ودليل هذا التأويل ما أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي، أنا زاهر بن أحمد الفقيه، أنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي، أنا أبو مصعب، عن مالك، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أخبركم بما يمحو الله الخطايا ويرفع به الدرجات؟ إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط فذلكم الرباط».
{وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُم ْتُفْلِحُونَ} قال بعض أرباب اللسان: اصبروا على النعماء وصابرُوا على البأساء والضراء ورابطوا في دار الأعداء واتقوا إله الأرض والسماء لعلكم تفلحون في دار البقاء.

.سورة النساء:

مدنية.

.تفسير الآيات (1- 2):

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1) وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2)}
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} يعني: آدم عليه السلام، {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} يعني: حواء، {وَبَثَّ مِنْهُمَا} نشر وأظهر، {رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ} أي: تتساءلون به، وقرأ أهل الكوفة بتخفيف السين على حذف إحدى التاءين، كقوله تعالى: {ولا تعاونوا}، {وَالأرْحَام} قراءة العامة بالنصب، أي: واتقوا الأرحام أن تقطعوها، وقرأ حمزة بالخفض، أي: به وبالأرحام كما يقال: سألتك بالله والأرحام، والقراءة الأولى أفصح لأن العرب لا تكاد تنسق بظاهر على مكنى، إلا أن تعيد الخافض فتقول: مررتُ به وبزيد، إلا أنه جائز مع قلّته، {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} أي: حافظا.
قوله تعالى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} قال مقاتل والكلبي: نزلت في رجل من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم، فلما بلغ اليتيم طلب المال فمنعه عمه فترافعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية، فلما سمعها العمُّ قال: أطعنا الله وأطعنا الرسول نعوذ بالله من الحوب الكبير، فدفع إليه ماله فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من يوق شح نفسه ويطع ربه هكذا فإنه يَحُلّ دَارَه»، يعني: جنته، فلما قبض الفتى ماله أنفق في سبيل الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ثبت الأجر وبقي الوزر» فقالوا: كيف بقي الوزر؟ فقال: «ثبت الأجر للغلام وبقي الوزر على والده».
وقوله: {وَآتُوا} خطاب للأولياء والأوصياء، واليتامى: جمع يتيم، واليتيم: اسم لصغير لا أب له ولا جد، وإنما يدفع المال إليهم بعد البلوغ، وسماهم يتامى هاهنا على معنى أنهم كانوا يتامى.
{وَلا تَتَبَدَّلُوا} أي: لا تستبدلوا، {الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} أي: مالهم الذي هو حرام عليكم بالحلال من أموالكم، واختلفوا في هذا التبدل، قال سعيد بن المسيب والنخعي والزهري والسدي: كان أولياء اليتامى يأخذون الجيد من مال اليتيم ويجعلونه مكان الرديء، فربما كان أحدهما يأخذ الشاة السمينة من مال اليتيم ويجعل مكانها المهزولة، ويأخذ الدرهم الجيد ويجعل مكانه الزيف، ويقول: درهمٌ بدرهم، فنُهوا عن ذلك.
وقيل: كان أهل الجاهلية لا يُورِّثون النساء والصبيان ويأخذ الأكبرُ الميراثَ، فنصيبه من الميراث طيب، وهذا الذي يأخذه خبيث، وقال مجاهد: لا تتعجل الرزقَ الحرام قبل أن يأتيَك الحلال.
{وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} أي: مع أموالكم، كقوله تعالى: {من أنصاري إلى الله} أي: مع الله، {إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} أي: إثما عظيما.