فصل: تفسير الآية رقم (3):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآية رقم (3):

{وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلا تَعُولُوا (3)}
وقوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} الآية. اختلفوا في تأويلهم، فقال بعضهم: معناه إن خفتم يا أولياء اليتامى أن لا تعدلوا فيهنّ إذا نكحتموهن فانكحوا غيرهن من الغرائب مثنى وثُلاث ورُباعَ.
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا أبو اليمان، أنا شعيب، عن الزهري، قال: كان عروة بن الزبير يحدث أنه سأل عائشة رضي الله عنها {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} قالت: هي اليتيمة تكون في حجر وليها فيرغب في جمالها ومالها ويريد أن يتزوجَها بأدنى من سنة نسائها، فنهوا عن نكاحهنّ إلا أن يقسطوا لهن في إكمال الصداق، وأمروا بنكاح من سواهنّ من النساء، قالت عائشة رضي الله عنها: ثم استفتى الناس رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} إلى قوله تعالى: {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ}. فبيّن الله تعالى في هذه الآية أن اليتيمة إذا كانت ذات جمال أو مال، رغبوا في نكاحها ولم يلحقوها بسنتها بإكمال الصداق، وإذا كانت مرغوبة عنها في قلة المال والجمال تركوها والتمسوا غيرها من النساء، قال: فكما يتركونها حين يرغبون عنها فليس لهم أن ينكحوها إذا رغبوا فيها إلا أن يُقسطوا لها الأوْفَى من الصداق ويُعطوها حقَّها.
قال الحسن: كان الرجل من أهل المدينة يكون عنده الأيتام وفيهن من يحل له نكاحها فيتزوجها لأجل مالها وهي لا تعجبه كراهية أن يدخله غريبٌ فيشاركه في مالها، ثم يسيء صحبتها ويتربص بها أن تموت ويرثها، فعاب الله تعالى ذلك، وأنزل الله هذه الآية.
وقال عكرمة: كان الرجل من قريش يتزوج العشر من النساء والأكثر فإذا صار معدما من مُؤَنِ نسائه مالَ إلى مالِ يتيمه الذي في حجره فأنفقه، فقيل لهم: لا تزيدوا على أربع حتى لا يحوجكم إلى أخذ أموال اليتامى، وهذه رواية طاووس عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وقال بعضهم: كانوا يتحرجون عن أموال اليتامى ويترخصون في النساء، فيتزوجون ما شاءوا وربما عدلوا وربما لم يعدلوا، فلما أنزل الله تعالى في أموال اليتامى {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} أنزل هذه الآية {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} يقول كما خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فكذلك خافوا في النساء أن لا تعدلوا فيهن فلا تتزوجوا أكثر مما يُمكنكم القيام بحقهن، لأن النساء في الضعف كاليتامى، وهذا قول سعيد بن جبير وقتادة والضحاك والسدي، ثم رخص في نكاح أربع فقال: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا} فيهن {فَوَاحِدَة} وقال مجاهد: معناه إن تحرجتم من ولاية اليتامى وأموالهم إيمانًا فكذلك تحرجوا من الزنا فانكحوا النساء الحلال نكاحًا طيبًا ثم بين لهم عددًا، وكانوا يتزوجون ما شاءوا من غير عدد، قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} أي: مَنْ طَابَ كقوله تعالى: {والسماء وما بناها} [الشمس- 5] أي ومن بناها {قال فرعون وما رب العالمين} [الشعراء- 23] والعرب تضع من وما كل واحدة موضع الأخرى، كقوله تعالى: {فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين} [النور- 45]، وطابَ أي: حلّ لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع، معدولات عن اثنين، وثلاث، وأربع، ولذلك لا ينصرفنَ، والواو بمعنى أو، للتخيير، كقوله تعالى: {أن تقوموا لله مثنى وفرادى} [سبأ- 46]: {أولى أجنحة مثنى وثلاث ورباع} [غافر- 1] وهذا إجماع أن أحدًا من الأمة لا يجوز له أن يزيد على أربع نسوة، وكانت الزيادة من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم، لا مشاركة معه لأحد من الأمة فيها، وروي أن قيس بن الحارث كان تحته ثمان نسوة فلما نزلت هذه الآية قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «طلق أربعا وأمسك أربعا» قال فجعلت أقول للمرأة التي لم تلد يا فلانة أدبري والتي قد ولدت يا فلانة أقبلي. وروي أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم وعنده عشر نسوة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «أمسك أربعا وفارق سائرهن».
وإذا جمع الحرُّ بين أربع نسوة حرائر يجوز، فأما العبد فلا يجوز له أن ينكح أكثر من امرأتين عند أكثر أهل العلم أخبرنا عبد الوهاب بن أحمد الخطيب، أنا عبد العزيز أحمد الخلال، أنا أبو العباس الأصم، أنا الربيع، أنا الشافعي، أنا سفيان، عن محمد بن عبد الرحمن مولى أبي طلحة، عن سليمان بن يسار، عن عبد الله بن عتبة، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: ينكح العبد امرأتين ويطلق طلقتين وتعتد الأمة بحيضتين، فإن لم تكن تحيض فبشهرين أو شهر ونصف وقال ربيعة: يجوز للعبد أن ينكح أربع نسوة كالحر.
{فَإِنْ خِفْتُمْ} خشيتم، وقيل: علمتم، {أَلا تَعْدِلُوا} بين الأزواج الأربع، {فَوَاحِدَة} أي فانكحُوا واحدةً. وقرأ أبو جعفر {فَوَاحِدَةٌ} بالرفع، {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} يعني السراري لأنه لا يلزم فيهن من الحقوق ما يلزم في الحرائر، ولا قسم لهن، ولا وقف في عددهن، وذكر الأيمان بيان، تقديره: أو ما ملكتم، وقال بعض أهل المعاني: أو ما ملكت أيمانكم أي: ما ينفذ فيه إقسامكم، جعله من يمين الحلف، لا يمين الجارحة، {ذَلِكَ أَدْنَى} أقرب، {الآ تَعُوِلُوا} أي: لا تَجوُرَوا ولا تميلوا، يقال: ميزان عائل، أي: جائر مائل، هذا قول أكثر المفسرين، وقال مجاهد: أن لا تضلوا، وقال الفراء: أن لا تجاوزوا ما فرض الله عليكم، وأصل العول: المجاوزة، ومنه عول الفرائض، وقال الشافعي رحمه الله: أن لا تكْثُر عيالكم، وما قاله أحد، إنما يقال من كثرة العيال: أعال يعيل إعالة، إذا كثر عياله. وقال أبو حاتم: كان الشافعي رضي الله عنه أعلم بلسان العرب منّا ولعله لغة، ويقال: هي لغة حمير، وقرأ طلحة بن مصرف {أن لا تعيلوا} وهي حجة لقول الشافعي رضوان الله عليه.

.تفسير الآية رقم (4):

{وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4)}
{وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} قال الكلبي ومجاهد: هذا الخطاب للأولياء، وذلك أن وليّ المرأة كان إذا زوجها فإن كانت معهم في العشيرة لم يعطها من مهرها قليلا ولا كثيرًا، وإن كان زوجها غريبًا حملوها إليه على بعير ولم يعطوها من مهرها غير ذلك. فنهاهم الله عن ذلك وأمرهم أن يدفعوا الحق إلى أهله.
قال الحضرمي: كان أولياء النساء يُعطي هذا أُخته على أن يعطيه الآخرُ أُخته، ولا مهرَ بينهما، فنُهوا عن ذلك وأمروا بتسمية المهر في العقد. أخبرنا أبو الحسن السرخسي، أنا زاهر بن أحمد أنا أبو إسحاق الهاشمي، أنا أبو مصعب، عن مالك عن نافع، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نهى عن الشِّغَار».
والشغار: أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوج الرجل الآخر ابنته، وليس بينهما صداق.
وقال الآخرون: الخطاب للأزواج أمروا بإيتاء نسائهم الصداق، وهذا أصح، لأن الخطاب فيما قبل مع الناكحين، والصَّدُقَات: المهور، واحدها صدقة {نِحْلَة} قال قتادة: فريضةً، وقال ابن جريج: فريضة مسماة، قال أبو عبيدة: ولا تكون النحلة إلا مسماة معلومة، وقال الكلبي: عطية وهبة، وقال أبو عبيدة: عن طيب نفس، وقال الزجاج: تدينا.
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا الليث، حدثني يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن عقبة بن عامر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج».
{فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا} يعني: فإن طابت نفوسُهن بشيء من ذلك فوهبنً منكم، فنقل الفعل من النفوس إلى أصحابها فخرجت النفس مفسرا، فلذلك وحد النفس، كما قال الله تعالى: {وضاق بهم ذرعا} [هود- 77، العنكبوت- 33] {وقَريّ عينا} [مريم- 26] وقيل: لفظها واحد ومعناها جمع، {فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} سائغًا طيبًا، يقال هنأ في الطعام يهنأ بفتح النون في الماضي وكسرها في الباقي، وقيل: الهنأ: الطيب المساغ الذي لا ينغصه شيء، والمريء: المحمود العاقبة التام الهضم الذي لا يضر، قرأ أبو جعفر {هَنِيئًا مَرِيئًا} بتشديد الياء فيهما من غير همز، وكذلك بري، وبريون، وبريا وكهية والآخرون يهمزونها.

.تفسير الآية رقم (5):

{وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلا مَعْرُوفًا (5)}
قوله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} اختلفوا في هؤلاء السفهاء فقال قوم: هم النساء، وقال الضحاك: النساء من أسفه السفهاء، وقال مجاهد: نهى الرجال أن يُؤتوا النساء أموالهم وهنّ سفهاء، مَنْ كُنّ، أزواجا أو بناتٍ أو أمهاتٍ، وقال آخرون: هم الأولاد، قال الزهري: يقول لا تعطِ ولدَك السفيه مالك الذي هو قيامك بعد الله تعالى فيفسده، وقال بعضهم: هم النساء والصبيان، وقال الحسن: هي امرأتك السفيهة وابنك السفيه، وقال ابن عباس: لا تعمد إلى مالك الذي خولك الله وجعله لك معيشة فتعطيه امرأتك أو بنيك فيكونوا هم الذين يقومون عليك، ثم تنظر إلى ما في أيديهم، ولكن أمسك مالك وأصلحه وكن أنت الذي تنفق عليهم في رزقهم ومَؤنتهم، قال الكلبي: إذا علم الرجل أنّ امرأته سفيهة مفسدة وأن ولده سفيه مفسد فلا ينبغي أن يسلط واحدًا منهما على ماله فيفسده. وقال سعيد بن جبير وعكرمة: هو مال اليتيم يكون عندك، يقول لا تؤته إيّاه وأنفق عليه حتى يبلغ، وإنّما أضاف إلى الأولياء فقال: {أَمْوَالَكُم} لأنهم قوامها ومدبروها.
والسفيه الذي لا يجوز لوليه أن يؤتيه ماله هو المستحق للحَجْرِ عليه، وهو أن يكون مبذرًا في ماله أو مفسدا في دينه، فقال جل ذكره: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ} أي: الجهال بموضع الحق أموالكم التي جعل الله لكم قياما.
قرأ نافع وابن عامر {قِيَامًا} بلا ألف، وقرأ الآخرون {قِيَامًا} وأصله: قواما، فانقلبت الواو ياءً لانكسار ما قبلها، وهو ملاك الأمر وما يقوم به الأمر. وأراد هاهنا قِوام عيشكم الذي تعشيون به. قال الضحاك: به يقام الحج والجهاد وأعمال البِّر وبه فكاك الرقاب من النار.
{وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا} أي: أطعموهم، {وَاكْسُوهُمْ} لمن يجب عليكم رزقه ومؤنته، وإنما قال: {فِيهَا} يقل: منها، لأنه أراد: اجعلوا لهم فيها رزقا فإن الرزق من الله: العطيةُ من غير حدٍّ، ومن العباد أجراء موقتٌ محدود. {وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلا مَعْرُوفًا} عِدَة جميلة، وقال عطاء: إذا ربحتُ أعطيتُك وإن غنمتُ جعلتُ لك حظًا، وقيل: هو الدعاء، وقال ابن زيد: إن لم يكن ممن تجب عليكم نفقته، فقل له: عافاك الله وإيّانا، بارك الله فيك، وقيل: قولا لينا تطيبُ به أنفسُهم.

.تفسير الآية رقم (6):

{وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (6)}
قوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} الآية نزلت في ثابت بن رفاعة وفي عمه، وذلك أن رفاعة توفي وترك. ابنه ثابتا وهو صغير، فجاء عمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إن ابن أخي يتيم في حجري، فما يحل لي من ماله ومتى أدفع إليه ماله؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} اختبروهم في عقولهم وأديانهم وحفظهم أموالَهم، {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} أي: مبلغ الرجال والنساء، {فَإِنْ آنَسْتُم} أبصرتم، {مِنْهُمْ رُشْدًا} فقال المفسرون يعني: عقلا وصلاحًا في الدين وحفظًا للمال وعلمًا بما يصلحه. وقال سعيد بن جبير ومجاهد والشعبي: لا يدفع إليه ماله وإن كان شيخا حتى يؤنس منه رشده.
والابتلاء يختلف باختلاف أحوالهم فإن كان ممن يتصرف في السوق فيدفع الولي إليه شيئًا يسيرا من المال وينظر في تصرفه وإن كان ممن لا يتصرف في السوق فيتخبره في نفقة داره، والإنفاق على عبيده وأُجرائه، وتختبر المرأة في أمر بيتها وحفظ متاعها وغزلها واستغزالها، فإذا رأى حسن تدبيره، وتصرفه في الأمور مرارًا يغلب على القلب رشده، دفعَ المالَ إليه.
واعلم أن الله تعالى علق زوال الحَجْرِ عن الصغير وجواز دفع المال إليه بشيئين: بالبلوغ والرَّشد، فالبلوغ يكون بأحد {أشياء أربعة}، اثنان يشترك فيهما الرجال والنساء، واثنان تختصان بالنساء: فما يشترك فيه الرجال والنساء أحدهما السن، والثاني الاحتلام، أما السن فإذا استكمل المولود خمس عشرة سنة حكم ببلوغه غلامًا كان أو جارية، لما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال، أنا أبو العباس الأصم، أنا الربيع، أنا الشافعي، أخبرنا سفيان بن عيينة عن عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: عُرضْتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم عام أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة، فردَّني، ثم عُرضتَ عليه عام الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني، قال نافع: فحدثتُ بهذا الحديث عمر بن عبد العزيز، فقال: هذا فرق بين المقاتلة والذريّة، وكتب أن يفرض لابن خمس عشرة سنة في المقاتلة، ومن لم يبلغها في الذرية. وهذا قول أكثر أهل العلم.
وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى: بلوغ الجارية باستكمال سبع عشرة، وبلوغ الغلام باستكمال ثماني عشرة سنة.
وأما الاحتلام فنعني به نزول المني سواء كان بالاحتلام أو بالجماع، أو غيرهما، فإذا وجدت ذلك بعد استكمال تسع سنين من أيهما كان حُكم ببلوغه، لقوله تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الأطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا} وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ في الجزية حين بعثه إلى اليمن: «خُذْ من كل حالم دينارا».
وإما الإنبات، وهو نبات الشعر الخشن حول الفرج: فهو بلوغ في أولاد المشركين، لما روي عن عطية القرظي قال: كنت من سبي قريظة، فكانوا ينظرون فمن أنبت الشعر قتل، ومن لم ينبت لم يقتل، فكنت ممن لم ينبت.
وهل يكون ذلك بلوغًا في أولاد المسلمين؟ فيه قولان، أحدهما: يكون بلوغًا كما في أولاد الكفار، والثاني: لا يكون بلوغا لأنه يمكن الوقوف على مواليد المسلمين بالرجوع إلى آبائهم، وفي الكفار لا يوقف على مواليدهم، ولا يقبل قول آبائهم فيه لكفرهم، فجعل الإنبات الذي هو أمارة البلوغ بلوغًا في حقهم.
وأما ما يختص بالنساء: فالحيض والحَبَل، فإذا حاضت المرأة بعد استكمال تسع سنين يُحكم ببلوغها، وكذلك إذا ولدت يُحكم ببلوغها قبل الوضع بستة أشهر لأنها أقل مدة الحمل.
وأما الرشد: فهو أن يكون مصلحًا في دينه وماله، فالصلاح في الدين هو أن يكون مجتنبًا عن الفواحش والمعاصي التي تسقط العدالة، والصلاح في المال هو أن لا يكون مبذرًا، والتبذير: هو أن ينفق ماله فيما لا يكون فيه محمدة دنيويّة ولا مثوبة أخرويّة، أو لا يُحسنُ التصرفَ فيها، فيغبن في البيوع فإذا بلغ الصبي وهو مفسد في دينه وغير مصلح لماله، دام الحجر عليه، ولا يدفع إليه ماله ولا ينفذ تصرفه.
وعند أبي حنيفة رضي الله عنه إذا كان مصلحًا لماله زال الحجر عنه وإن كان مفسدا في دنيه، وإذا كان مفسدا لماله قال: لا يدفع إليه المال حتى يبلغ خمسًا وعشرين سنة، غير أن تصرّفه يكون نافذًا قبله. والقرآن حجة لمن استدام الحجر عليه، لأن الله تعالى قال: {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} أمر بدفع المال إليهم بعد البلوغ وإيناس الرشد، والفاسق لا يكون رشيدًا وبعد بلوغه خمسًا وعشرين سنة، وهو مفسد لماله بالاتفاق غير رشيد، فوجب أن لا يجوز دفع المال إليه كما قبل بلوغ هذا السن.
وإذا بلغ وأونس منه الرشد، زال الحجر عنه، ودفع إليه المال رجلا كان أو امرأة تزوج أو لم يتزوج.
وعند مالك رحمه الله تعالى: إن كانت امرأة لا يدفع المال إليها ما لم تتزوج، فإذا تزوجت دفع إليها، ولكن لا ينفذ تصرفها إلا بإذن الزوج، ما لم تكبر وتُجرَّب.
فإذا بلغ الصبي رشيدًا وزال الحجر عنه ثم عاد سفيهًا، نظر: فإن عاد مبذرًا لماله حجر عليه، وإن عاد مفسدًا في دينه فعلى وجهين: أحدهما: يعاد الحجر عليه كما يستدام الحجر عليه إذا بلغ بهذه الصفة، والثاني: لا يعاد لأن حكم الدوام أقوى من حكم الابتداء.
وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى: لا حجر على الحر العاقل البالغ بحال، والدليل على إثبات الحجر من اتفاق الصحابة رضي الله عنهم ما روي عن هشام بن عروة عن أبيه أن عبد الله بن جعفر ابتاع أرضا سبخة بستين ألف درهم، فقال علي: لآتين عثمان فلأحجرن عليك فأتى ابن جعفر الزبير فأعلمه بذلك فقال الزبير: أنا شريكك في بيعتك، فأتى علي عثمان وقال: احجر على هذا، فقال الزبير: أنا شريكه، فقال عثمان: كيف أحجر على رجل في بيع شريكه فيه الزبير، فكان ذلك اتفاقا منهم على جواز الحجر حتى احتال الزبير في دفعه.
قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوهَا} يا معشر الأولياء {إِسْرَافًا} بغير حق، {وَبِدَارًا} أي مبادرة {أَنْ يَكْبَرُوا} {أَن} في محل النصب، يعني: لا تبادروا كبرهم ورشدهم حذرًا من أن يبلغوا فيلزمكم تسليمها إليهم، ثم بين ما يحل لهم من مالهم فقال: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ} أي ليمتنع من مال اليتيم فلا يرزأه قليلا ولا كثيرًا، والعفة: الامتناع مما لا يحل {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا} محتاجا إلى مال اليتيم وهو يحفظه ويتعهده فليأكل بالمعروف.
أخبرنا محمد بن الحسن المروزي، أخبرنا أبو سهل محمد بن عمر السجزي، أخبرنا الإمام أبو سليمان الخطابي، أخبرنا أبو بكر بن داسة التمار، أخبرنا أبو داؤد السجستاني، أخبرنا حميد بن مسعدة، أن خالد بن الحارث حدثهم أخبرنا حسين يعني المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني فقير وليس لي شيء ولي يتيمٌ؟ فقال: «كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مبادر ولا متأثل».
واختلفوا في أنه هل يلزمه القضاء؟ فذهب بعضهم إلى أنه يقضي إذا أيسر، وهو المراد من قوله: {فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} فالمعروف القرض، أي: يستقرض من مال اليتيم إذا احتاج إليه، فإذا أيسر قضاه، وهو قول مجاهد وسعيد بن جبير، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إني أنزلت نفسي من مال الله تعالى بمنزلة مال اليتيم: إن استغنيت استعففت وإن افتقرت أكلت بالمعروف، فإذا أيسرتُ قضيتُ.
وقال الشعبي: لا يأكله إلا أن يضطر إليه كما يضطر إلى الميتة.
وقال قوم: لا قضاء عليه.
ثم اختلفوا في كيفية هذا الأكل بالمعروف، فقال عطاء وعكرمة: يأكل بأطراف أصابعه، ولا يسرف ولا يكتسي منه، ولا يلبس الكتان ولا الحُلل، ولكن ما سد الجوعة ووَارَى العورة.
وقال الحسن وجماعة: يأكل من ثمر نخيله ولبن مواشيه بالمعروف ولا قضاء عليه، فأما الذهب والفضة فلا؛ فإن أخذ شيئا منه رده.
وقال الكلبي: المعروف ركوب الدابة وخدمة الخادم، وليس له أن يأكل من ماله شيئا.
أخبرنا أبو الحسن السرخسي، أخبرنا زاهر بن أحمد، أنا أبو إسحاق الهاشمي، أنا أبو مصعب، عن مالك، عن يحيى بن سعيد، أنه قال سمعت القاسم بن محمد يقول: جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن لي يتيما وإن له إبلا أفأشرب من لبن إبله؟ فقال: إن كنت تبغي ضالة إبله وتَهْنَأ جرباها وتليطُ حوضها وتسقيها يوم وردها فاشرب غير مُضرٍ بنسلٍ ولا ناهكٍ في الحلْبِ.
وقال بعضهم: والمعروف أن يأخذ من جميع ماله بقدر قيامه وأجرة عمله، ولا قضاء عليه، وهو قول عائشة وجماعة من أهل العلم.
قوله تعالى: {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} هذا أمر إرشاد، ليس بواجب، أمر الولي بالإشهاد على دفع المال إلى اليتيم بعدما بلغ لتزول عنه التهمة وتنقطع الخصومة، {وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} محاسبا ومجازيا وشاهدا.