فصل: تفسير الآية رقم (35):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآية رقم (35):

{وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35)}
قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} يعني: شقاقًا بين الزوجين، والخوفُ بمعنى اليقين، وقيل: هو بمعنى الظنّ يعني: إن ظننتم شقاق بينهما.
وجملته: أنه إذا ظهر بين الزوجين شقاقٌ واشتبه حالهما فلم يفعل الزوج الصفح ولا الفرقة ولا المرأة تأدية الحق ولا الفدية وخرجا إلى ما لا يحل قولا وفعلا بعث الإمام حكمًا من أهله إليه وحكمًا من أهلها إليها، رجلين حرين عدلين، ليستطلع كلُّ واحد من الحكمين رأي من بُعث إليه إن كانت رغبتُه في الوصلة أو في الفُرقة، ثم يجتمع الحكمان فينفذان ما يجتمع عليه رأيُهما من الصلاح، فذلك قوله عز وجل: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا} يعني: الحكمين، {يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} يعني: بين الزوجين، وقيل: بين الحكمين، {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الكسائي، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال، أنا أبو العباس الأصم، أنا الربيع، أنا الشافعي، أنا الثقفي، عن أيوب عن ابن سيرين عن عبيدة أنه قال في هذه الآية {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} قال: جاء رجل وامرأة إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومع كل واحد منهما فئام من الناس، فأمرهم عليّ رضي الله عنه فبعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها ثم قال للحكمين: أتدْريَان ما عليكما؟ إن رأيتما أن تجمعا جمعتُما وإن رأيتما أن تُفرقا فرقتُما، قالت المرأة رضيتُ بكتاب الله بما عليّ فيه ولي، فقال الرجل: أما الفُرقة فلا فقال علي رضي الله عنه: كذبتَ والله حتى تقر بمثل الذي أقرّتْ به.
واختلف القول في جواز بعث الحكمين من غير رضا الزوجين: وأصح القولين أنه لا يجوز إلا برضاهما، وليس لِحَكَمِ الزوج أن يُطَلّق دون رضاه، ولا لِحَكَمِ المرأة أن يخالع على مالها إلا بإذنها، وهو قول أصحاب الرأي لأنّ عليًا رضي الله عنه، حين قال الرجل: أما الفُرقة فلا قال: كذبتَ حتى تُقِرَّ بمثل الذي أقرَّتْ به. فثبت أن تنفيذ الأمر موقوف على إقراره ورضاه.
والقول الثاني: يجوز بعث الحكمين دون رضاهما، ويجوز لِحَكَمِ الزوج أن يُطَلِّق دُون رضاه ولِحَكَمِ المرأة أن يخلع دون رضاها، إذا رأيا الصلاح، كالحاكم يحكم بين الخصمين وإن لم يكن على وفْق مُرادِهما، وبه قال مالك، ومن قال بهذا قال: ليس المراد من قول علي رضي الله عنه للرجل حتى تُقِرّ: أن رضاه شرط، بل معناه: أن المرأة رضيتْ بما في كتاب الله فقال الرجل: أما الفُرقة فلا يعني: الفُرقة ليست في كتاب الله، فقال علي: كذبْتَ، حيث أنكرتَ أن الفرقة في كتاب الله، بل هي في كتاب الله، فإن قوله تعالى: {يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} يشتمل على الفراق وغيره لأن التوفيق أن يخرج كل واحد منهما من الوِزْرِ وذلك تارة يكون بالفُرقة وتارًة بصلاح حالهما في الوصلة.

.تفسير الآية رقم (36):

{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالا فَخُورًا (36)}
قوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ} أي: وحدوه وأطيعوه، {وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} أخبرنا أبو حامد أحمد بن عبد الله الصالحي، أنا أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الله بن بِشْران، أنا علي أبو إسماعيل محمد بن محمد الصفار، أنا أحمد بن منصور الرَّمادي، أنا عبد الرزاق، أنا معمر، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون الأودي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «هل تدري يا معاذ ما حق الله على الناس؟ قال قلت: الله ورسولُه أعلم، قال: حقُّه عليهم أن يعبدوه ولا يُشركُوا به شيئا، أتدري يا معاذ ما حَقُّ الناس على الله إذا فعلوا ذلك؟ قال: قلت الله ورسولُه أعلم، قال: فإنّ حقَّ الناس على الله أن لا يعذبهم، قال قلتُ: يا رسول الله ألا أُبشِّر الناسَ؟ قال: دعهم يعملون».
قوله تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} برًا بهما وعطفًا عليهما، {وَبِذِي الْقُرْبَى} أي: أحسنُوا بذي القربى، {وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ} أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا عمرو بن زرارة، أنا عبد العزيز بن أبي حازم، عن أبيه، عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا وكافل اليتيم في الجنِّة هكذا، واشار بالسَّبابة والوُسْطَى وفرّج بينهما شيئَا».
أخبرنا محمد بن يعقوب الكسائي، أنا عبد الله بن محمود، أنا إبراهيم بن عبد الله الخلال، أنا عبد الله بن مبارك، عن يحيى بن أيوب، عن عبد الله بن زَحْر، عن علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من مَسَحَ رأسَ يتيم لم يمسحه إلا لله كان له بكل شَعَرَةَ تَمُرّ عليها يَدُهُ حسناتُ، ومن أحسن إلى يتيمة أو يتيم عنده كنت أنا وهو في الجنة كَهَاتين وقَرَنَ بين أصبعيه».
قوله تعالى: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى} أي: ذي القرابة، {وَالْجَارِ الْجُنُبِ} أي: البعيد الذي ليس بينك وبينه قرابة. أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أبو عبد الرحمن بن أبي شريح، أنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي، أنا علي بن الجعد، أنا شعبة عن أبي عمران الجوني قال: سمعت طلحة قال: قالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله إن لي جارين فإلى أيِّهما أهدي؟ قال: «إلى أقربهما منك بابًا».
أخبرنا الأستاذ الإمام أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري، أنا أبو نعيم عبد الملك بن الحسن الإسفرايني، أنا أبو عوانة يعقوب بن إسحاق، أنا يزيد بن سنان، أخبرنا عثمان بن عمر، أخبرنا أبو عامر الخزاز، عن أبي عمران الجوني، عن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تحقرنّ مِنَ المعروف شيئًا ولو أن تلقَى أخاكَ بوجهٍ طَلْقٍ، وإذا طَبخْتَ مرقة فأكثرْ ماءها واغرف لجيرانك منها».
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا محمد بن منهال، أنا يزيد بن زريع، أنا عمر بن محمد، عن أبيه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننتُ أنه سَيْوَرِّثُهَ».
قوله تعالى: {وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} يعني: الرفيق في السفر، قاله ابن عباس رضي الله عنهما وجماعةٌ وعكرمة وقتادة، وقال عليّ وعبد الله والنخعي: هو المرأة تكون معه إلى جنبه، وقال ابن جريج وابن زيد: هو الذي يصحبك رجاء نَفْعِكَ.
{وَابْنَ السَّبِيلِ} قيل: هو المسافر لأنه مُلازِمٌ للسبيل، والأكثرون: على أنه الضيف، أخبرنا الأستاذ الإمام أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري، أنا أبو نعيم عبد الملك بن الحسن الاسفراييني، أنا أبو عوانة يعقوب بن إسحاق، أنا شعيب بن عمرو الدمشقي، أخبرنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار، أنه سمع نافع بن جبير، عن أبي شريح الخزاعي أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من كان يؤمُن بالله واليوم الآخر فليُحسنْ إلى جاره، ومن كان يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر فلْيكُرْم ضيفَه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليَقُلْ خيرًا أو ليصمت».
أخبرنا أبو الحسن السرخسي، أنا زاهر بن أحمد أنا أبو إسحاق الهاشمي أنا أبو مصعب، عن مالك عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي شريح الكعبي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من كان يُؤْمنُ بالله واليوم الآخر فليُكْرم جارَه، ومَنْ كان يؤمُن بالله واليوم الآخر فليقلْ خيرا أو ليصمتْ، ومن كانَ يؤمنُ بالله واليوم الآخر فليُكْرم ضيفَه، جائزته يوْمٌ وليلة، والضيافةُ ثلاثةُ أيام، وما كان بعد ذلك فهو صدقة، ولا يحلُّ أن يثوي- أي: أن يقيم- عنده حتى يُحرِجَه».
قوله تعالى: {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} أي: المماليك أحسنوا إليهم، أخبرنا محمد بن الحسن المروزي أخبرنا أبو العباس الطحان، أنا أبو أحمد محمد بن قريش، أنا علي بن عبد العزيز المكي أنا أبو عبيد القاسم بن سلام، أنا يزيد، عن همام، عن قتادة، عن صالح أبي الخليل، عن سفينة، عن أم سلمة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في مرضه: «الصلاةَ وما ملكتْ أيمانُكم»، فجعل يتكلم وما يفيض بها لسانه.
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا عمر بن حفص، أنا أبي، أنا الأعمش، عن المعرور، عن أبي ذر رضي الله عنه قال: رأيت عليه بُردًا وعلى غلامه بُرْدٌ، فقلتُ: لو أخذت هذا فلبسته كانا حُلَّةً وأعطيته ثوبًا آخر، فقال: كان بيني وبين رجل كلام وكانت أمه أعجمية فنِلتُ منها فذكرني إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لي أساببت فلانًا؟ قلتُ: نعم، قال: أفنِلْتَ أمه؟ قلت: نعم، قال إنّكَ امرٌؤ فيك جاهلية، قلتُ: على ساعتي هذه من كبر السن؟ قال: نعم، هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن جعل الله أخاه تحت يده فليطعمْهُ مما يأكل وليلِبْسهُ مما يلبس ولا يُكلفْهُ من العمل ما يَغْلبه، فإن كلفه ما يغْلبه فليُعِنْه عليه.
أخبرنا الإمام أبو الحسين بن محمد القاضي، أنا أبو طاهر الزيادي، أخبرنا أبو بكر محمد بن عمرو بن حفص التاجر، أنا سهل بن عمار، أنا يزيد بن هارون، أخبرنا صدقة بن موسى، عن فرقد السبخي، عن مرة الطيب، عن أبي بكر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يدخل الجنة سيئ المَلَكَةِ».
{إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالا فَخُورًا} المختال: المتكبر، والفخور: الذي يفتخر على الناس بغير الحق تكبرًا، ذكر هذا بَعْدَمَا ذكر من الحقوق، لأن المتكبر يمنع الحق تكبرًا.
أخبرنا حسان بن سعيد المنيعي، أنا أبو طاهر الزيادي، أنا محمد بن الحسين القطان، أنا أحمد بن يوسف السلمي، أنا عبد الرزاق أنا معمر، عن همام بن منبه، قال: أنا أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بينما رجل يتبختر في بُردين وقد أعجبته نفسُه خَسَفَ الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة».
أخبرنا أبو الحسن السرخسي، أنا زاهر بن أحمد، أنا أبو إسحاق الهاشمي، أنا أبو مصعب، عن مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا ينظرُ الله يوم القيامة إلى من جَرّ ثوبه خيلاء».

.تفسير الآية رقم (37):

{الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (37)}
{الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} البخل في كلام العرب: منع السائل من فضل ما لديه، وفي الشرع: منع الواجب، {وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} قرأ حمزة والكسائي {بِالْبَخَلِ} بفتح الباء والخاء، وكذلك في سورة الحديد، وقرأ الآخرون بضم الباء وسكون الخاء، نزلت في اليهود بخلوا ببيان صفة محمد صلى الله عليه وسلم وكتموها.
قال سعيد بن جبير: هذا في كتمان العلم.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما وابن زيد: نزلت في كردم بن زيد وحيي بن أخطب ورفاعة بن زيد بن التابوت وأسامة بن حبيب ونافع بن أبي نافع وبحري بن عمرو كانوا يأتون رجالا من الأنصار ويخالطونهم فيقولون لا تنفقوا أموالكم فإنا نخشى عليكم الفقر ولا تدرون ما يكون فأنزل الله تعالى هذه الآية: {وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} يعني المال، وقيل: يعني يبخلون بالصدقة {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا}.

.تفسير الآيات (38- 40):

{وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38) وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا (39) إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)}
{وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} محل الذين نصب، عطفًا على الذين يبخلون، وقيل: خفض عطفًا على قوله: و{أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ} نزلتْ في اليهود، وقال السدي: في المنافقين، وقيل: في مشركي مكة المتفقين على عَدَاوَةِ الرسول صلى الله عليه وسلم.
{وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا} صاحبًا وخليلا {فَسَاءَ قَرِينًا} أي: فبئس الشيطان قرينًا وهو نصب على التفسير، وقيل: على القطع بإلقاء الألف واللام كما تقول: نعم رجلا عبد الله، وكما قال تعالى: {بئس للظالمين بدلا} [الكهف- 50] {ساء مثلا} [الأعراف- 177].
{وَمَاذَا عَلَيْهِمْ} أي: ما الذي عليهم وأي شيء عليهم؟ {لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا}.
{إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} أدخل ابن عباس يده في التراب ثم نفخ فيها وقال: كل واحد من هذه الأشياء ذرة، والمراد أنه لا يظلم. لا قليلا ولا كثيرًا. ونظمه: وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا فإن الله لا يظلم أي: لا يبخس ولا ينقص أحدًا من ثواب عمله مثقال ذرّة، وزن ذرّة، والذرّة: هي النملة الحمراء الصغيرة، وقيل: الذرّ أجزاء الهباء في الكُوّة وكل جزء منها ذرّة ولا يكون لها وزن، وهذا مثلٌ، يريد: إن الله لا يظلم شيئًا، كما قال في آية أخرى: {إن الله لا يظلم الناس شيئا} [يونس 44].
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي، أنا أبو عمر بكر بن محمد المزني، أنا أبو بكر محمد بن عبد الله الحفيد، أنا الحسين بن الفضل البجلي، أنا عفان، أنا همام، أنا قتادة عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله لا يظلمَ المؤمن حسنةً، يثاب عليها الرزق في الدنيا ويُجزَى بها في الآخرة»، قال: «وأما الكافر فيطعم بحسناته في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له حسنة يُعطى بها خيرًا».
أخبرنا عبد الواحد المليحي، أنا أبو الطيب الربيع بن محمد بن أحمد بن حاتم البزار الطوسي، أنا أحمد بن محمد بن الحسن، أن محمد بن يحيى حدثهم، أخبرنا عبد الرزاق وأخبرنا أبو سعيد عبد الله بن أحمد الطاهري، أخبرنا جدّي أبو سهل عبد الصمد بن عبد الرحمن البزار، أنا أبو بكر محمد بن زكريا العذافري، أخبرنا إسحاق بن إبراهيم الدبري أنا عبد الرزاق، أنا معمر، عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا خَلَصَ المؤمنون من النار وأمِنُوا، فما مجادلة أحدكم لصاحبه في الحق يكون له في الدنيا بأشدَّ مجادلة من المؤمنين لربهم في إخوانهم الذين أُدخلو النار، قال: يقولون ربَّنا إخواننا كانوا يُصلون معنا ويَصُومون معنا ويَحُجون معنا فأدخلتَهُمُ النار، قال: فيقول ذهبوا فأَخرجُوا من عَرَفْتُم منهم فيأتونهم فيعرفونهم بصورهم لا تأكلُ النار صورَهم فمنهم من أخذَتْهُ النارُ إلى أنصافِ ساقيه ومنهم من أخذتْه إلى كعبيه فيُخرجونهم، فيقولون: ربنا قد أخرجنا من أمرتنا، قال: ثم يقول: أخرجوا من كان في قلبه وزْنُ دينار مَنْ الإيمان، ثم مَنْ كان في قلبه وزنُ نصفِ دينار، حتى يقول: من كان في قلبه مثقال ذرةٍ»، قال أبو سعيد رضي الله عنه: فمن لم يصدق هذا فليقرأ هذه الآية: {إن الله لا يظلم مثقالَ ذرةٍ وإن تَكُ حسنَةً يُضاعِفْهَا ويُؤْتِ من لدنه أجرًا عظيمًا} قال: فيقولون ربَّنا قد أخرجنا من أمرتنا فلم يبق في النار أحدٌ فيه خير، ثم يقول الله عز وجل: شفعتِ الملائكةُ، وشفعتِ الأنبياءُ، وشَفع المؤمنون، وبقي أرحمُ الراحمين، قال: فيقبض قبضةً من النار، أو قال: قبضتين لم يعملوا لله خيرًا قط قد احترقُوا حتى صاروا حُممًا فيُؤْتَى بهم إلى ماء يقال له: ماء الحياة فيصب عليهم فينبتُون كما تنبت الحِبَّةَ في حَميلِ السيل، قال: فتخرج أجسادهم مثل اللؤلؤ في أعناقهم الخاتم: عتقاء الله فيقال لهم: ادخلوُا الجَنَّةَ فما تمنيتم أو رأيتم من شيء فهو لكم، قال فيقولون: ربّنا أعطيتنا ما لم تُعطِ أحدًا من العالمين، قال: فيقول فإن لكم أفضل منه، فيقولون: ربنا وما أفضل من ذلك؟ فيقول: «رضاي عنكم فلا أسخط عليكم أبدًا».
أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة، أنا محمد بن أحمد بن الحرث، أنا محمد بن يعقوب الكسائي، أنا عبد الله بن محمود، أنا إبراهيم بن عبد الله بن الخلال، أنا عبد الله بن المبارك، عن ليث بن سعد، حدثني عامر بن يحيى، عن أبي عبد الرحمن المعافري، ثم الجيلي، قال: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يستخلص رجلا من أمتي على رُؤوس الخلائق يوم القيامة فينشرُ عليه تسعةً وتسعين سجلا كل سجل مثل مدَّ البصر، ثم يقول الله: أتُنْكر من هذا شيئًا؟ أَظَلَمَكَ كتبتي الحافظُون؟ فيقول: لا يا رب، فيقول: أفَلَكَ عذرٌ أو حسنةُ؟ فبُهِتَ الرجل، قال: لا يا رب، فيقول: بلى إنّ لك عندنا حسنة وإنه لا ظلم عليك اليوم، فتُخرج له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمدًا عبدُه ورسولُه، فيقول: احضرْ وَزْنَكَ، فيقول: يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات، فيقول: إنك لا تُظلم، قال: فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات وثَقُلتْ البطاقةُ، قال: فلا يثقل مع اسم الله شيء». وقال قوم: هذا في الخصوم.
ورُوي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: إذا كان يوم القيامة جمع الله الأوّلين والآخرين ثم نادى منادٍ ألا من كان يطلب مظلمة فليجيء إلى حقه فليأخذه، فيفرح المرء أن يذوب له الحق على والده أو ولده أو زوجته أو أخيه، فيأخذ منه وإن كان صغيرًا، ومصداق ذلك في كتاب الله تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} ويُؤْتَى بالعبدِ فينادي منادِ على رُؤوس الأولين والآخرين: هذا فلان ابن فلان فمن كان له عليه حق فليأتِ إلى حقِّه فيأخذه، ويقال آتِ هؤلاء حقوقَهم فيقول: يا رب من أين وقد ذهبت الدنيا، فيقول الله عز وجل لملائكته انظروا في أعماله الصالحة فأعطوهم منها فإنْ بقي مثقال ذرة من حسنة قالت الملائكة: يا ربنا بقي له مثقال ذرة من حسنة، فيقول: ضعّفُوها لعبدي وأدخلوه بفضل رحمتي الجنة. ومصداق ذلك في كتاب الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} وإن كان عبدًا شقيًا قالت الملائكة: إلهنا فنيت حسناتُه وبقي طالبون؟ فيقول الله عز وجل: خذوا من سيئاتهم فأضيفوها إلى سيئاته، ثم صُكُّوا له صكًّا إلى النار.
فمعنى الآية هذا التأويل: أن الله لا يظلم مثقال ذرة للخصم على الخصم بل أخذ له منه ولا يظلم مثقال ذرة تبقى له بل يثيبه عليها ويضَعِّفها له، فذاك قوله تعالى: {وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} قرأ أهل الحجاز {حَسَنَةٌ} بالرفع، أي: وإن توجد حسنة، وقرأ الآخرون بالنصب على معنى: وإن تك زِنةُ الذرةِ حسنةً يضَاعِفْها، أي: يجعلها أضعافًا كثيرة. {وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} قال أبو هريرة رضي الله عنه: إذا قال الله تعالى أجرًا عظيمًا فمن يقدر قدره؟