فصل: تفسير الآية رقم (56):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآية رقم (56):

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56)}
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا} ندخلهم نارًا، {كُلَّمَا نَضِجَتْ} احترقت {جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} غير الجلود المحترقة، قال ابن عباس رضي الله عنهما: يبدلون جلودًا بيضاء كأمثال القراطيس.
ورُوي أن هذه الآية قُرئتْ عند عمر رضي الله عنه، فقال عمر رضي الله عنه للقارئ: أعدها فأعادها، وكان عنده معاذ بن جبل، فقال معاذ: عندي تفسيرها: تُبدّل في ساعة مائةَ مرة، فقال عمر رضي الله عنه: هكذا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الحسن: تأكلهم النار كلَّ يوم سبعين ألف مرة كلَّما أكلتهم قيل لهم عُودُوا فيعودون كما كانوا.
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا معاذ بن أسيد، أنا الفضل بن موسى، أنا الفضيل، عن أبي حازم، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «ما بين مَنْكِبَي الكافر مسيرة ثلاثة أيّام للراكب المسرع».
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر، أنا عبد الغافر بن محمد، أنا محمد بن عيسى الجلودي، أنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، أنا مسلم بن الحجاج، أنا شريح بن يونس، أنا حميد بن عبد الرحمن، عن الحسن بن صالح، عن هارون بن سعد، عن أبي حازم، عن أبي هريرة رضي الله عنهم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ضرْسُ الكافر أو نابُ الكافر مثل أُحد، وغِلَظُ جلده مسيرة ثلاثة أيام».
فإن قيل: كيف تُعذب جلود لم تكن في الدنيا ولم تعصه؟
قيل يُعاد الجلد الأول في كلِّ مرة.
وإنما قال: {جُلُودًا غَيْرَهَا} لتبدُّل صفتها، كما تقول: صنعتُ من خاتمي خاتمًا غيره، فالخاتم الثاني هو الأول إلا أن الصناعة والصفة تبدلت، وكمن يترك أخاه صحيحًا ثم بعد مرة يراه مريضًا دنفًا فيقول: أنا غير الذي عهدتَ، وهو عين الأول، إلا أن صفته تغيرّت.
وقال السدي: يُبدل الجلدُ جلدًا غيره من لحم الكافر ثم يعيد الجلد لحمًا ثم يُخرج من اللحم جلدًا آخر وقيل: يُعذَّب الشخص في الجلدِ لا الجلدُ، بدليل أنه قال: {لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} ولم يقل: لتذوق وقال عبد العزيز بن يحيى: إن الله عز وجل يُلبس أهل النار جلودًا لا تألم، فيكون زيادة عذاب عليهم، كلّما احترق جلدٌ بدَّلهم جلدًا غيره، كما قال: {سَرَابيلُهم مِنْ قَطِران} [إبراهيم- 50] فالسرابيل تُؤْلمهم وهي لا تَأْلَم. قوله تعالى: {لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا}.

.تفسير الآيات (57- 58):

{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلا ظَلِيلا (57) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)}
{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلا ظَلِيلا} كنينًا لا تنسخه الشمس ولا يُؤذيهم حرٌ ولا بردٌ.
قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} نزلت في عثمان بن طلحة الحجبي من بني عبد الدار، وكان سادِنَ الكعبة، فلما دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح أغلق عثمانُ باب البيت وصَعَدَ السطح فطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم المفتاحَ، فقيل: إنه مع عثمان، فطلبه منه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبى، وقال: لو علمتُ أنه رسول الله لم أمنعه المفتاح، فَلَوَى عليُّ رضي الله عنه يَدَهُ فأخذ منه المفتاحَ وفتح البابَ فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم البيتَ وصلى فيه ركعتين، فلمّا خرج سأله العباس المفتاح، أن يعطيه ويجمع له بين السِّقاية والسِّدانة، فأنزل الله تعالى هذه الآية، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرَّد المفتاحَ إلى عثمان ويعتذرَ إليه، ففعل ذلك علي رضي الله عنه، فقال له عثمان: أكرهت وآذيت ثم جئت ترفق، فقال علي: لقد أنزل الله تعالى في شأنك قرآنأ وقرأ عليه الآية، فقال عثمان: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله، وكان المفتاح معه، فلمّا مات دفعه إلى أخيه شيبة، فالمفتاح والسدانة في أولادهم إلى يوم القيامة.
وقيل: المراد من الآية جميع الأمانات. أخبرنا أبو طاهر محمد بن علي الزراد، أنا أبو بكر محمد بن إدريس الجرجاني وأبو أحمد بن محمد بن أحمد المعلم الهروي، قال: أنا أبو الحسن علي بن عيسى الماليني، أنا الحسن بن سفيان النسوي، أنا شيبان بن أبي شيبة، أخبرنا أبو هلال عن قتادة عن أنس رضي الله عنه قال: قلّمَا خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له».
قوله تعالى: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} أي: بالقسط، {إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا} أي: نعم الشيء الذي {يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان، أنا أبو جعفر محمد بن حمد بن عبد الجبار الزيات، أنا حميد بن زنجويه، حدثنا ابن عباد، ثنا بن عيينه عن عمرو بن دينار، عن عمرو بن أوس، أنه سمع عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المقسطون عند الله على منابِرَ من نُور على يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، هم الذين يَعْدِلُون في حكمهم وأهليهم ومَا وَلُوا».
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا عبد الرحمن بن أبي شريح، أنا القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي، أنا علي بن الجعد، أنا فضيل بن مرزوق، عن عطية، عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أحبَّ الناس إلى الله يومَ القيامةِ وأقربهم منه مجلسًا إمامٌ عادلٌ، وإن أبغضَ الناس إلى الله وأشدهم عذابًا إمامٌ جائرٌ».

.تفسير الآية رقم (59):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا (59)}
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ} اختلفوا في {أُولِي الأمْرِ} قال ابن عباس وجابر رضي الله عنهم: هم الفقهاء والعلماء الذين يعلِّمون الناس معالِمَ دينهم، وهو قول الحسن والضحاك ومجاهد، ودليله قوله تعالى: {ولو رَدُّوُه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لَعَلِمَهُ الذين يَسْتَنْبِطٌونَهُ منهم} [النساء- 83].
وقال أبو هريرة: هم الأمراء والولاة.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: حقٌّ على الإمام أن يحكم بما أنزل الله ويؤدي الأمانة فإذا فعل ذلك فحق علي الرعية أن يسمعوا ويطيعوا.
أخبرنا أبو علي حسان بن سعد المنيعي، أنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمش الزيادي، أنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان، أنا أحمد بن يوسف السلمي، أنا عبد الرزاق، أنا معمر، عن همام بن منبه أنا أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني».
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل أنا مسدد، أنا يحيى بن سعيد، عن عبيد الله حدثني، نافع، عن عبد الله رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «السمعُ والطاعةُ على المرءِ المسلم فيما أحبَّ وكَرِه، ما لم يُؤْمرْ بمعصية، فإذا أُمِرَ بمعصية فلا سمع ولا طاعة».
أخبرنا أبو الحسن عبد الرحمن محمد الدراوردي أنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن موسى بن الصلت أنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي، أنا أبو مصعب، عن مالك بن أنس، عن يحيى بن سعيد، أخبرنا عبادة بن الوليد بن عبادة أن أباه أخبره عن عبادة بن الصامت قال: «بايعنا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم على السمعِ والطاعةِ في اليُسرِ والعُسرِ والمَنْشَطِ والمَكْرِه، وعلى أَثَرٍة علينا وعلى أنْ لا نُنَازِعَ الأمر أهله، وعلى أن نقول بالحق أينما كُنّا لا نخاف في الله لَوْمَةَ لائمٍ».
أخبرنا أبو عبد الله عبد الرحمن بن عبيد الله بن أحمد القفال، أنا أبو منصور أحمد بن الفضل البروجردي، أنا أبو بكر بن محمد بن همدان الصيرفي، أنا محمد بن يوسف الكديمي، قال أخبرنا أبو داود الطيالسي، عن شعبة، عن أبي التياح، عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذر: «اسمع وأطع ولو لعبدٍ حبشي كأن رأسه زبيبة».
أخبرنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الضبي، أنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجراحي، أنا أبو العباس، أنا محمد بن أحمد المحبوبي، أنا أبو عيسى الترمذي، أنا موسى بن عبد الرحمن الكندي، أنا زيد بن الحباب، أنا معاوية بن صالح، حدثني سليم بن عامر، قال: سمعت أبا أُمامة رضي الله عنه يقول: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب في حَجّةِ الوَدَاع فقال: «اتُقوا الله وصَلُّوا خمسكم وصُومُوا شهرَكم وأدوا زكاةَ أموالِكُم وأطيعوا ذا أمركم تدخلوُا جنّة ربِّكُم».
وقيل: المراد أمراء السرايا، أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا صدقة بن الفضل، أنا حجاج بن محمد، عن يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، في قوله تعالى: {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ} قال: نزلتْ في عبيد الله بن حُذافة بن قيس بن عدي إذْ بعثه النبي صلى الله عليه وسلم في سرية.
وقال عكرمة: أراد بأولي الأمر أبا بكر وعمر رضي الله عنهما. حدثنا أبو المظفر محمد بن أحمد التيمي أنا أبو محمد عبد الرحمن بن عثمان بن القاسم، أخبرنا خيثمة بن سليمان بن حيدرة الأطرابلسي، أنا عمرو بن أبي عرزة بالكوفة، أخبرنا ثابت بن موسى العابد، عن سفيان بن عُيينة عن عبد الملك بن عمير عن ربعي، عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني لا أدري ما بقائي فيكم فاقْتَدُوا باللّذين من بعدي أبي بكرٍ وعمر»، رضي الله عنهما.
وقال عطاء: هم المهاجرون والأنصار والتابعون لهم بإحسان بدليل قوله تعالى: {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار} الآية. أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن محمود، أنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله الخلال، أنا عبد الله بن المبارك، عن إسماعيل المكي، عن الحسن، عن أنس بن مالك رضي الله عنهم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثلُ أصحابي في أمتي كالملحِ في الطعامِ لا يَصْلَح الطعامُ إلا بالملح» قال: قال الحسن: قد ذهب ملحنا فكيف نصلح.
قوله عز وجل: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ} أي: اختلفتم، {فِي شَيْءٍ} من أمر دينكم، والتنازع، اختلاف الآراء وأصله من النزع فكأنّ المتنازعين يتجاذبان ويتمانعان، {فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُول} أي: إلى كتاب الله وإلى رسوله ما دام حيا وبعد وفاته إلى سُنّته، والرُّد إلى الكتاب والسنة واجبٌ إن وُجد فيهما، فإن لم يُوجد فسبيله الاجتهاد. وقيل: الرُّد إلى الله تعالى والرسول أن يقول لِمَا لا يعلم: الله ورسولُه أعلم. {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ} أي: الرُّد إلى الله والرسول، {خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا} أي: أحسنُ مآلا وعاقبة.

.تفسير الآية رقم (60):

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالا بَعِيدًا (60)}
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} الآية قال الشعبي: كان بين رجل من اليهود ورجل من المنافقين خصومة فقال اليهودي: نتحاكم إلى محمد، لأنه عرف أنه لا يأخذ الرّشوة ولا يميل في الحكم، وقال المنافق: نتحاكم إلى اليهود لعلمه أنهم يأخذون الرشوة ويميلون في الحكم، فاتفقَا على أن يأتيَا كاهنًا في جُهينة فيتحاكما إليه، فنزلت هذه الآية.
قال جابر: كانت الطواغيت التي يتحاكمون إليها واحد في جُهينة وواحد في أسلم، وفي كل حي كهان.
وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: نزلت في رجل من المنافقين يقال له بشر، كان بينه وبين يهودي خصومة فقال اليهودي: ننطلق إلى محمد، وقال المنافق: بل إلى كعب بن الأشرف، وهو الذي سماه الله الطاغوت، فأبى اليهودي أن يخاصمه إلا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأى المنافق ذلك أتى معه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم لليهودي، فلما خرجا من عنده لزمه المنافق، وقال: انطلق بنا إلى عمر رضي الله عنه، فأتيا عمر، فقال اليهودي: اختصمتُ أنا وهذا إلى محمد فقضى لي عليه فلم يرض بقضائه وزعم أنه يخاصم إليك، فقال عمر رضي الله عنه للمنافق: أكذلك؟ قال: نعم، قال لهما رويدكما حتى أخرج إليكما فدخل عمر البيت وأخذ السيف واشتمل عليه ثم خرج فضرب به المنافق حتى برد، وقال: هكذا أقضي بين من لم يرضَ بقضاء الله وقضاء رسوله. فنزلت هذه الآية. وقال جبريل: إن عمر رضي الله عنه فرّق بين الحق والباطل، فسُمي الفاروق.
وقال السدي: كان ناس من اليهود أسلموا ونافق بعضُهم وكانت قريظة والنضير في الجاهلية إذا قتل رجل من بني قريظة رجلا من بني النضير قتل به أو أخذ ديته مائة وسق من تمر، وإذا قتل رجلُ من بني النضير رجلا من قريظة لم يقتل به وأعطى ديته ستين وسقًا، وكانت النضير وهم حلفاء الأوس أشرف وأكثر من قريظة وهم حلفاء الخزرج، فلما جاء الله بالإسلام وهاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، قتل رجل من النضير رجلا من قريظة فاختصموا في ذلك، فقالت بنو النضير: كنّا وأنتم قد اصطلحنا على أن نقتل منكم ولا تقتلون منّا، وديتُكم ستون وسْقًا وديتُنَا مائة وسْق، فنحن نعطيكم ذلك، فقالت الخزرج: هذا شيء كنتم فعلتموه في الجاهلية لكثرتكم وقِلَّتِنا فقهرتُمونا، ونحن وأنتم اليوم إخوة وديننا ودينكم واحد فلا فضل لكم علينا، فقال المنافقون منهم: انطلقوا إلى أبي بردة الكاهن الأسلمي، وقال المسلمون من الفريقين: لا بلْ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأبى المنافقون وانطلقوا إلى أبي بردة ليحكم بينهم، فقال: أعظموا اللقمة، يعني الحظ، فقالوا: لك عشرة أوسق، قال: لا بل مائة وسق ديتي، فأبوا أن يعطوه فوق عشرة أوسق وأبى أن يحكم بينهم، فأنزل الله تعالى آية القصاص، وهذه الآية: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} يعني الكاهن أو كعب بن الأشرف، {وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالا بَعِيدًا}.