فصل: تفسير الآيات (61- 62):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآيات (61- 62):

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62)}
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} أي: يُعرضون عنك إعراضا.
{فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ} هذا وعيد، أي: فكيف يصنعون إذا أصابتهم مصيبة، {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} يعني: عقوبةَ صدودِهم، وقيل: هي كل مُصيبة تُصيب جميع المنافقين في الدنيا والآخرة، وتم الكلام هاهنا، ثم عاد الكلام إلى ما سبق، يُخبر عن فعلهم فقال: {ثُمَّ جَاؤُوكَ} يعني: يتحاكمون إلى الطاغوت، {ثُمَّ جَاءُوكَ} يحيونك ويحلفون.
وقيل: أراد بالمصيبة قتل عمر رضي الله عنه المنافق، ثم جاؤوا يطلبون ديته، {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا} ما أردنا بالعدُول عنه في المحاكمة أو بالترافع إلى عمر، {إِلا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} قال الكلبي: إلا إحسانًا في القول، وتوفيقًا: صوابًا، وقال ابن كيسان: حقًا وعدلا نظيره: {ليَحْلِفُنّ إن أردنا إلا الحسنىَ}، وقيل: هو إحسان بعضهم إلى بعض، وقيل: هو تقريب الأمر من الحق، لا القضاء على أمر الحكم، والتوفيق: هو موافقة الحق، وقيل: هو التأليف والجمع بين الخصمين.

.تفسير الآيات (63- 65):

{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلا بَلِيغًا (63) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64) فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)}
{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} مِنَ النفاق، أي: علم أنّ ما في قلوبهم خلاف ما في ألسنتهم، {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} أي: عن عُقوبتهم وقيل: فأعرض عن قبول عذرهم وعظهم باللسان، وقل لهم قولا بليغًا، وقيل: هو التخويف بالله، وقيل: أن توعدهم بالقتل إن لم يتوبوا، قال الحسن: القول البليغ أن يقول لهم: إن أظهرتم ما في قلوبكم من النفاق قُتلتم لأنه يبلغ من نفوسهم كل مبلغ، وقال الضحاك: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ} في الملأ {وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلا بَلِيغًا} في السّر والخلاء، وقال: قيل هذا منسوخ بآية القتال.
وله عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} أي: بأمر الله لأنّ طاعة الرسول وجبت بأمر الله، قال الزجاج: ليطاع بإذن الله لأن الله قد أذن فيه وأمر به، وقيل: إلا ليُطاع كلام تام كاف، بإذن الله تعالى أي: بعلم الله وقضائه، أي: وقوعُ طاعته يكون بإذن الله، {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} بتحاكمهم إلى الطاغوت {جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا}.
قوله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ} الآية.
أخبرنا عبد الواحد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا أبو اليمان، أنا شعيب، عن الزهري، أخبرني عروة بن الزبير: أنّ الزبير رضي الله عنه كان يحدِّث أنه خاصم رجلا من الأنصار قد شهد بدرًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في شراج مِنَ الحرة كانا يسقيان به. كلاهما، فقال رسول الله للزبير: اسقِ يا زبير، ثم أرسل إلى جارك، فغضب الأنصاري، ثم قال: يا رسول الله أن كان ابن عمتك؟ فتلونّ وجهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال للزبير: اسقِ ثم احبس الماءَ حتى يبلغ الجدر، فاستوعى رسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ للزبير حقَّه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك أشار على الزبير برأي أراد به سعة له وللأنصاري، فلمّا أحْفَظَ الأنصاريُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم استوعى للزبير حقّه في صريح الحكم.
قال عروة: قال الزبير: والله ما أحسب هذه الآية إلا نزلت في ذلك {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} الآية.
وروي أن الأنصاري الذي خاصم الزبير كان اسمه حاطب بن أبي بلتعة فلما خَرَجَا مرَّ على المقداد فقال: لمن كان القضاء، فقال الأنصاري: قضَى لابن عمته ولَوَى شدقه ففطن له يهودي كان مع المقداد، فقال: قاتل الله هؤلاء يشهدون أنه رسول الله ثم يتهمونه في قضاءٍ يقضي بينهم، وايْمُ الله لقد أذنبنا ذنبًا مرّة في حياة موسى عليه السلام فدعا موسى إلى التوبة منه، فقال: اقتلوا أنفسكم ففعلنا فبلغ قتلانا سبعين ألفا في طاعة ربنا حتى رضي عنّا، فقال ثابت بن قيس بن شماس: أمّا والله إنّ الله ليعلم مني الصدقَ ولو أمرني محمد أن أقتل نفسي لفعلت، فأنزل الله في شأن حاطب بن أبي بلتعة: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ}.
وقال مجاهد والشعبي: نزلت في بِشْر المنافق واليهودي اللذين اختصما إلى عمر رضي الله عنه.
قوله تعالى: {فَلا} أي: ليس الأمر كما يزعمون أنهم مؤمنُون ثم لا يرضون بحكمك، ثم استأنف القَسَم {وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ} ويجوز أن يكون {لا} في قوله: {فَلا} صلة، كما في قوله: {فَلا أُقْسِمُ} حتى يُحكِّمُوك: أي يجعلوك حكمًا، {فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} أي: اختلف واختلط من أمورهم والْتَبَسَ عليهم حُكمه، ومنه الشجر لالتفاف أغصانه بعضها ببعض، {ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا} قال مجاهد: شكًّا، وقال غيره: ضِيقًا، {مِمَّا قَضَيْتَ} قال الضحاك: إثْمًا، أي: يأثمون بإنكارهم ما قضيت، {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} أي: وينقادوا لأمرك انقيادًا.

.تفسير الآيات (66- 69):

{وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69)}
قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا} أي: فرضنا وأوجبنا، {عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} كما أمرنا بني إسرائيل {أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ} كما أمرنا بني إسرائيل بالخروج من مصر، {مَا فَعَلُوهُ} معناه: أنّا ما كتبنا عليهم إلا طاعة الرسول والرضَى بحكمه، ولو كتبْنَا عليهم القتل والخروج عن الدور ما كان يفعله، {إِلا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} نزلت في ثابت بن قيس وهو من القليل الذي استثنى الله، قال الحسن ومقاتل لما نزلت هذه الآية قال عمر وعمار بن ياسر وعبد الله بن مسعود وناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهم القليل، والله لو أمرنا لفعلنا والحمد لله الذي عافانا، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «إنّ من أمتي لرجالا الإيمانُ في قلوبهم أثبت من الجبال الرواسي».
قرأ ابن عامر وأهل الشام {إِلا قَلِيلا} بالنصب على الاستثناء، وكذلك هو في مصحف أهل الشام، وقيل: فيه إضمار، تقديره: إلا أن يكون قليلا منهم، وقرأ الآخرون قليل بالرفع على الضمير الفاعل في قوله: {فَعَلُوه} تقديره: إلا نفر قليل فعلوه، {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ} مِنْ طاعة الرسول والرضى بحكمه، {لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} تحقيقًا وتصديقًا لإيمانهم.
{وَإِذًا لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا} ثوابًا وافرًا.
{وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} أي: إلى الصراط المستقيم.
قوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ} الآية، نزلتْ في ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان شديد الحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم قليل الصبر عنه، فأتاه ذات يوم وقد تغير لونه يعرف الحزن في وجهه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما غيرَّ لونك»؟ فقال: يا رسول الله ما بي مرض ولا وجع غير أني إذا لم أرك اسْتَوْحَشْتُ وحشةً شديدة حتى ألقاك، ثم ذكرتُ الآخرة فأخاف أن لا أراك لأنك ترفع مع النبيين، وإنّي إن دخلت الجنة كنتُ في منزلة أدنى من منزلتك، وإن لم أدخل الجنة لا أراك أبدًا، فنزلت هذه الآية.
وقال قتادة: قال بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: كيف يكون الحال في الجنة وأنتَ في الدرجات العُلَى ونحن أسفل منك؟ فكيف نراك؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية.
{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ} في أداء الفرائض، {وَالرَّسُول} في السنن {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ} أي لا تفوتهم رؤية الأنبياء ومجالستهم لا أنهم يرفعون إلى درجة الأنبياء، {وَالصِّدِّيقِينَ} أفاضل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، والصدّيق المبالغ في الصدق، {وَالشُّهَدَاء} قيل: هم الذين استشهدوا في يوم أُحد، وقيل: الذين استشهدوا في سبيل الله، وقال عكرمة: النبيون هاهنا: محمد صلى الله عليه وسلم والصديقون أبو بكر، والشهداء عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، {وَالصَّالِحِينَ} سائر الصحابة رضي الله عنهم، {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} يعني: رفقاء الجنّة، والعرب تضع الواحد موضع الجمع، كقوله تعالى: {ثم نخرجكم طفلا} [غافر- 67] أي: أطفالا {ويولون الدُّبر} أي: الأدبار.
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أبو محمد الحسن بن أحمد المخلدي، أنا أبو العباس السراج، أنا قتيبة بن سعد، أنا حماد بن زيد، عن ثابت، عن أنس أنّ رجلا قال: يا رسول الله الرجل يحبُّ قومًا ولمّا يلحق بهم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «المرء مَعَ من أحبَّ».
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي وأبو عمرو محمد بن عبد الرحمن النسوي قالا أخبرنا أحمد بن الحسن الحيري، أنا أبو العباس الأصم، أنا أبو يحيى زكريا بن يحيى المروزي، أنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رجل: يا رسول الله متى الساعة؟ قال: «وما أعددت لها»؟ قال: فلم يذكر كثيرًا، إلا أنه يحب الله ورسولَه قال: «فأنتَ مع من أحببت».

.تفسير الآيات (70- 72):

{ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (71) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (72)}
{ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا} أي: بثواب الآخرة، وقيل: بمن أطاع رسول الله وأحبَّه، وفيه بيان أنهم لن ينالوا تلك الدرجة بطاعتهم، وإنّما نالوُها بفضل الله عز وجل.
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي، أنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري، أنا حاجب بن أحمد الطوسي، أنا عبد الرحيم بن منيب، أنا يعلى بن عبيد، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قارِبُوا وسَدِّدُوا واعلمُوا أنه لا ينجو أحدُ منكم بِعَمَلِهِ»، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا إلا أن يتغمدَنَي الله برحمة منه وفضل».
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} من عدوِّكم، أي: عدّتكم وآلتكم من السلاح، والحِذْرُ والحَذَرُ واحد، كالمِثْل والمَثَل والشِّبْهِ والشَّبَهِ، {فَانْفِرُوا} اخْرُجُوا {ثُبَاتٍ} أي: سرايا متفرقين سرية بعد سرية، والثبات جماعات في تفرقة واحدتها ثبة، {أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا} أي: مجتمعين كلكم مع النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ} نزلت في المنافقين.
وإنما قال: {مِنْكُم} لاجتماعهم مع أهل الإيمان في الجنسية والنسبِ وإظهارِ الإسلام، لا في حقيقة الإيمان، {لَيُبَطِّئَنّ} أي: ليتأخرنّ، وليتثاقلنَّ عن الجهاد، وهو عبد الله بن أبَيّ المنافق، واللام في {لَيُبَطِّئَنّ} لام القسم، والتبطئة: التأخر عن الأمر، يقال: ما أبطأ بك؟ أي: ما أخَّرَك عنّا؟ ويقال: أبْطَأَ إبطاءً وبطَّأَ يبطِّئُ تَبْطِئًة. {فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ} أي: قتلٌ وهزيمة، {قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ} بالقُعود، {إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا} أي: حاضرًا في تلك الغزاة فيصيبني ما أصابهم.

.تفسير الآيات (73- 74):

{وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (73) فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74)}
{وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ} فتح وغنيمة {لَيَقُولَنَّ} هذا المنافق، وفيه تقديم وتأخير، وقوله: {كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ} متصل بقوله: {فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ} تقديره: فإن أصابتكم مصيبة قال: قد أنعم الله عليّ إذ لم أكن معهم شهيدًا، كأنْ لمْ تكنْ بينكُمْ وبينَهُ مودةٌ أي: معرفة.
قرأ ابن كثير وحفص ويعقوب {تَكُن} بالتاء، والباقون بالياء، أي: ولئن أصابكم فضلُ من الله لَيَقُولَنَّ: {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ} في تلك الغزاة، {فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا} أي: آخذ نصيبًا وافرًا من الغنيمة، وقوله: {فَأَفُوزَ} نصب على جواب التمني بالفاء، كما تقول: وددت أن أقوم فيتبعني الناس.
قوله تعالى: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ} قيل: نزلت في المنافقين، ومعنى يشرون أي: يشترون، يعني الذين يختارون الدنيا على الآخرة، معناه: آمنوا ثم قاتلوا، وقيل: نزلت في المؤمنين المخلصين، معناه فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون أي: يبيعُون الحياة الدنيا بالآخرة ويختارُون الآخرة {وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ} يعني يستشهد، {أَوْ يَغْلِبْ} يظفر، {فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ} في كلا الوجهين {أَجْرًا عَظِيمًا} ويدغم أبو عمرو والكسائي الباء في الفاء حيث كَان.
أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي، أنا زاهر بن أحمد، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي، أنا أبو مصعب، عن مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تكَفَّلَ الله لمن جاهدَ في سبيله لا يُخرجُهُ من بيتهِ إلا الجهادُ في سبيلهِ وتصديق كلمتهِ أن يُدخلَه الجنةَ أو يرجعَه إلى مسكنهِ الذي خرجَ منه معَ ما نال من أجرٍ أو غنيمة».
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي، أنا أبو الحسن علي بن عبد الله الطيسفوني، أنا أبو عبد الرحمن عبد الله بن عمر الجوهري، أنا أحمد بن علي الكشميهني أنا علي بن حجر، أنا إسماعيل بن جعفر، أنا محمد بن عمرو بن علقمة، عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنهما أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَثَلُ المجاهد في سبيل الله كمثل القانتِ الصائمِ الذي لا يفتُرُ من صلاةٍ ولا صيامٍ حتى يُرجعهً الله إلى أهلهِ بما يرجعُه من غنيمةٍ وأجرٍ، أو يتوفاه فيدخله الجنة».

.تفسير الآيات (75- 77):

{وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75) الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلا (77)}
قوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ} لا تجاهدون {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} في طاعة الله، يعاتبهم على ترك الجهاد، {وَالْمُسْتَضْعَفِينَ} أي: عن المستضعفين، وقال ابن شهاب: في سبيل المستضعفين لتخليصهم، وقيل: في تخليص المستضعفين من أيدي المشركين، وكان بمكة جماعة، {مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ} يَلْقون من المشركين أذًى كثيرًا، {الَّذِين} يَدْعُون و{يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا} يعني: مكة، الظالم أي: المشرك، أهلها يعني القرية التي من صفتها أن أهلها مشركون، وإنما خفض {الظَّالِمِ} لأنه نعتٌ للأهل، فلما عاد الأهل إلى القرية صار كأن الفعل لها، كما يقال مررت برجل حسنه عينه، {وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا} أي: من يلي أمرنا، {وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا} أي: من يمنع العدوَّ عنّا، فاستجاب الله دعوتهم، فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ولّى عليهم عتاب بن أسيد وجعله الله لهم نصيرًا ينصف المظلومين من الظالمين.
قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي: في طاعته، {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ} أي: في طاعة الشيطان، {فَقَاتِلُوا} أيها المؤمنون {أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ} أي: حزبَه وجنودَه وهم الكفار، {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ} مَكْرَهُ، {كَانَ ضَعِيفًا} كما فعل يوم بدر لمّا رأى الملائكة خاف أن يأخذوه فهرب وخذلهم.
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ} الآية، قال الكلبي: نزلت في عبد الرحمن بن عوف الزهري، والمقداد بن الأسود الكندي، وقدامة بن مظعون الجمحي، وسعد بن أبي وقاص، وجماعة كانوا يلقون من المشركين بمكة أذًى كثيرًا قبل أن يهاجروا، ويقولون: يا رسول الله ائذنْ لنا في قتالهم فإنهم قد آذَوْنَا، فيقول لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كُفّوا أيديَكم فإني لم أؤمر بقتالهم».
{وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} فلما هاجروا إلى المدينة وأمرهم الله بقتال المشركين شق ذلك على بعضهم، قال الله تعالى: {فَلَمَّا كُتِبَ} فُرضَ، {عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ} يعني: يخشون مشركي مكة، {كَخَشْيَةِ اللَّهِ} أي: كخشيتهم من الله، {أَوْ أَشَدُّ} أكثر، {خَشْيَةً} وقيل: معناه وأشدّ خشية، {وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ} الجهاد {لَوْلا} هلا {أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} يعني: الموت أي: هلا تركتَنا حتى نموت بآجالنا؟.
واختلفوا في هؤلاء الذين قالوا ذلك، قيل: قاله قوم من المنافقين لأن قوله: {لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ} لا يليق بالمؤمنين.
وقيل: قاله جماعة من المؤمنين لم يكونوا راسخين في العلم قالوه خوفًا وجبنًا لا اعتقادًا، ثم تابوا، وأهل الإيمان يتفاضلون في الإيمان.
وقيل: هم قوم كانوا مؤمنين فلمّا فرض عليهم القتال نافقوا من الجبن وتخلّفوا عن الجهاد، {قُلْ} يا محمد، {مَتَاعُ الدُّنْيَا} أي: منفعتها والاستمتاع بها {قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ} أي: وثوابُ الآخرة خيرٌ وأفضل، {لِمَنِ اتَّقَى} الشرك ومعصية الرسول، {وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلا} قرأ ابن كثير وأبو جعفر وحمزة والكسائي بالياء والباقون تظلمون بالتاء.
أخبرنا أبو صالح أحمد بن عبد الملك المؤذن، أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن معاوية الصيدلاني، أخبرنا الأصم، أنا عبد الله بن محمد بن شاكر، أنا محمد بن بشر العبدي، أنا مسعر بن كدام عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم، حدثني المستورد بن شداد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بِمَ يرجع».