فصل: تفسير الآيات (78- 79):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآيات (78- 79):

{أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78) مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79)}
قوله عز وجل: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ} أي: ينزل بكم الموت، نزلت في المنافقين الذين قالوا في قتلى أُحد: لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا، فردَّ الله عليهم بقوله: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ}، {وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} والبروج: الحصون والقلاع، والمشيّدة: المرفوعة المطوّلة، قال قتادة: معناه في قصوٍر محصنة، وقال عكرمة: مُجَصَّصَة، والشّيد: الجص، {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ} نزلت في اليهود والمنافقين، وذلك أنهم قالوا لمّا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة: ما زِلْنَا نعرف النقص في ثمارنا ومزارعنا منذ قدم علينا هذا الرجل وأصحابه.
قال الله تعالى: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ} يعني: اليهود {حَسَنَة} أي خصب ورخص في السعر، {يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} لنا، {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} يعني: الجدب وغلاء الأسعار {يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ} أي: من شؤم محمد وأصحابه، وقيل: المراد بالحسنة الظفر والغنيمة يوم بدر، وبالسيئة القتل والهزيمة يوم أُحد، يقولوا هذه من عندك أي: أنت الذي حملتنا عليه يا محمد، فعلى هذا يكون هذا من قول المنافقين، {قُلِ} لهم يا محمد، {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} أي: الحسنة والسيئة كلها من عند الله، ثم عيّرهم بالجهل فقال: {فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ} يعني: المنافقين واليهود، {لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} أي: لا يفقهون قولا وقيل: الحديث هاهنا هو القرآن أي: لا يفقهون معاني القرآن.
قوله: {فَمَالِ هَؤُلاءِ} قال الفراء: كثرت في الكلام هذه الكلمة حتى توهّمُوا أنّ اللام متصلة بها وأنهما حرف واحد، ففصلوا اللام ممّا بعدها في بعضه، ووصلوها في بعضه، والاتصال القراءة، ولا يجوز الوقف على اللام لأنها لام خافضة.
قوله عز وجل: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ} خير ونعمة {فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ} بليٍّة أو أمر تكرهه، {فَمِنْ نَفْسِكَ} أي: بذنوبك، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد غيره، نظيره قوله تعالى: {وما أصابكُم من مصيبةٍ فبما كسبتْ أيديكم} [الشورى- 30] ويتعلّق أهل القدَرَ بظاهر هذه الآية، فقالوا: نفى الله تعالى السيئةَ عن نفسه ونسبها إلى العبد، فقال: {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} ولا متعلق لهم فيه، لأنه ليس المراد من الآية حسنات الكسب ولا سيآته من الطاعات والمعاصي، بل المراد منهم ما يُصيبهم من النِّعم والمِحَن، وذلك ليس من فعلهم بدليل أنه نسبها إلى غيرهم ولم ينسبها إليهم، فقال: {مَا أَصَابَكَ} ولا يقال في الطاعة والمعصية أصابني، إنّما يقال: أصبتها، ويقال في النِّعَم: أصابني، بدليل أنه لم يذكر عليه ثوابًا ولا عقابًا، فهو كقوله تعالى: {فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه} [الأعراف- 131]، ولما ذكر حسنات الكسب وسيئاته نسبها إليه، ووعد عليها الثواب والعقاب، فقال: {منْ جاءَ بالحسنةِ فَلَهُ عَشْرُ أمثالِها ومَنْ جاءَ بالسيئة فلا يُجْزَي إلا مثلَها} [الأنعام- 160].
وقيل: معنى الآية: ما أصابك من حسنة من النصر والظفر يوم بدر فمن الله، أي: من فضل الله، وما أصابك من سيئة من القتل والهزيمة يوم أُحد فمن نفسك، أي: بذنب نفسك من مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم.
فإن قيل كيف وجه الجمع بين قوله: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} وبين قوله: {فَمِنْ نَفْسِكَ} قيل: قوله: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} أي: الخصبُ والجدبُ والنصرُ والهزيمةُ كلهُّا من عند الله، وقوله: {فَمِنْ نَفْسِكَ} أي: ما أصابك من سيئة من الله فبذنبِ نفسِك عقوبةَ لك، كما قال الله تعالى: {وما أصابكم من مُصيبة فبما كَسَبَتْ أيديكم} [الشورى- 30] يدل عليه ما روَى مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه قرأ {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} وأنا كتبتُها عليك.
وقال بعضهم: هذه الآية متصلة بما قبلها، والقول فيه مضمر تقديره: فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا، يقولون: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} {وَأَرْسَلْنَاكَ} يا محمد {لِلنَّاسِ رَسُولا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} على إرسالك وصدقك، وقيل: وكفى بالله شهيدًا على أن الحسنة والسيئة كلها من الله تعالى.

.تفسير الآية رقم (80):

{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80)}
قوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: «من أطاعني فقد أطاع الله ومن أحبني فقد أحبَّ الله» فقال بعض المنافقين: ما يريد هذا الرجل إلا أن نتخذه ربَّا كما اتخذت النصارى عيسى بن مريم ربًا، فأنزل الله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} أي: من يطع الرسول فيما أمر به فقد أطاع الله، {وَمَنْ تَوَلَّى} عن طاعته، {فَمَا أَرْسَلْنَاكَ} يا محمد، {عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} أي: حافظًا ورقيبًا، بلْ كل أمورهم إليه تعالى، وقيل: نسخ الله عز وجل هذا بآية السيف، وأمره بقتال من خالف الله ورسوله.

.تفسير الآيات (81- 83):

{وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا (81) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا (82) وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلا قَلِيلا (83)}
{وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ} يعني: المنافقين يقولون باللسان للرسول صلى الله عليه وسلم: إنا آمنا بك فَمُرْنا فأمرك طاعة، قال النحويون: أي أمرُنا وشأنُنَا أن نطيعك، {فَإِذَا بَرَزُوا} خرجُوا، {مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ} قال قتادة والكلبي: بيَّتَ أي: غيّر وبدّل الذي عَهِدَ إليهم النبي صلى الله عليه وسلم، ويكون التبييت بمعنى التبديل، وقال أبو عبيدة والقتيبي: معناه: قالوا وقدرُوا ليلا غير ما أعطوك نهارًا، وكل ما قدر بليل فهو تبييت، وقال أبو الحسن الأخفش: تقول العرب للشيء إذا قُدِّرَ، قدبُيِّتَ، يُشبهونه بتقدير بيوت الشعر، {وَاللَّهُ يَكْتُبُ} أي: يُثبتُ ويحفظ، {مَا يُبَيِّتُونَ} ما يُزورون ويُغيّرون ويقدرون، وقال الضحاك عن ابن عباس: يعني ما يُسرّون من النفاق، {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} يا محمد ولا تعاقبهم، وقيل: لا تُخبرْ بأسمائهم، منع الرسول صلى الله عليه وسلم من الإخبار بأسماء المنافقين، {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا} أي: اتخذه وكيلا وكفى بالله وكيلا وناصرا.
قوله تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} يعني: أفلا يتفكّرون في القرآن، والتدبر هو النظر في آخر الأمر، ودُبر كل شيء آخره. {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} أي تفاوتًا وتناقضًا كثيرًا، قاله ابن عباس، وقيل: لوجدوا فيه أي: في الإخبار عن الغيب بما كان وبما يكون اختلافًا كثيرًا، أفلا يتفكرون فيه فيعرفوا- بعدم التناقض فيه وصدق ما يخبر- أنه كلام الله تعالى لأن ما لا يكون من عند الله لا يخلو عن تناقض واختلاف.
قوله تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ} وذلك أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث السرايا فإذا غَلَبُوا أو غُلِبُوا بادَرَ المنافقون يستخبرون عن حالهم، فيُفشون ويُحدِّثون به قبل أن يحدث به رسول الله صلى الله عليه وسلم فيُضعفون به قلوبَ المؤمنين فأنزل الله تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ} يعني: المنافقين {أَمْرٌ مِنَ الأمْنِ} أي: الفتح والغنيمة {أَوِ الْخَوْفِ} القتل والهزيمة {أَذَاعُوا بِهِ} أشاعوه وأفشوه، {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ} أي: لو لم يحدثوا به حتى يكون النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يحدث به، {وَإِلَى أُولِي الأمْرِ مِنْهُمْ} أي: ذوي الرأي من الصحابة مثل أبي بكر وعمرو وعثمان وعلي رضي الله عنهم، {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُم} أي: يستخرجونه وهم العلماء، أي: عَلِمُوا ما ينبغي أن يُكتم وما ينبغي أن يُفشَى، والاستنباط: الاستخراج، يقال: استنبط الماءَ إذا استخرجه، وقال عكرمة: يستنبطونه أي: يحرصون عليه ويسألون عنه، وقال الضحاك: يتبعونه، يريد الذين سمعوا تلك الأخبار من المؤمنين والمنافقين، لو ردوه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وإلى ذوي الرأي والعلم، لَعلِمَه الذين يستنبطونه منهم، أي: يحبون أن يعلموه على حقيقته كما هو.
{وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ} كلكم {إِلا قَلِيلا} فإن قيل: كيف استثنى القليل ولولا فضله لاتبع الكلُّ الشيطان؟ قيل: هو راجع إلى ما قبله، قيل: معناه أذاعوا به إلا قليلا لم يفشه، عني بالقليل المؤمنين، وهذا قول الكلبي واختيار الفراء، وقال: لأنّ عِلْمَ السرِّ إذا ظهرَ عَلِمَه المستنبطُ وغيرُه، والإذاعة قد تكون في بعض دون بعض، وقيل: لعلمه الذين يستنبطونه منهم إلا قليلا ثم قوله: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ} كلام تام.
وقيل: فضلُ الله: الإسلامُ ورحمتُه: القرآن، يقول لولا ذلك لابتعتم الشيطان إلا قليلا وهم قوم اهتدوا قبل مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم ونزول القرآن، مثل زيد بن عمرو بن نفيل، وورقة بن نوفل وجماعة سواهما.
وفي الآية دليل على جواز القياس، فإن من العلم ما يُدرك بالتلاوة والرواية وهو النّص، ومنه ما يدرك بالاستنباط وهو القياس على المعاني المودعة في النصوص.

.تفسير الآية رقم (84):

{فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلا (84)}
قوله تعالى: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ} وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم وَاعَدَ أبا سفيان بعد حرب أُحد موسم بدر الصغرى في ذي القعدة فلما بلغ الميعاد دعا الناس إلى الخروج فكرهه بعضهم، فأنزل الله عز وجل: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ} أي: لا تَدَعْ جهاد العدو والانتصار للمستضعفين من المؤمنين ولو وحدك، فإن الله قد وعدك النصرة وعاتبهم على ترك القتال، والفاء في قوله تعالى: {فَقَاتِل} جواب عن قوله: {وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} فقاتل، {وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ} على القتال أي حضّهم على الجهاد ورغبّهم في الثواب، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبعين راكبًا فكفاهم الله القتال، فقال جل ذكره {عَسَى اللَّهُ} أي: لعلّ الله، {أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي: قتال الذين كفروا المشركين و{عسى} من الله واجب، {وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا} أي: أشدّ صولة وأعظم سلطانًا، {وَأَشَدُّ تَنْكِيلا} أي: عقوبة.

.تفسير الآية رقم (85):

{مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85)}
قوله عز وجل: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا} أي: نصيب منها، قال ابن عباس رضي الله عنهما: الشفاعة الحسنة هي الإصلاح بين الناس، والشفاعة السيئة هي المشي بالنميمة بين الناس.
وقيل: الشفاعة الحسنة هي حُسنُ القول في الناس ينال به الثوابَ والخير، والسيئة هي: الغيبة وإساءة القول في الناس ينال به الشر.
وقوله: {كِفْلٌ مِنْهَا} أي: من وزرها، وقال مجاهد: هي شفاعة الناس بعضهم لبعض، ويُؤجر الشفيع على شفاعته وإن لم يُشفّع.
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا سفيان الثوري، عن أبي بردة، أخبرني جدي أبو بردة، عن أبيه عن أبي موسى رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا جاءه رجل يسأل أو طالب حاجة أقبل علينا بوجهه، فقال: «اشفعُوا لتُؤْجروا ليقضي الله على لسان نبيه ما شاء».
قوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مقيتًا} قال ابن عباس رضي الله عنهما: مقتدرًا مجازيًا، قال الشاعر:
وذي ظعنٍ كففتُ النفسَ ** عنهُ وكنتُ على مساءته مُقيتًا

وقال مجاهد: شاهدًا: وقال قتادة: حافظًا، وقيل: معناه على كل حيوان مقيتا أي: يوصل القوت إليه.
وجاء في الحديث: «كفى بالمرء إثمًا أن يضيّع من يَقُوتُ ويِقيْتُ».

.تفسير الآية رقم (86):

{وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86)}
قوله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} التحية: هي دعاء الحياة، والمراد بالتحية هاهنا، السلام، يقول: إذا سلّم عليكم مُسلّم فأجيبُوا بأحسن منها أو رُدُّوها كما سلّم، فإذا قال: السلام عليكم، فقل: وعليكم السلامُ ورحمة الله، وإذا قال: السلام عليكم ورحمة الله، فقل: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، فإذا قال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فردّ مثله، رُوي أنّ رجلا سلّم على ابن عباس رضي الله عنهما، قال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ثم زاد شيئا، فقال ابن عباس: إن السلام ينتهي إلى البركة.
وُروي عن عمران بن حصين: أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليكم، فردّ عليه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «عشرٌ» ثم جاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله، فرّد عليه فجلس، فقال: «عشرون» ثم جاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فردّ عليه، فقال: «ثلاثون».
واعلم أن السلام سنة وردُّ السلام فريضة، وهو فرض على الكفاية، وكذلك السلام سنة على الكفاية فإذا سلّم واحدٌ من جماعة كان كافيا في السنة، وإذا سلّم واحدٌ على جماعة وردَّ واحدٌ منهم سقط الفرض عن جميعهم.
أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي، أنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محَمْشَ الزيادي، أنا أبو بكر محمد بن عمر بن حفص التاجر، أنا إبراهيم بن عبد الله بن عمر بن بكير الكوفي، أنا وكيع، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنهم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لا تدْخُلُوا الجنَّةَ حتى تُؤْمنُوا ولا تُؤمنُوا حتى تحابوّا، أولا أدلّكم على شيء إذا فعلتمُوه تحاببتم؟ أفشُوا السلام بينكم».
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا قتيبة، أنا الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن عبد الله بن عمرو أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيُّ الإسلام خير؟ قال: «أنْ تُطعمَ الطعامَ وتقرأ السلامَ على منْ عرفتَ ومَنْ لم تعرف». ومعنى قوله: أيُّ الإسلام خير، يريد أيُّ خصال الإسلام خير.
وقيل: {فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا} معناه أي إذا كان الذي سلّم مسلمًا، {أَوْ رُدُّوهَا} بمثلها إذا لم يكن مسلمًا.
أخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا زاهر بن أحمد، أنا أبو إسحاق الهاشمي، أنا أبو مصعب عن مالك عن عبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن اليهود إذا سلم عليكم أحدهم: فإنما يقول السَّامُّ عليكم، فقلْ عليك».
قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا} أي: على كل شيءٍ من رَدِّ السلام بمثله أو بأحسن منه، حسيبًا أي: محاسبًا مجازيًا، وقال مجاهد: حفيظًا، وقال أبو عبيدة: كافيًا، يقال: حسبي هذا أي كفاني.