فصل: تفسير الآيات (117- 118):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآيات (117- 118):

{إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لأتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118)}
قوله تعالى: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا إِنَاثًا} نزلت في أهل مكة، أي: ما يعبدون، كقوله تعالى: {وقال ربكم ادعوني} [غافر- 60] أي: اعبدوني، بدليل قوله تعالى: {إن الذين يستكبرون عن عبادتي} [غافر- 60]، قوله: {مِنْ دُونِهِ} أي: من دون الله، {إِلا إِنَاثًا} أراد بالإناث الأوثان لأنهم كانوا يسمونها باسم الإناث، فيقولون: اللات والعزى ومناة، وكانوا يقولون لصنم كل قبيلة: أنثىَ بني فلان فكان في كل واحدة منهن شيطان يتراءى للسدنة والكهنة ويكلمهم، ولذلك قال: {وَإِنْ يَدْعُونَ إِلا شَيْطَانًا} هذا قول أكثر المفسرين.
يدل على صحة هذا التأويل- أن المراد بالإناث الأوثان-: قراءة ابن عباس رضي الله عنه {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا إِثنًا} جَمْعُ جمعِ الوثن فصير الواو همزة، وقال الحسن وقتادة: إلا إناثًا أي: مواتًا لا روح فيه، لأن أصنامهم كانت من الجمادات، سّماها إناثا لأنه يخبر عن الموات، كما يخبر عن الإناث، ولأن الإناث أدون الجنسين، كما أن الموات أرذل من الحيوان، وقال الضحاك: أراد بالإناث الملائكة، وكان بعضهم يعبدون الملائكة ويقولون: الملائكة إناث، كما قال الله تعالى: {وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا} [الزخرف- 19] {وَإِنْ يَدْعُونَ إِلا شَيْطَانًا مَرِيدًا} أي: وما يعبدون إلا شيطانًا مريدًا لأنهم إذا عبدُوا الأصنام فقد أطاعوا الشيطان، والمريد: المارد، وهو المتمرد العاتي الخارج عن الطاعة، وأراد: إبليس.
{لَعَنَهُ اللَّهُ} أي: أبعده الله من رحمته، {وَقَالَ} يعني: قال إبليس، {لأتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} أي: حظًا معلومًا، فما أُطيع فيه إبليس فهو مفروضه، وفي بعض التفاسير: من كل ألف واحدٌ لله تعالى وتسعمائة وتسعة وتسعون لإبليس، وأصل الفرض في اللغة: القطع، ومنه الفرضة في النهر وهي الثلمة تكون فيه، وفرض القوس والشِّراك: للشَّقِّ الذي يكون فيه الوَتَرُ والخيط الذي يشد به الشراك.

.تفسير الآيات (119- 123):

{وَلأضِلَّنَّهُمْ وَلأمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا (120) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلا (122) لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا (123)}
{وَلأضِلَّنَّهُم} يعني: عن الحق، أي: لأغوينهم، يقوله إبليس، وأراد به التزيين، وإلا فليس إليه من الإضلال شيء، كما قال: {لأزينَنّ لهم في الأرض} [الحجر- 39] {وَلأمَنِّيَنَّهُم} قيل: أمنّيَنَّهم ركوبَ الأهواء، وقيل: أُمنيِّنَهَّم أن لا جَنَّةَ ولا نارَولا بعث، وقيل: أمنيّنَهَّم إدراك الآخرة مع ركوب المعاصي، {وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأنْعَامِ} أي: يقطعونها ويشقونها، وهي البحيرة {وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} قال ابن عباس رضي الله عنهما والحسن ومجاهد وسعيد بن المسيب والضحاك: يعني دين الله، نظيره قوله تعالى: {لا تَبْديلَ لخلقِ الله} [الروم- 30] أي: لدين الله، يريد وضع الله في الدين بتحليل الحرام وتحريم الحلال.
وقال عكرمة وجماعة من المفسرين: فليُغيرنّ خلق الله بالخِصاء والوشم وقطع الآذان حتى حرّم بعضهم الخصاء وجوزه بعضهم في البهائم، لأن فيه غرضًا ظاهرًا، وقيل: تغيير خلق الله هو أن الله تعالى خلق الأنعام للركوب والأكل فحرَّموها، وخلق الشمسَ والقمرَ والأحجارَ لمنفعة العباد فعبدوها من دون الله، {وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي: ربًّا يطيعه، {فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا}.
{يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ} فوعدُهٌ وتمنيتُهُ ما يوقع في قلب الإنسان من طول العمر ونيل الدنيا، وقد يكون بالتخويف بالفقر فيمنعه من الإنفاق وصلة الرحم كما قال الله تعالى: {الشيطانُ يعِدُكُم الفقرَ} [البقرة- 268] ويُمنّيهم بأنْ لا بعثَ ولا جنَّةَ ولا نار {وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا} أي: باطلا.
{أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا} أي: مفرًا ومعدِلا عنها.
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ}.
أي: من تحت الغُرف والمساكن، {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلا}.
قوله تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ} الآية. قال مسروق وقتادة والضحاك: أراد ليس بأمانيكم أيها المسلمون ولا أماني أهل الكتاب يعني اليهود والنصارى، وذلك أنَّهم افتخروا، فقال أهل الكتاب: نبيّنا قبلَ نبيّكم وكتابُنا قبل كتابكم فنحن أوْلَى بالله منكم، وقال المسلمون: نبيّنا خاتمُ الأنبياء وكتابُنا يقضي على الكتب، وقد آمنا بكتابكم ولم تؤمنوا بكتابنا فنحن أوْلى.
وقال مجاهد: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ} يا مشركي أهل الكتاب، وذلك أنهم قالوا: لا بعثَ ولا حسابَ، وقال أهل الكتاب: {لن تمسّنا النار إلا أياما معدودة} [البقرة- 80] {لن يدخل الجنة إلا من كان هودًا أو نصارى} [البقرة- 111]، فأنزل الله تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ} أي: ليس الأمر بالأماني وإنّما الأمر بالعمل الصالح.
{مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} وقال ابن عباس وسعيد بن جبير وجماعة: الآية عامة في حق كل عامل.
وقال الكبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما: لما نزلت هذه الآية شقّت على المسلمين وقالوا: يا رسول الله وأيّنا لم يعمل سوءًا غيرك فكيف الجزاء؟ قال: «منه ما يكون في الدنيا، فمنْ يعملْ حسنةً فله عشرُ حسنات، ومن جُوزي بالسيّئة نقصتْ واحدةٌ من عشر، وبقيتْ له تسعُ حسنات، فويل لمن غلبتْ آحادُه أعشارَه، وأمّا ما يكون جزاء في الآخرة فيقابل بين حسناته وسيئاته، فيلقى مكان كل سيئة حسنة وينظر في الفضل، فيعطي الجزاءَ في الجنة فيؤتي كلّ ذي فضلٍ فَضْلَه».
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، ثنا أبو بكر محمد بن أحمد العبدوسي، ثنا أبو بكر أحمد بن سليمان الفقيه ببغداد، ثنا يحيى بن جعفر بن الزبرقان والحرث بن محمد، قالا ثنا روح هو ابن عبادة، ثنا موسى بن عبيدة، أخبرني مولى بن سباع: سمعت عبد الله بن عمر يحدث عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأُنزلتْ عليه هذه الآية: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا بكر ألا أقرئك آية أُنزلتْ عليّ؟ قال: قلتُ بلى، قال: فأقرأنيها، قال: ولا أعلم إلا أني وجدتُ انفصامًا في ظهري حتى تمطَّيت لها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما لك يا أبا بكر؟ فقلتُ يا رسول الله بأبي أنت وأمي وأيُّنا لم يعمل سوءًا؟ إنا لَمَجْزِيُّون بكل سوء عملناه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمّا أنت يا أبا بكر وأصحابك المؤمنون فتجزون بذلك في الدنيا حتى تلقوا الله، وليست لكم ذنوب، وأمّا الآخرون فيُجمع ذلك لهم حتى يُجزوا يومَ القيامة».

.تفسير الآيات (124- 125):

{وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124) وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا (125)}
قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} أي: مقدار النقير، وهو النقرة التي تكون في ظهر النَّواة، قرأ ابن كثير وأبو جعفر وأهل البصرة وأبو بكر {يَدْخُلُون} بضم الياء وفتح الخاء هاهنا وفي سورة مريم وحم المؤمن، زادَ أبو عمرو: {يدخلونها} في سورة فاطر، وقرأ الآخرون بفتح الياء وضم الخاء.
روى الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق قال: لما نزلت: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} قال أهل الكتاب: نحنُ وأنتم سواء، فنزلت هذه الآية: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ} الآية، ونزلت أيضا: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا} أحكمُ دينًا {مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} أي أخلص عمله لله، وقيل: فوض أمره إلى الله، {وَهُوَ مُحْسِنٌ} أي: مُوحِّد، {وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} يعني: دين إبراهيم عليه السلام، {حَنِيفًا} أي: مُسلمًا مُخلصًا، قال ابن عباس رضي الله عنهما: ومن دين إبراهيم الصلاة إلى الكعبة والطواف بها ومناسك الحج، وإنما خُصَّ إبراهيم لأنه كان مقبولا عند الأمم أجمع، وقيل: لأنه بُعث على ملة إبراهيم وزيد له أشياء.
{وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا} صفيًا، والخلّة: صفاء المودّة، وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما: كان إبراهيم عليه السلام أبا الضيفان، وكان منزله على ظهر الطّريق يضيّف من مرَّ به من الناس، فأصاب الناسَ سَنَةٌ فحُشروا إلى باب إبراهيم عليه السلام يطلبون الطعامَ وكانت الميرة له كل سنة من صديق له بمصر، فبعث غلمانه بالإبل إلى الخليل الذي له بمصر، فقال خليله لغلمانه: لو كان إبراهيم عليه السلام إنما يريده لنفسه احتملنا ذلك له، فقد دخل علينا ما دخل على الناس من الشدة، فرجع رُسل إبراهيم عليه السلام، فمرُّوا ببطحاء فقالوا: إنا لو حملنا من هذه البطحاء ليرى الناس أنا قد جئنا بميرة، فإنّا نستحي أن نمرّ بهم وإبلنا فارغة، فملؤوا تلك الغرائر سهلة، ثم أتوا إبراهيم فأعلموه وسارة نائمة، فاهتم إبراهيم لمكان الناس ببابه، فغلبته عيناه فنام واستيقظت سارة وقد ارتفع النهار، فقالت: سبحان الله ما جاء الغلمان؟ قالوا: بلى، قالت: فما جاءوا بشيء؟ قالوا: بلى، فقامت إلى الغرائر ففتحتها فإذا هي أجود دقيق حُواري يكون، فأمرت الخبازين فخبزوا وأطعموا الناسَ فاستيقظ إبراهيم فوجد ريح الطعام، فقال: يا سارة من أين هذا؟ قالت: من عند خليلك المصري، فقال: هذا من عند خليلك الله، قال: فيومئذٍ اتخذه الله خليلا. قال الزجاج: معنى الخليل الذي ليس في محبته خلل، والخلة: الصداقة، فسُمي خليلا لأنّ الله أحبه واصطفاه. وقيل: هو من الخلة وهي الحاجة، سُمي خليلا أي: فقيرًا إلى الله لأنه لم يجعل فقره وفاقته إلا إلى الله عزّ وجل والأول أصح لأن قوله: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا} يقتضي الخلة من الجانبين، ولا يتصور الحاجة من الجانبين.
ثنا أبو المظفر بن أحمد التيمي، ثنا أبو محمد عبد الرحمن بن عثمان بن القاسم، ثنا خيثمة بن سليمان بن حيدرة الاطرابلسي، ثنا أبو قلابة الرقاشي، ثنا بشر بن عمر، ثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو كُنتُ متخذًا خليلا لاتخذتُ أبا بكر خليلا ولكنَّ أبا بكر أخي وصاحبي، ولقد اتخذ الله صاحبَكم خليلا».

.تفسير الآية رقم (126):

{وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا (126)}
قوله عز وجل: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا} أي: أحاط علمه بجميع الأشياء.

.تفسير الآية رقم (127):

{وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا (127)}
قوله تعالى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} الآية: قال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما: نزلت هذه الآية في بنات أم كُجّة وميراثهن وقد مضت القصة في أول السورة.
وقالت عائشة رضي الله عنها: هي اليتيمة تكون في حجر الرجل، وهو وليها فيرغب في نكاحها إذا كانت ذات جمال ومال بأقل من سُنَّة صداقها، وإذا كانت مرغوبة عنها في قلة المال والجمال تركها، وفي رواية هي اليتيمة تكون في حجر الرجل قد شركته في ماله فيرغب أن يتزوجها لدمامتها ويكره أن يزوجها غيره فيدخل عليه في ماله فيحبسها حتى تموت فيرثها، فنهاهم الله عن ذلك.
قوله عز وجل: {وَيَسْتَفْتُونَك} أي: يستخبرونك في النساء، {قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ} قيل معناه ويفتيكم في ما يتلى عليكم، وقيل معناه: ونفتيكم ما يتلى عليكم، يريد: الله يفتيكم وكتابه يفتيكم فيهن، وهو قوله عز وجل: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} قوله: {فِي يَتَامَى النِّسَاءِ} هذا إضافة الشيء إلى نفسه لأنه أراد باليتامى النساء، {اللاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ} أي: لا تعطونهن، {مَا كُتِبَ لَهُنَّ} من صداقهن، {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} أي: في نِكَاحِهنّ لمالِهنّ وجمالهنّ بأقل من صداقهن، وقال الحسن وجماعة أراد أن تؤتونهن حقهن من الميراث، لأنهم كانوا لا يُوَرِّثُون النساءَ، وترغبون أن تنكحوهن، أي: عن نكاحهن لدمامتهن.
{وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ} يريد: ويُفتيكم في المستضعفين من الولدان وهم الصغار، أن تعطوهم حقوقهم، لأنهم كانوا لا يُوَرِّثون الصغار، يريد ما يتلى عليكم في باب اليتامى من قوله: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} يعني بإعطاء حقوق الصغار، {وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ} أي: ويفتيكم في أن تقُوموا لليتامى بالقسط بالعدل في مُهورهن ومواريثهن، {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا} يُجازيكم عليه.

.تفسير الآية رقم (128):

{وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128)}
قوله تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} الآية، نزلت في عمرة ويُقال في خولة بنت محمد بن مسلمة، وفي زوجها سعد بن الربيع- ويقال رافع بن خديج- تزوجها وهي شابة فلما علاها الكِبرَ تزوّج عليها امرأة شابة، وآثرها عليها، وجفا ابنة محمد بن سلمة، فأتَتْ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فشكت إليه فنزلت فيها هذه الآية.
وقال سعيد بن جبير: كان رجل له امرأة قد كبرت وله منها أولاد فأراد أن يطلقها ويتزوج عليها غيرها، فقالت: لا تطلقني ودعني أقوم على أولادي واقْسِمْ لي من كل شهرين إن شئت، وإن شئت فلا تَقْسِم لي. فقال: إن كان يصلح ذلك فهو أحب إليّ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك، فأنزل الله تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ} أي علمت {مِنْ بَعْلِهَا} أي: من زوجها {نُشُوزًا} أي: بُغضًا، قال الكلبي: يعني ترك مضاجعتها، {أَوْ إِعْرَاضًا} بوجهه عنها وقلة مجالستها، {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} أي: على الزوج والمرأة، أنْ يصالحا أي: يتصالحا، وقرأ أهل الكوفة {أَنْ يُصْلِحَا} من أصلح، {بَيْنَهُمَا صُلْحًا} يعني: في القِسْمة والنفقة، وهو أن يقول الزوج لها: إنك قد دخلت في السن وإني أريد أن أتزوج امرأة شابة جميلة أوثرها عليك في القسمة ليلا ونهارًا فإن رضيتِ بهذا فأقيمي وإن كرهتِ خلّيْتُ سبيلك، فإن رضيتْ كانتْ هي المحسنة ولا تُجبر على ذلك، وإنْ لم ترض بدون حقها من القسم كان على الزوج أن يوفّيها حقها من القسم والنفقة أو يسرحها بإحسان، فإن أمسكها ووفّاها حقها مع كراهية فهو مُحسن.
وقال سليمان بن يسار في هذه الآية عن ابن عباس رضي الله عنهما: فإن صالحته عن بعض حقّها من القسْم والنفقة فذلك جائز ما رضيت، فإن أنكرته بعد الصلح فذلك لها ولها حقها.
وقال مقاتل بن حيان في هذه الآية: هو أن الرجل يكون تحته المرأة الكبيرة فيتزوج عليها الشابة، فيقول للكبيرة: أعطيتَك من مالي نصيبًا على أن أقسم لهذه الشابة أكثر مما أَقْسِمُ لك فترضَى بما اصطلحا عليه، فإن أبتْ أن ترضى فعليه أن يَعْدِلَ بينهما في القسْم.
وعن عليّ رضي الله عنه في هذه الآية قال: تكون المرأة عند الرجل فتنبوُ عينهُ عنها من دمامة أو كبر فتكره فرقته، فإن أعطته من مالها فهو له حل، وإن أعطته من أيامها فهو له حلٌّ {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} يعني: إقامتها بعد تخييره إياها، والمصالحة على ترك بعض حقّها من القسم والنفقة خيرٌ من الفرقة، كما يُروَى أن سودة رضي الله عنها كانت امرأة كبيرة وأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يُفارقها، فقالت: لا تطلقني وإنما بي أن أبعث في نسائك وقد جعلتُ نوبتي لعائشة رضي الله عنها فأمسكها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يقسم لعائشة يومها ويوم سودة رضي الله عنها.
قوله تبارك وتعالى: {وَأُحْضِرَتِ الأنْفُسُ الشُّحَّ} يريد: شُحَّ كلِّ واحد من الزوجين بنصيبه من الآخر، والشُّح: أقبح البخل، وحقيقتهُ. الحرص على منع الخير، {وَإِنْ تُحْسِنُوا} أي: تصلحوا {وَتَتَّقُوا} الجورَ، وقيل: هذا خطاب مع الأزواج، أي: وإن تحسنوا بالإقامة معها على الكراهة وتتّقوا ظُلمَها {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} فيجزيكم بأعمالكم.